16

65 6 0
                                    

                               *****
كانت ليلتي قاسية يا رفاق: الشوارع فارغة, المطر لم يتوقف, تشنجت أطرافي من البرد, وتبللت كثيراً, أصبح الماء يخر من كامل جسدي, نظرت إلى ساعتي, لا زال الوقت باكراً على طلوع الصباح, كان هذا يومي الأول في التشرد, الظلام مخيف, بل مخيف جداً.
أتعلمون؟ تعلمت درساً صعباً, مهما كان والداك قاسيان أفضل بكثير من الوحدة بالشوارع المُظلمة. أعتذر عن كل ما قلته عن أبي, أنا فعلاً أشعر بالخجل, يا ليته يعود ويسجنني في غرفتي, ليضربني كيفما شاء, ليحرمني من المدرسة ومن صديقاتي, أبيع عمري ليعود هو وأمي إلى حياتي.
جررتُ حقيبتي, وسِرت بعد أن توقف المطر, كانت قدماي تجرانني نحو منزلنا, تسحباني إلى ذكرياتي, بيتي الذي لم أُفكر يوماً أنني سأُصبح غريبة عنه, قبل أسبوع زرته دون أن تدري عمتي, حديقة أمي ذابلة, أزهارها ماتت, أشجارها تيبست, رحت أرويها وأعتذر لها عن كل شيء مات مع والداي.

تعبت من المشي, ومن البكاء, تعبت من حياتي, وصلت منزلي بشِق الأنفس, كانت سيارة وسيم أمام الباب, أسرعت خُطاي ثم نظرت من شباك السيارة, الظلام حالك, والماء يرسم خطوطاً على النافذة, رفعت يدي أطرق النافذة؛ لأتأكد من وجوده بالمركبة, و الحمد لله أنه بداخلها, أدخلني إلى السيارة, كانت حالتي يُرثى لها, أبحث عن القليل من الدفء, بعد أن ارتديت معطف وسيم وانكمشت على نفسي, بدأت أستعيد حرارة جسدي الطبيعية, رفعت رأسي متجاهلةً نظرات وسيم, ثم أسندته على ظهر الكرسي ونمت.
استيقظت على صوت رنين هاتف وسيم, مسحت عينيَّ بشدة أسترجع ليلة الأمس, جلست باعتدال, وهززت كتف وسيم, فأستيقظ فزِعاً:
"ماذا حدث؟ هل أنتِ بخير؟"
-"بتونيا: بخير, هاتفك يرن"
التقط هاتفه مُتثاقلاً:
"سلمى في البداية صباح الخير, نعم وجدتها"
ثم مد هاتفه لي, أخذته وقلت:
"لا تقلقي يا سلمى, أنا بخير"
-"سلمى: أرجوكِ عودي, لا تتصرفي بغضب يا صديقتي, تعالي أنا سأحميكِ ووسيم أيضاً"
-"بتونيا: هل كنتِ تعلمين بقصتي؟ ألهذا كنتِ تصرين على خطوبتنا؟"
-"سلمى: لا والله يا باتي, تعرفين أنني لا أستطيع أخفاء أي شيء عنكِ, و والله أنني أشعر بالأسى لحالك, أيُعقل أن تكوني سيئة الحظ  لهذه الدرجة؟ أنا حقاً آسفة لما يحدث لك, لكن أرجوكِ عودي, سأنتظركِ"
-"بتونيا: لا يا سلمى, لقد أخذت قراري, سأذهب لمركز الأيتام, هذا المكان الوحيد الذي يجب أن أبقى به, ومن المفترض أن أكون هناك منذ سبعة عشر عاماً, لكن هذا قدري"
أخذ وسيم الهاتف مني, ثم قال لسلمى:
"نتحدث عندما أعود عزيزتي, يجب أن أُغلق"
ثم نظر نحوي؛ ليتأكد من قراري.
-"بتونيا: لا أستطيع أن أُجادلك يا وسيم, أرجوك, لنذهب إلى المركز "
-"وسيم: لا تفعلي هذا؛ لتعاقبيني, لم أستطع إخبارك, حاولت كثيراً لكنني استصعبت أنا أراكِ على هذا الحال, خاصةً بعد وفاة والديكِ, لم أشأ أن أُعذبكِ أكثر, لكن حدث ما حدث, أرجوكِ سامحيني لنعد إلى المنزل الآن"
تنهدت تنهيدة طويلة ثم أجبت:
"وسيم صدقاً أشكرك على معروفك معي, أنت وعائلتك, بفضلك استعدت زياد, أتعلم؟ حقاً أشكرك؛ فبسببك أحببت أبي, لم أكن لأسامح نفسي لو مات وأنا أبغضه, ثم إنني أُريد أن أُجرب حياةً جديدة, نعم أخاف, لأنني سمعت الكثير من القصص عن دور الأيتام, لكنني أُريد أن أُجرب, أُريد أن أُصبح صلبة, أن أقف على قدميَّ لوحدي"
-"وسيم: لن أترككِ, لن أفعل هذا, سأدعك تجربين, لكنني سأبقى إلى جانبك. أتدرين؟ لم أتشبث بأحد كما فعلت معكِ, أنتِ الشخص الوحيد الذي تمسكت به إلى حد التعب, ومع هذا أحب أن أتعب من أجلك "
فرحت, لكنني لم أُظهر لهٌ ذلك.
-"بتونيا: نتكلم في هذا لاحقاً, هيا لنذهب"
-"وسيم: دعينا نتناول طعام الإفطار أولاً"
-"بتونيا: كما تريد, معدتي تئن من شدة الجوع"
-"وسيم: لو فتحتِ هاتفك البارحة كنا تناولنا الطعام معاً على الأقل"
ابتسمت ورتبت ملابسي, وحجابي, ثم تناولنا الطعام بنهمٍ كبير, منذ مدة لم أشعر بفضولي نحو الحياة, لم أشعر بالجوع, بالأمل, لكن سأتحدى الحياة وأعيش, سأعيش لنفسي.
وصلنا دار الأيتام أخيراً, أشعر أنها ستكون أيام جيدة, ثم الخيرة فيما إختاره الله, تذكرت دفتري, سأفتحه؛ لأرى وصية والداي لليوم:
(أيها الشاكي وما بك داء  * كن جميلاً ترى الوجود جميلا)
ابتسمت برضا ثم رنوت نحو وسيم, كان مرتبكاً قليلاً, وأشعر أنه لم يُحبذ الفكرة, لكن يجب أن يعتاد, لا أستطيع أن أكون حملاً عليه, يكفيه والدته وأخته.
-"بتونيا: هيا إذن"
دخلنا إلى غرفة المديرة المسؤولة عن الدار, رحبت بنا, كانت بشوشة الوجه حسنة المظهر, سردتُ عليها حكايتي؛ فأشفقت على حالي, ووعدت أن تُساعدني, لا أُخفيكم الموضوع صعب قليلاً؛ فأنا بعد عدة أشهر سأدخل سن الثامنة عشر, وسأظطر للخروج إلى الشارع مرةً أخرى هذه قوانينهم, أخبرتني المديرة أن قريبها يعمل في التنمية الاجتماعية, وستطلب مساعدته, باشرت هي باتصالاتها, أما أنا فاصطحبتني إحدى المشرفات إلى الغرفة التي سأبقى بها, الفتيات هنا لطيفات جداً, أخذت سريراً في إحدى الغرف, أصبحت أنا الفتاة الرابعة في هذه الغرفة, وضعت أغراضي ورتبت ملابسي, ثم عدت لأرى وسيم, كان لا يزال برفقة المسؤولة عن النزل.
بعد أن قبلوني في الدار, اضطررت لتوديع وسيم, كان عناقي له طويل, من الآن لن أستطيع رؤيته كما يحلو لي, فهنا النظام أهم من كل شيء, والقوانين صارمة كما أخبرنني الفتيات اللواتي يُشاركنني الغرفة, خرجت معه إلى الحديقة, أمسكت يديه, وقلت:
-"الآن تستطيع أن ترتاح وتركز على اختباراتك, سأكون بخير.. لا تقلق"
-"وسيم: عديني يا باتي, ستُخبرينني بكل ما يحصل هنا, لن تُخفي عني شيء "
-"بتونيا: لا تخف, ماذا سيصيبني أكثر مما مررت به؟ "
أردفت:
" أرجوك طمئن جدتي عني, وسلمى أيضاً, ولا تتجادل مع والدتك من أجلي, تعلم أن الوالدين من أكبر الدعامات لحياتنا"
-"وسيم: كما تشائين يا عقلة الإصبع"
-"بتونيا: وسيم شكراً "
-"وسيم: بتونيا أحبكِ كثيراً, اعتني بنفسك من أجلي"
ثم انسحب إلى مركبته بسرعة, عدت إلى الداخل, كان البيت الذي أسكنه يتكون من ثمانية فتيات, أما المشرفة عنا فكانت مزعجة قليلاً, لكن لا بأس, هناك الكثير من الفتيات هنا في هذه البيوت يُعانينَّ مما أعاني, هذا يُشعرني بالرضا قليلاً.
عدت إلى غرفتي, كانت الفتيات يتجمعن على السرير المقابل لسريري, نظرت إليهن متسائلةً:
"ماذا يحدث هنا؟"
ردت إحداهن:
"جئنا لنتعرف عليكِ, ونعلم ما الَّذي أودى بك إلى هنا؟"
-"كم عمرك؟"
-"هل والداكِ على قيد الحياة"؟
-"من هذا الشاب الذي كان يرافقك؟"
-" هل أنتِ مرتبطة حقاً؟"
-"هلَّا توقفتن عن طرح الأسئلة؟ ستهرب منا الآن"
كانت الأعمار متفاوتة, من الثانية عشر إلى الثمانية عشر.
-"بتونيا: لا عليكِ, سأُجيبكم اسمي بتونيا..."
قصصت عليهن حكايتي وتعاطفن معي كثيراً, ثم أصبح دورهن في الحديث, طالت جلستنا, لا أخفيكم كسرت قلبي  قصصهن, حمدت الله على حالي كثيراً, قاطعتنا المشرفة لتدعونا إلى طعام الغداء, رافقتهن وتناولنا طعامنا, كانت المشرفة تنظر نحوي بغرابة, لا أعلم ما بها, على كُلِ حال, أُريد أن أنام, أخذت حمَّاماً سريعاً, ثم ذهبت إلى سريري, لقد تعبت كثيراً, لم أضع رأسي على الوسادة بعد, ورحت أغط بنومٍ عميق وهانئ.
                               *****
ودعتها وأسرعت إلى سيارتي؛ خوفاً من أن ترى دموعي التي تتجمع بمحاجري, عدت إلى البداية, بعد كل هذا القرب منها سأعود لألتقيها بإذن, أو واسطة. رجعت إلى منزلي, كانت أمي تجلس في غرفة الجلوس, لم أخبركم, لم تسأل عني منذ البارحة, تُفكر أنها تُعاقبني, تجاهلت وجودها وذهبت لغرفتي, رميت بجسدي على سريري, حضنت وسادتي, ونمت.

بتونيا زهرة المجرة 🌸 حيث تعيش القصص. اكتشف الآن