*****
جرَّني إلى الداخل, ثم أسقطني أرضاً: أما الباقين فاحتشدوا حولنا, أمي أمسكت بي, وجذبتني إليها, وجدتي أصبحت تفصل بيننا, وبينه ؛لكنها لم تستطع كبح جِماحِ غضبه, باغتها, وصفعني على وجهي, دَفَعته عني بقوة وساعدتها عمتي منى.
اصطحبتني أمي إلى غرفة عمتي, لم تنزل دموعي بسبب الألم؛ بل لأنه قلل من شأني أمام جدتي, وعمتي. كانت المرة الأولى التي يصفعني بها أمام احد. كانت أمي تمسح دموعي تارةً وتمسح على رأسي تارةً أخرى. تكلمت وكلماتي تخرج متقطعةً من شدةِ شهقاتي:
-"لماذا لا يحبني؟ لِمَ يُعاملني كمشردة؟ لم أعد أشعر أنه والدي "
-"حياة: أرجوكِ يا ابنتي لا تُفكري هكذا؛ بل من شدةِ حبهِ لك يخاف أن تخطئي "
-" وما الخطأ في الجلوس مع صديقتي؟, وتناول الحلوى التي حُضرت من أجلي. "
قاطعتنا عمتي منى بطرقها على الباب, وقالت:
-"عزيزتي باتي ستبقي هنا هذه الليلة"
قالت أمي بتعجب:
-" ولِمَ لتبقى؟! "
-"لا أعلم, هكذا أتفق أخي, وأمي "
أردفت:
-"وزياد ينتظرك الآن في الأسفل؛ لتُغادرا"
همَّت أمي بالوقوف, احتضنتني, وقالت:
-"انتبهي لنفسك, سيُحل كل شيءٍ غداً, سيعتذر منكِ أعدكِ يا أبنتي"
وشرعت بالخروج, انطلقتُ إلى النافذة أراقبهما, كان أبي حاد الملامح مغتاظ, أما والدتي يغلب عليها الحزن, واليأس. بعد أن غادرا جلستُ على الأرض, تحت النافذة, وانسكبت دموعي قهراً, على ما أًعايشه منذ خمس سنوات. كيف لحنونٍ كأبي أن ينقلب إلى هذا الشخص الهمجي المتوحش؟.
بعد حين, أتت جدتي تُقبل رأسي, وتمسكني بيديها؛ لأهم واقفةً, وكالعادة واستني بكلماتها الرقيقة القريبة من القلب, ثم ذهبنا إلى المطبخ على نية تحضير السيريلاك: الوجبة الوحيدة التي لا زلت أتناولها بنهم, وبالخفية عن والدي الذي يؤذيني بكلامه, واستهزاءه من عاداتي الطفولية.
أنهيت وجبتي, وشاهدنا التلفاز معاً, كان يُعرض عليه فيلم شبابي, أين أبي عني؟ أوه... حتى وهو بعيد لا يخرج من عقلي, متى سيعود إلى عهده يا تُرى؟ أسكت ضجيج أفكاري صوت عمتي منى:
-"بتونيا! أتريدين الخروج إلى حديقة المنزل لنتبادل الهموم؟"
-"من؟ أنا؟!"
-"منى: لا, أمي"
-"بتونيا: لكن أبي, إذا علم بذلك..."
جدتي مقاطعةً لحديثي:
-" لا عليكِ منه, من سيُخبره؟ هيا يا ابنتي أُخرجي ورفهي عن نفسك"
جلسنا حول الطاولة نحتسي النسكافيه, ونتبادل الأحاديث, نسينا أنفسنا, وضحكنا, تبدل وجهي الساخط إلى البشوش الضاحك.
صوت رنين الهاتف, ابتسمت عمتي واستأذنت, بالتأكيد هذا أحمد خطيبها,
يالسعادتها! أهكذا يكون حال من يُحب؟ الحب بمفهومي ليس مُكتمل مع أنني أقرأ الكثير من الروايات الرومنسية, لكنني لم أجد شخصاً يستحق الحب, أو ربما لأنني لا زلت صغيرة على ذلك.
ألا يُحب الصغار؟, هه وما شأني بالحب, وبالأطفال؟, لِمَ أحاور نفسي بغباء؟ وإذا فكرت لوهلةٍ أن أُحب: سيدفنني والدي وأنا على قيد الحياة, ومن يستحق أن يستحوذ على قلبي؟ حتى أبي أود أن أُخرجه منه, لا أعلم كيف يظهر والدي حتى بحواري الداخلي؟.
ضحِكتْ على سذاجتي.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, صوتُ صفير في هذا الوقت المتأخر من الليل, استدرت يميناً, ثم يساراً, نهضت, ولملمت فناجين النسكافيه, واتجهت إلى المدخل, أوقفني صوتٌ شَلَّ أطرافي عن الحِراك:
-"هي, يا عقلة الإصبع. ماذا تفعلين في الخارج في هذه الساعة المتأخرة؟"
التفت إلى الوراء, ورفعت بصري لمصدر الصوت, لم يُساورني الشك في أن يكون شقيق سلمى المُتغطرس, هو صاحب الصوت:
-"عفواً سيد شرشبيل, وما شأنك؟ "
ضحك بسخرية, وقال:
-" كنت أنتظر أن تُطلقي علي( صاحب الظل الطويل) لكن شرشبيل أعجبني أيضاً, يدل على وجلك مني يا سنفور مفكر, واعترافك بقصر قامتك"
استشطت منه غضباً, وقلت:
-" كلُّ ذي عاهةٍ جبار"
أكملت طريقي إلى المنزل, وأنا أشتمه, كانت عمتى منى تواصل الحديث إلى أحمد. أخذت التابلت اللوحي ودخلت إلى الإنترنت؛ أبحث عن وصفات, ومأكولات تُساعد في طول القامة, أمضيت بعض الوقت أستكشف, ثم اتجهت إلى المطبخ, قمت بسلق عشرين بيضة, وفي تلك الأثناء كنت أتناول البازيلاء, والموز, الملفوف, مُشتقات الألبان, والأجبان, البطاطس, كل شيءٍ له علاقة بالطول, وكانت الخاتمة للبيض. كنت أشعر بالامتلاء لكنني مصرة على أن يزيد طولي بليلةٍ واحدة.
كانت عمتي قد أنهت حديثها على الهاتف, جالستها وتابعنا أحاديثنا. أوه أشعر بأني سأتقيأ, انطلقت مسرعةً إلى الحمام؛ أخرج كل ما ابتلعته, أمضيت ساعةً في الذهاب والعودة من الحمام, أصابني إسهال شديد (أجلكم الله) معدتي تئن من شدة الألم, انحلَّ جسدي, وفجأة أصابتني الحمى, وأشتد علي المرض بسرعةٍ قياسية.
عندما استيقظت وجدت نفسي بالمستشفى, تُحاوطُني عائلتي, والدتي تجلس إلى جانبي, وتُمسك بيدي, جدتي تُمسك بكتاب الله وتتلو منه, أبي يقف محاذاة النافذة, ويبدو عليه القلق, أما عمتي فلا تزال ممسكةً بهاتفها, وتقوم بالبث المباشر لأحمد, شددت على يد أمي, وطلبت منها بصوتٍ متقطع كأساً من الماء.
-"حياة: الحمد لله, استيقظت "
أخذت تُقبل يداي, ووجهي, اقترب أبي مني فأفسحت له أمي حيِّزاً للوصول إلي, توترت, واضطربت, أمسك بيدي فسحبتها, قلبي ينتفض خوفاً منه.
قال بقلة حيلة:
"ابنتي باتي, وحيدتي, ونور عيناي, أرجوكِ سامحيني, قسوت عليكِ كثيراً, لم أقصد, تعلمين أن كل ما أفعله خوفاً عليكِ "
غصَّ بكلماته, وتسابقت دموعه بالانهمار, ربتت أمي على كتفه, واصطحبته خارج الغرفة.
سألت باستغراب:
-"ماذا حدث يا عمتي؟ لِمَ أنا هنا؟!"
أجابت:
-"تسمم غذائي, أجروا لكِ غسيلً للمعدة"
تذكرت أنني لم أترك شيئاَ إلا وتناولته؛ بهدف زيادةِ الطول, أوف أشعر بغبائي بسبب المتخلف العقلي ذاك.
-"منى: هل كنت جائعةً إلى هذا الحد يا باتي؟"
قالت هذا وضحكت, لم أجد جواباً للرد عليها, فبادلتها الضحك, ووضعت رأسي على الوسادة, أغمضت عيناي, لم أكن نائمة: كنت أستمع لِما يقولونه, لا أخفيكم, أعجبني خوف أبي وقلقه علي, شعرت بحبه لي.
في الصباح غادرنا المستشفى إلى المنزل, كان الهدوء يعم المركبة طوال الطريق, عند وصولنا طلبت الإذن, واتجهت إلى غرفتي, ناداني والدي, لوهلةٍ جفت الدماء بعروقي, فكرت بداخلي أنه سيُكمل ما لم يتممه البارحة: من ضربٍ, وصراخ.
-"بتونيا اجلسي بقربي يا أبنتي, أريد أن أتحدث إليكِ"
جررت قدماي إلى مكان تكومه, وجلست, قال:
-"صغيرتي الجميلة أعتذر منكِ على ما بدر مني, أعلم أنني بالغت في حمايتك, وحسابك, لكن لم يكن هدفي أن أبعثك بيديّ للإنتحار."
-"أنا..."
أسكتني بقوله:
-"باتي الصغيرة..سامحيني, أعدك أن أدرس تصرفاتي معك, وأن لا يتكرر ما حصل البارحة, أنتِ أول فرحتي, مدللتي. أتذكرين كيف كنتِ لا تفارقينني في صغرك؟ كيف كنتِ تنتظرين قدومي بفارغ الصبر؛ لتسردي علي ما حدث في يومك؟ اشتقت لتلك الأوقات يا باتي."
كان يتكلم وعينيه ممتلئةٌ بدموع السنين, استغربت طريقة كلامه, وهدوءه في الحديث, فجأةً أحاطني بذراعيه, وقال:
-" كنت لن أسامح نفسي لو تأذيتِ, عزيزتي أنتِ بهجةُ حياتي"
لم أستطع منع دموعي من الإنهمار, مرَّ وقتاً طويلاً على معاملةِ أبي القاسية معي, هل هذا ما يُدعى (بصفحةٍ جديدة)؟
أنت تقرأ
بتونيا زهرة المجرة 🌸
Romanceرواية بتونيا "زهرة المجرة" pdf تأليف نعمه الزعبي.. رواية اجتماعية رومنسية، ستأخُذكَ بعيداً عن عالمِك حتى و إن كنت لا تُحِبُ القراءة؛ فستُعجِبُك روايتي هذه، ستذهبُ معها برحلةٍ طويلة نوعاً ما، لكنك ستُحِبها ستعيش تفاصيلها، ستُضحكُك و تُبكيك، وربما تك...