الفصل الثاني

5.1K 118 7
                                    

الفصل الثاني


في أروقة مستشفى الجامعة الأردنية التعليمي، مجموعة من طلّاب الطبّ في امتحانهم العمليّ الأخير للسنة الخامسة ينتظرون في أحد ممرات المستشفى والتوتر يلفهم، يرتدون معاطفهم البيضاء متقنة الكيّ يخفون بها بعضا من ملابسهم شديدة الرسمية والتي ستكون شاهدة لهم أو عليهم أمام أساتذتهم الأطبّاء
جلست "زوزو" مع مجموعة صغيرة من زملائها لا تربطها بالواقع بهم سوى "الحالات المرضيّة" التي يناقشونها والتي لا تكون بالنسبة لهم سوى "مادّة للدراسة والبحث" وما إن تنتهي المناقشة الطبية وينتقلون هم لبعض الأحاديث العامة أو الخاصة حتّى تفقد هي اهتمامها بجلستهم فتعاود دفن رأسها من جديد بكتبها ومراجعها فتنغمس فيها ناسية كلّ ما يخصّها سوى كونها مشروع طبيبة عليه أن يكون ناجحا
بعد ما يقارب النصف ساعة أيقظها من انغماسها الشديد في أحد الكتب الخاصة بطبّ الأطفال -وهو ما ستقدّم امتحانها به اليوم "للأسف"- سماعها لاسمها إذ قد حان دورها للدخول إلى إحدى غرف المرضى حيث ستجد هناك بانتظارها اثنان من أساتذتها وأحد أفضل أطبّاء الأطفال في الأردن لتقييمها وتقييم أداءها
اتجهت زوزو بخطواتها ناحية مجموعة غرف الفحص التي تتم فيها تقييماتهم وتوجهت بناظريها لباب الغرفة التي من المفترض بها أن تدخلها، فتحت الباب بينما تلمح بطرف عينيها بعضا من زملاءها يتزينون بأشياء طفولية سخيفة كوجوه ضاحكة بجانب أسماء تعريفهم تشوه معاطفهم البيضاء أو يحملون بجيوبهم أقلاما ملونة برؤوس مبهرجة نطّاطة فيما اكتفت هي بمحاولة رسم ابتسامة تراها سخيفة على شفتيها تحاول بها كسر الجمود المرتسم على محيّاها... ابتسامة سرعان ما اختفت ما إن رأت مولودا حديثا هو ما ينتظرها على سرير الفحص إذ أدركت أنّ بياض معطفها لن يستمر ناصعا طويلا إذ سرعان ما سيصفرّ إمّا بقيئه المقرف أو أسوأ بتفريغ مثانته المقززة... وهذه التفاصيل المملة والمقرفة والسخيفة هي بالذات ما جعلت من هذا التخصص وهذا الامتحان الأثقل على قلبها!!!
بعد ساعات وبعد أن ودّعت زوزو زملاءها برسمية على أن تلتقيهم بعد عدّة اسابيع ليبدؤوا سنتهم السادسة والأخيرة، جاءتها مكالمة ما إن أنهتها حتّى فتحت باب سيّارتها وقد ازداد وجهها تجهما وشحوبا... حسنا... كان لا بدّ لهذا ان يحدث... يوما ... وقد آن لها أن تقتل أشباحها!
.................................................. .................................................. .................
أغلقت مي الهاتف مع والدتها مصرّة على رفضها لدعوة أهلها لهم غدا على الإفطار دون تقديم أعذار مقنعة لها فما الذي ستقوله... هل تقول أنّ رؤيته قد زلزلت كيانا روحيا هشّا حاولت بناءه لسبع سنوات... قد أبرزت لزوجها عيوبا ظاهرةً كانت قد اعتادتها منه حتى باتت وكأنّها لا تراها... قد عادت تناجيه وتشكوه إليه فلا تعي مرور الساعات حتّى ترى الشمس وقد بدأت تجرّ ذيولها بخيبة ممن هم مثلها لم يستغلوا نهار رمضان سوى بصلاة تؤديها دون أن تعي ما قالت أو فعلت بها حقا... لكن كفى... معتز انتهى من حياتها ولاشئ قد يعيد لها ما كان... ومن قال أنّها تريد أصلا... ألم يكن ذلك خياره ومن صنيع يديه...
قد كانت ولأسبوع منغمسة بالكامل ببحر من الذكريات، لكنّها اليوم والحمد لله على ذلك وبينما تعود بذاكرتها للحظات قد كانت بينهما جدا خاصة وحمّى الحنين تتلاعب بأوتار قلبها وذكريات جسدها حتّى صدحت المآذن بالله وأكبر فتصحو بضميرها على فجيعة وهول ما تفعل... لقد درّبت نفسها ومنذ شهور زواجها الأولى من فادي على إبعاد أشباح أية ذكرى لها مع معتز، ادّعت نسيانه وكأنّه لم يكن فهي لم تكن خائنة يوما ولا تريد أن تكون والأهم من كلّ هذا أنّها تضع مخافة الله دوما أمام عينيها... حسنا على الأقل مذ نضجت حقا... لكنّ زوجها للأسف لا يساعد!!
عادت مي إلى المطبخ لتكمل تحضير الأطباق العديدة التي كانت قد بدأت بإعدادها مبكرا فاليوم وبعد صحوة ضميرها وبعد أن أمسكت المصحف لتقرأ منه ما تيسّر لها حتّى قرأت قوله تعالى "لا يغيّر الله ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم" فعلمت أنّ الله قد أجاب دعاءها وتوسلها له للمساعدة على انتزاعه من نفسها فقرّرت أن تنعش القليل من علاقتها المتبلدة مع فادي فقامت بدعوة أهله على الإفطار تودّدا إليه، لكنّ بادرتها وللأسف قد جاءت بردّة فعل عكسية اذ أنّ زوجها غضب وثار عليها ولكنّه وكالمعتاد قد رضي بالأمر الواقع كحاله دوما في أيّ أمر يتعلّق بعائلته
شعرت به يدخل المطبخ فوقف متململا قبل أن يقول: مع مين كنتي تحكي؟
نظرت له وقال بنبرة حاولت أن تجعلها متلطفة: مع ماما... كانت بتعزمنا بكرة بس أنا اعتذرت منها
تكدّر وجهه وقال باستياء: طيب ليش؟
أجابته فيما تحاول جاهدة طرد صورته بعيونه المعذّبة عن ذهنها: ما إلي مزاج... بعدين... امممم... شو رأيك نطلع بكرة نفطر برة أنا وأنت نحجزلنا بشي مطعم مرتب ... يعني تغيير جوّ
هزّ رأسه موافقا بتوهان فاقتربت منه بتحفيز مضنِ من عقلها لتقبله من شفتيه وكلّها يرتعد بالرفض لكنّ هذا الرفض سرعان ما استحال إلى نفور بينما تتذوق طعم السجائر على شفتيه... رأته يبتعد مرتبكا فيما تتسائل في نفسها إن كان عليها أن تعيد على مسامعه ذات المحاضرة التي تعيدها وتكرّرها على مسامعه في كلّ رمضان عن عظم ذنب ما يفعل بعدم الصيام أم عليها أن تسكت فقط، لتقرّر من بعدها أن تتجاهل الأمر كلّه فكلّ ما سيفعله هو بعض الصراخ والشتم والغضب ليلحقة وبعدها مباشرة باسترضاء مذلّ يطلب به عفوها ورضاها ومسامحتها مؤكدا عليها عدم التحدث بهذا أمام والده ليتبع كلّ ذلك بقبلة يرجوها بعدها الصبر... وكيف لا يفعل!!!
عادت مي مرة أخرى لعملها تستغفر بداخلها لذنبه وذنبها ليقاطعها من جديد مستفزا صبرها هذه المرة... صبرا تتمنى لو أنّها قد امتلكته سابقا ربما ما كانت لتصل لما قد وصلت إليه: مي... اممم... الشب اللي شفنا آخر مرة زرنا فيها أهلك... الشب الأشقر الحليوة... وجهه مش غريب عليّ... بتعرفي مين هو؟
مستفز... مستفز... مستفز حقااا... بقدر ما أحرق سفن محاولات النسيان المتخلخلة التي حاولت بناءها بسؤاله أرادت احراقه فنظرت له بتحدّي وغضب كانت قد بدأت تنسى أنّها تمتلكه... فعلى ما يبدوا أنّ ذكره حتّى قادرة على إشعال فتيله... قالت: معتز... طليقي!!
شاهدت المفاجأة ترتسم واضحة على ملامحه ليهزّ بعدها رأسه قليلا بمزيد من التوهان وقليل من الخيبة... كما قالت... لا يساعد أبدا!!!
.................................................. .................................................. .................


عندما يعشقون صغاراً(الجزء الثاني من سلسلة مغتربون في الحب)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن