21

61 5 0
                                    

                                *****
أتمتلك قلباً من حجر؟ أيُعقل أن يتغير الإنسان ويتبدل حاله بعدة أسابيع, لا أدري كيف يطاوعها قلبها أن تقسو علي؟ ماذا سأفعل الآن؟ لو أنرت أصابعي العشرة لها لن ترضى, أعرفها عنيدة؛ ستُضحي بنا من أجل رزان, ومن أجل أمي.
-"زيد: يكفي يا وسيم, ألم تتعب من التفكير؟ دعنا ندخل إلى المنزل, لقد اختنقت هنا"
-"وسيم: أُفضل الإختناق هنا على الإختناق في الداخل"
-"زيد: تقصد رزان ؟"
-"وسيم: كيف سأتركها دون أن أحمل ذنبها؟"
-"زيد: الآن يا وسيم تقول هذا؟ كان عليك الرفض من البداية, كنا لن نعيش هذا كله"
معه حق, ماذا أقول غلطة الشاطر بألف.
إنبلق الباب وظهرت منه سلمى تصرخ وتستنجد:
" أخي رزان حبست نفسها في غرفتك, وتهدد بالإنتحار"
ها هو الكرت الذي تضغظ علي به, هل سأعيش عمري أداري خاطرها خوفاً من تحملي لذنب موتها؟
وبعد نصف ساعة من التوسل والرجاء حتى قررت الخروج من غرفتي, تتلاعب بالجميع بأصابعها, اعتذرت منها مُجبراً, وسمعت لسخافاتها مطولاً حتى امتلأت, ثم تملصت بصعوبة متحججاً بسفري, وذهبت لغرفتي أكمل التفكير في مشاكل حياتي.
استيقظت على صلاة الفجر, أتممت صلاتي ودعوت الله كثيراً أن يجد لي مخرجاً من هذه الورطة, ثم أخذت حقيبتي وودعت أمي والجميع, وخرجت لأصطحب زيد من منزله.
وصلنا المدينة التي تقطن بها الفتاة التي باعتها لزياد, ثم بحثنا عن فندق يناسب ميزانيتنا, وأخذنا غرفةً بسريرين لثلاثة أيام, أول عمل كان لنا أن نبحث عن اسمها في مواقع التواصل الإجتماعي, وكان بحثنا عبثاً, سنرتاح اليوم ونبدأ البحث عن اسمها بدوائر الأحوال المدنية.
-"زيد: عندي فكرة ربما تنفع"
-"وسيم: لتكن جيدة أرجوك, أريد أن أنتهي من هذا الموضوع سريعاً"
-"زيد: هناك مجموعات للبحث عن المفقودين على الفيسبوك, ما رأيك أن نسأل عنها هناك"
-"وسيم: أعجبتني الفكرة, لكن ماذا سنكتب؟"
-"زيد: نكتب أننا نبحث عنها لنوصل إليها أمانة مهمة وضرورية"
-"وسيم: هيا ابدأ على بركة الله"
في اليوم التالي خرجنا للبحث وتعلمون أن الدوائر الحكومية دوماً ممتلئة, والأمور تسير ببطء شديد, طبعاً لم نعثر على شيء لا عن طريق التواصل الاجتماعي, ولا عن طريق الدوائر الحكومية, عدنا إلى الفندق خاليين الوِفاض, وكذلك الأيام الأربعة التالية, حتى كدت أفقد الأمل.
-"زيد: وسيم يا وسيم تعال وانظر"
رحت أركض نحوه بفزع:
"ماذا حدث؟ هيا تكلم"
نظر نحوي وابتسامة النصر تعتلي شفتاه, ثم قال:
" وجدنا حنان"
وكأن هذا اليوم يوم ميلادي, وكأنني أنا من سأجد والدتي, لم أستطع الانتظار, أخذت زيد وتوجهنا إلى العنوان الذي أخذناه من الفتاة التي تقول أن حنان والدتها, عندما وصلنا إستقبلتنا الفتاة, وأدخلتنا إلى غرفة الضيوف ثم ذهبت لتُنادي والدتها.
كنت أنتظر قدومها بفارغ الصبر, حتى زيد كان يشعر بالحماس كثيراً, اللهم إجمعنا بضالتنا, بعد دقائق أتت امرأة على مشارف الثلاثين من عمرها, أنيقة جداً, لكنني لم أستلطفها, أشعر أن بها شيئاً غريباً ينفرني منها,
ألقت التحية وجلست, ثم قالت:
"تفضلا, لقد أخبرتني ابنتي أنكما تبحثان عني, وأن هناك أمانة لي معكما"
ارتبكت, كيف سأبدأ كلامي الآن, ساعدني زيد في بداية الحديث:
"نبحث عن شخصٍ تعرفينه حق المعرفة"
-"حنان: ومن هذا الشخص؟"
-"وسيم: صديقتك سعاد التي شاركتك السكن في غربتكِ"
تغيرت ملامح المرأة المتسائلة بسرعة قياسية, إضطربت وتوترت ثم قالت:
" ليس لدي ما أخبركما به, هيا عودا من حيث جئتما"
انتفضت واقفاً وقلت:
"لا تُريدي أن أفضحك طبعاً, هيا تكلمي أين سعاد؟ وإلا أخبرت زوجك وأولادك"
أجابت بتوتر شديد:
"اجلس أرجوك, دعنا نتحدث بروية "
عدت إلى مكاني منتظراً ما ستخبرني به, ثم بدأت:
" ليس لدي صديقة تسمى سعاد, هذا الاسم اختلقته؛ كي أخفي ما فعلت, الطفلة لم تكن لصديقتي"
-"زيد: هل أنتِ أمها؟"
-"حنان: لا, لست والدتها, كنت أحتاج إلى الكثير من المال؛ لأسدد ديوني قبل أن أعود إلى مدينتي, كنت شابة وأحب تجربة كل شيء, لم أشعر سوى بالديون تزيد وتكبر, عندما زُرت حياة مرة أخبرتني بمشكلتها: فدارت في دواخلي فكرة, قررت أن أنفذها"
-"وسيم: ماذا فعلتِ؟ هيا انطقي"
-"حنان: أخبرتها أن صديقتي حامل, ولا تستطيع الإجهاض, و تريد أن تتخلص من طفلتها مقابل المال, ثم خرجت لأدعها تفكر, بعد ذلك أخبرتني بقبولها وزوجها المقايضة, عندما اقترب موعد ولادة حياة الكاذب بحثت في إحدى المناطق عن امرأة ولدت حديثاً, ثم وجدت"
-"وسيم: سرقتِ الطفلة؟"
انهارت من البكاء ثم قالت:
" أرجوك لا تخبر زوجي وأولادي, لم أكن أعي ما أفعله حينها, ضاقت بي السبل "
-"وسيم: أتعلمين؟ أود أن أبرحكِ ضرباً, أن أُهشم وجهك, أن أُشتت شملكِ, أتعلمين ماذا فعلت بهذه الطفلة؟ أتدرين ماذا حل بها؟ كيف استطعتِ النوم؟ كيف تجرأتِ على إخفاء الحقيقة؟ ألم يؤلمك قلبك يوماً على أهلها؟ ألم تضعي نفسكِ مكان أمها؟ أليس لديك قلب؟"
-"حنان: أرجوك سامحني, سامحوني جميعاً لقد خفت, كيف سأخبر أهلي بما فعلت؟ حاولت كثيراً ولم أستطع"
-"زيد" دعينا من كذبك الآن, لن تُجدي دموعك بشيء, أخبريني أين سنجد أهلها؟"
-"حنان: لا أعلم مكانهم؟ كل ما أعرفه اسم الأخت الكبرى للطفلة, عندما سرقتها رأتني؛ فحاولت أن أُفهمها أنني صديقة والدتها, سألت عن اسمها الكامل وأجابتني, هذا ما أستطيع مساعدتكما به"
-"وسيم: أين منزلها؟ أتذكرين اسم أختها بالكامل ولا تذكرين منزلها"
-"حنان: سرقتها من السيارة عندما رأيت والدتها تصطف أمام إحدى الصيدليات, انتظرت دخولها ثم فتحت الباب وأخذت الطفلة, لم يكن في الشارع أحد, أخذتها وأسرعت إلى أول سيارة أجرةٍ رأيتها, ثم اتصلت بحياة وأخبرتها"
-"وسيم: أنتِ بلا ضمير, سرقتِ حياتها, سرقت منها والديها, دمرت عائلة بأكملها, وتُبررين خطأك بالطيش, ليلعنك الله, سأدعو عليكِ في صلاتي, لا سامحك الله"
-"زيد: أكتبي هنا اسم الطفلة بالكامل"
ومد إليها دفتر ملاحظات صغير وقلم, عندما هممنا بالخروج من المنزل استوقفتنا حنان:
"إنتظرا سأُحظر لكما السلسلة التي كانت تُحيط بعنقها "
ثم ذهبت وغابت عدة دقائق, وأنا أقف مكاني والدم يغلي بعروقي, عادت تحمل السلسلة كان يتدلى منها قطعة ذهبية على شكل قطرة ماء, تحوي خرزة زرقاء, سحبتها من يدها القذرة وعدنا إلى الفندق, حان وقت الرحيل, لملمنا أغراضنا وحجزنا تذكرتين للعودة إلى بلادنا.
كان الإستقبال حافلاً وكأننا غبنا أعوام, كانت أمي قد حضرت الكثير من الأطعمة الشهية, تناولنا الطعام بنهم واستمعنا إلى أحداث المنزل الروتينية التي حدثت بغيابنا من والدتي, ثم شرَّفت الآنسة رزان, أتت سريعاً وحاوطتني بذراعيها, كنت أنظر نحو خالتي وأبتسم على مضض, أتمنى أن أقتل رزان بيديّ, ليتها تطير وتخرج من حياتي.
استأذن زيد وخرج, وتحججت أنا بالتعب ثم صعدت إلى غرفتي. تفكيري الآن بسارة أُخت بتونيا, كنت أظن أن الأمر سينتهي عندما وجدنا حنان, ثم اكتشفت أنني لا زلت في منتصف الطريق.
                                *****
في هذا الأسبوع عرَّفتني لانا على زوجها المستقبلي أي خطيبها, قبل يومين أتتني بعقد خطوبتها فجأة دون أن تخبرني, وكأن الفجوة اتسعتت بيننا بليلة وضحاها.
خطيبها الذي لم أهضمه أبداً: يتضح من عينيه أنه كاذب, حتى أن نظراته نحوي بدأت تُزعجني, والوضع الآن مُزري بيننا, أصْبَحَت لا تطيق الحديث معي؛ لأنني شكوت لها نظرات زوجها المستقبلي, وطبعاً هي تفكر بأنني أكذب عليها لا محالة.
اليوم سيُشرفنا السيد أسعد؛ ليشاركنا طعام الغداء, وأنا لا أستطيع تركهما لوحدهما بالمنزل, ولا أحب البقاء معهما, لكني سأبقى حتى لو لم أرتح برفقتهما, عندما يتزوجان سأرتاح قليلاً ولو أنني أعلم أن زواجهما فاشل قبل أن يتم, سامحك الله يا لانا. طلبنا الطعام من الخارج: رتبت أنا الطاولة ولانا تتزين في غرفة النوم.
ها هو جرس المنزل يُقرع, ذهبت لأخبرها فطارت بخفة لتفتح الباب له, أما أنا فانتظرتهما بالمطبخ, سيتناولون الطعام ويخرجون للتنزه, توزعنا على المقاعد حول الطاولة, لم أتفوه بحرفٍ واحد, كنت أستمع لهما وأتناول طعامي بصمت, حتى أنني لم أرفع ناظريَّ عن طبقي.
-"لانا: شاركينا الحديث يا باتي"
ابتسمت لها, ثم وجهت كلماتي لأسعد:
"متى ستتزوجان؟"
-"اسعد: لا تخافي سيبقى هذا البيت لكِ قريباً جداً, في الأسبوع القادم إن شاء الله"
-"بتونيا: ماذا؟! ما هذه العجلة؟ البارحة تخطبان وبعد أسبوع تتزوجان, لماذا يا لانا؟"
-"لانا: بتونيا أنا لا أهل لي, ولا فائدة من إطالة الخطوبة, هذا يكفي"
-"بتونيا: أُسبوع يا لانا, هل هو كافٍ لتتعرفان على بعضكما؟ ثم أنتِ صغيرة.. بل صغيرة جداً"
-"لانا: أنا أعرفه من وقت خروجنا من مركز الأيتام, ثم أنتِ صغيرة ومطلقة "
-"بتونيا: لانا هل تقولين هذا وأنتِ تعرفين حكايتي؟ ثم أنا أخاف من أجلك, أخاف أن تعودي لي مُشردة, ومطلقة, يكفي مُطلقة واحدة في هذا المنزل"
ثم هممت واقفة, لقد جرحتني بكلماتها, وهل الطلاق أصبح عيباً؟, تجرُّ نفسها إلى الهاوية وهي تعلم, كيف سأساعدها؟ كيف بالله عليكم؟
ـوقفني صوت خطيبها البغيض:
"هل تخافين عليها مني؟"
-"بتونيا: نعم, وكثيراً, أنت بعمر والدها تقريباً, ألم تجد سواها؟ اذهب وانظر إلى المجتمع الواسع, أتتزوج بها لأنها طفلة؟ كي تدمر مستقبلها"
-"لانا: بتونيا, أصمتي لا تتدخلي بشؤوني, أنا أُحبه وهذا يكفي"
-"بتونيا: أنتِ كاذبة, أين ذهبت طموحاتك وأحلامك؟ أين ذهبتِ بصفات فارس أحلامك؟ أين موقع أسعد من أحلامك كلها؟"
-"اسعد: أنت أنانية يا بتونيا, تفعلين هذا لخوفك من البقاء بمفردك في هذا المنزل, اذهبي وتزوجي قرارك بيدك, لكن لا تقفي في وجه زواجنا, أنا مقتنع بخياري وسأضعها على رأسي وفي بيابي عيناي, لا تقلقي عليها"
-"بتونيا: أنا أنانية؟ لانا أرجوكِ لا تهدري حياتك عبثاً "
-"لانا: نعم, أنتِ أنانية, تستكثرين علي القليل من السعادة, عوضاً عن ذلك سانديني, قفي إلى جانبي, افرحي لي كما أفعل من أجلك, أنت فعلاً تخافين البقاء هنا لوحدك, وتُحدثين المشاكل؛ لإعاقتي عن هذا الزواج, لكنني سأتزوج وسترين كيف ستكون حياتي؟"
لا أصدق, لا أريد أن أصدق, تتعلق بالإنسان الخاطئ, أسعد يكذب أنا متأكدة وأعلم أنها ستعود إلي باكية, استأذنتهما وخرجت من المنزل لا أدري إلى أين سأذهب؟
رحت أجوب الشوارع دون هدف, كنت أسير دون أن أتبين أمامي, لا أدري كيف أوصلتني أقدامي إلى منزلنا, منزل زياد وحياة, جلست على عتبات المدخل, وأسندت رأسي إلى بوابته.
جلست قرابة الساعة أٌفكر, ماذا لو فُتح الباب وظهر منه أبي؟ ماذا لو سمعت صوت أمي تناديني؛ لأساعدها بترتيب مائدة الطعام؟ ماذا لو أقبلت جدتي وعمتي الآن لزيارتنا؟
جدتي.. آه يا جدتي كم أشتاق لكِ, أخذت هاتفي واتصلت برقمها, تفاجأت لم يكن مغلق, إنه يرن.. و الله يرن, قفزت من مكاني بفرح أنتظر الإجابة و أتاني أحن صوتٍ في الدنيا.
" السلام عليكم, من معي؟"
-"بتونيا: جدتي"
شهقت أنفاسها ثم أنفلتت بالبكاء, فلم أستطع الصمود أكثر, شاركتها البكاء لكن داخلي يضحك, وأخيراً سمعت صوتها وأخيراً.
"أم زياد: زهرتي الصغيرة, أشتقت لكِ كثيراً, آسفة يا صغيرتي, منى مسحت رقمك من عندي فلم أستطع الإتصال بكِ, وهاتفي كان معطلاً لقد أصلحته البارحة"
-"بتونيا: أخبريني عنك يا جدتي, كيف حالك؟ "
-"أم زياد: بخير, نحن بخير, عندي لك خبر سيفرحك"
-"بتونيا: ما هو؟ هيا يا جدتي قولي"
-"ام زياد: منى ستتطلق من أحمد, سنعود يا باتي.. سنعود"
عادت دموعي تنهمر من جديد, سأراهما مجدداً كنت أعلم.
-"بتونيا: لماذا ستتطلق؟ ألم تكن تحبه كثيراً؟"
-"أم زياد: الوضع بينهما سيء جداً, أحمد استولى على كل أموالها, هذا غير المعاملة السيئة والضرب, لقد ظهر على حقيقته, والحمد لله أنها نقلت ملكية بيت زياد لي, على الأقل لن نبقى في الشارع"
-"بتونيا: الحمد لله عوَّضها الله بالأفضل, أخبريني متى ستأتيان؟"
-"أم زياد: تقريباً أُسبوعين, أتمنى أن تمضي الأيام سريعاً يا طفلتي, لقد إشتقت لوجهك"
-"بتونيا: وأنا أيضاً اشتقت لكِ, وأحبك. كم كان صوتك دواءً لي, أتى في وقته"
-"أم زياد: هل أنتِ بخير يا باتي؟ كيف أحوال المركز؟"
-"بتونيا: أنا أقيم الآن مع صديقتي في بيتٍ صغير, والحمد لله أنا بخير"
-"أم زياد: متى خرجتِ؟ ثم لِمَ لَمْ تذهبي لبيت وسيم؟"
-"بتونيا: تطلقنا, ووسيم خطب ابنة خالته, وأرجوكِ لا تقلقي من شأني, أنا الآن أفضل, ولست بحاجة أحد, أنتظر صدور النتائج بفارغ الصبر, سأكمل دراستي وأخذك عندي, سنعيش سوياً أعدكِ"
-"أم زيد: كيف يحدث كل هذا معك وأنا لا أدري؟ سامحك الله يا منى, ووسيم كيف يفعل هذا؟ سأفقئ عينيه عندما أراه"
-"بتونيا: لا شأن له, أنا من طلبت الطلاق, قلت لك لا تقلقي, أنا سعيدة جداً, ومرتاحة, لا تفكري بي, سأغلق الآن انتبهي لنفسك "
-"أم زياد: لنا حديثٌ طويل بعد أسبوعين يا حفيدتي الغالية"
-"بتونيا: كما تريدين يا عزيزتي, هيا بأمان الله"
-"أم زياد: حفظك الله يا باتي "
أغلقت الهاتف ورحت أمشي بالشوارع مجدداً, لكن بفرح, تبدل حالي بغضون دقائق, الحمد لله.
أكملت طريقي متجهةً إلى بيت سلمى, لا أنوي الدخول فقط أريد أن أراها, أن أعانقها, أحتاج لذلك كثيراً.
عندما وصلت إلى المنزل, اتصلت بها لتنزل, لم أنتظر كثيراً, إنبلق الباب وأتت مهرولةً نحوي, عانقتها طويلاً وبكيت حزناً وفرحاً في آنٍ واحد.
-"سلمى: ماذا حدث يا باتي؟ لِمَ البكاء؟"
-"بتونيا: تحدثت مع جدتي قبل قليل, ستعود بعد أُسبوعين"
-"سلمى: حقاً.. لقد فرحت كثيراً من أجلك, الحمد لله ستعودين إلى منزلك الآن"
-"بتونيا: تمهلي, ما بكِ؟ لن أعيش معهما, سأبقى وحيدة في منزلي"
-"سلمى: معهما؟ إذن منى أيضاً ستعود, لماذا؟ ماذا جرى؟ ثم أخبريني كيف ستعيشين لوحدك؟ ولانا أين ستذهب؟"
-"بتونيا: إجلسي لأخبرك"
-"سلمى: أين نجلس؟ أتقصدين عتبة المنزل؟ سأضربك الآن, دعينا نصعد لغرفتي"
-"بتونيا: لا أريد, سيارة وسيم هنا هذا يعني أنه عاد, ويعني أن خطيبته الظريفة  تُقيم عندكم, دعينا نجلس هنا, لن أتحمل المزيد من الكلام"
-"سلمى: كما تشائين, لن أضغط عليكِ, هيا أخبريني ماذا حصل؟"
أخبرتها عن كل شيء؛ علني أجد نصيحة, أوعلى الأقل أعرف إن كنت على حق أم لا.
-"سلمى: ما بها هذه المجنونة؟ ألم تجد أفضل منه؟ لماذا تفعل هذا بنفسها؟"
-"بتونيا: و الله لم أعد أعلم شيئاً, ما يقلقني أنني أُصبح كغريبة بالنسبة لها, أنا أحبها يا سلمى, أحبها كثيراً, تعودت على وجودها بحياتي, كيف سأبقى لوحدي الآن؟ كيف سأتركها تنجر إلى الهاوية برغبتها؟"
-"سلمى: ما تفعليه ليس صحيحاً, لا تضغطي عليها, عارضتي كثيراً يجب أن تؤازريها الآ,ن ادعميها؛ لأنها ستفعل ما تريد, دعيها تتحمل نتائج قراراتها, لا تجعليها تتخلى عنك, لا تُبقيها وحيدة "
أطرقت أفكر قليلاً, ربما ما تقوله سلمى هو الصحيح, لماذا أقف ضدها؟ من الممكن أن يكون أسعد الزوج المناسب لها, مع أنني لا أعتقد ذلك.
أردفت بابتسامة عريضة:
" سأذهب لأُحضر شيئاً نشربه, وأُضايق رزان بطريقي"
-"بتونيا: ضايقيها كيفما تشائين, لكن لا تُخبري أحداً بوجودي, أرجوكِ"
-"سلمى: كما تريدين يا آنسة, سأعود سريعاً"
عادت أفكاري تحوم حولي؛ علني أجد حلاً مناسباً, يجب أن أقف مع لانا حتى لو كانت على خطأ. أتت سلمى تحمل كوبين من عصير البرتقال, وطبق ممتلئ بمحشي ورق العنب, فز قلبي شوقاً إلى هذا النوع من الأطعمة, الذي لم أتذوقه منذ مدةٍ طويلة.
التقطت الصحن وشرعت بالأكل؛أضع الواحدة تلو الأخرى.
-"سلمى: أضحكتني يا باتي, هل أنتِ جائعة إلى هذا الحد؟"
-"بتونيا: لم أكمل طعامي, خرجت من المنزل وأنا جائعة, ثم لم آكل محشي ورق العنب منذ وفاة والداي, دعيني أملئ معدتي وفؤادي منه"
أخذت تضحك على حالتي, لم أهتم لها كان تفكيري في الطبق وما يحوي.
-"وسيم: ستختنقين إذا تناولتِ الطعام هكذا"
نظرت إلى الخلف وفمي نصف مفتوح, وممتلئ بالطعام, كيف خرج هذا دون أن أشعر؟ استدرت بوجهي وأخفيت فمي بباطن يدي اليمنى, حاولت إبتلاع الطعام سريعاً دفعةً واحدة؛ فغصصت وبدأت أسعل بشدة, كادت عيناي أن تتشققان, والدموع تشق الخُطى على وجنتيّ, ما هذا الموقف المحرج؟ ليت الأرض تنشق وتبتلعني, أستحق هذا, ما الذي أحضرني إلى هنا؟.
-"وسيم: خذي كأس العصير واشربي منه بسرعة"
قال هذا وهو يمد الكأس نحوي, لم أستجب له وأكملت سعالي, وسلمى تخبط بكف يدها على ظهري دون جدوى, مد وسيم الكأس مرةً أخرى نحو فمي وأشربني منه غصباً, لم أشرب من الكأس بقدر ما سقط على ملابسي, وأيضاً دون فائدة, ثم تحرك وسيم وخبط على ظهري خبطةً واحدة لم أعد أسعل بعدها لكنني شعرت بتهشم في فقرات ظهري.
نظرت نحوه مزمجرةً:
"أجننت؟ كدت أن تكسر ظهري"
-"وسيم: هل كُسر ظهرك؟ لا, إذن لما تصرخين كالماعز؟ عوضاً عن صراخك أشكريني"
-"بتونيا: لقد آلمتني يا أحمق, ثم من طلب مساعدتك؟ أنت السبب في ما حدث لي"
-"وسيم: هل أنا الذي كنت آكل بشراهة؟ أنت فقدت عقلك تماماً, يجب أن نصطحبك إلى مشفى المجانين عاجلاً"
-"سلمى: وسيم أرجوك, هلَّا ذهبت من هنا؟ هيا دعنا لوحدنا"
نهضت عن عتبة المنزل, ثم مسحت التراب العالق بملابسي, وقلت:
"لا, أنا يجب أن اذهب, أشكركِ على استماعك لي, أراكِ لاحقاً."
-"سلمى: لا يا باتي, أرجوكِ ابقي قليلاً, سيذهب وسيم الآن, هيا أجلسي"
-"وسيم: لا تخافي سأخرج, أبقي قدر ما تشائين"
-"بتونيا: عد إلى خطيبتك قبل أن تبكي على فراقك, أنا سأذهب"
-"وسيم: وما شأن خطيبتي؟ ألا ترين أنكِ من تختلقين المشاكل؟ ثم ما المأساة التي تعيشينها مجدداً"
تجاهلت رده وسؤاله, وقبَّلت سلمى من وجنتها, ثم قلت:
"إلى اللقاء, سأتصل بك مساءً"
انطلقت دون أن انظر خلفي, هذا الحيوان لم يتركني أُشبع معدتي من الطعام اللذيذ.
عدتُ إلى المنزل ولم أجد لانا, حتى أنها لم تُكلف نفسها أن تُنظف الأطباق, غيرت ملابسي ونظفت الأواني والأطباق, ثم ألقيت بجسدي على السرير,  تناولت الكتاب الذي لم أكمله وهربت من نفسي إليه.
مرَّ الأسبوع سريعاً, حاولت إصلاح الشرخ بيني وبين لانا, والحمد لله أنني نجحت, جهزنا سوياً كل ما تحتاجه من ثياب, عطور, وأدوات تجميل, ولم يتبقى شيء.
في هذا الأسبوع أيضاً صدرت نتائج الثانوية العامة, والحمد لله نجحت, وفرحتي لا توصف, أصبحت أعلم ما أريده من الحياة, أُريد أن أصبح معلمة للصفوف الإبتدائية, تجول في خاطري أفكار كثيرة: أريد أن أؤسس الأجيال القادمة جيداً, أن أعلمهم كيف يتقبلون أمثالنا في حياتهم, أعلمهم أن يحبوا الآخرين دون أهداف, ولا أسباب, أريد أن أُنشأهم على مراعاة ظروف من حولهم, أن لا يُعاقبوا أحدا على خطأ لم يرتكبه, أريد أن أتحرر من عقدتي.
اليوم هو يوم زواج لانا, كانت تظهر كالملاك: بريئة, جميلة الملامح, وخائفة, أجل كانت ترتجف, حاولت طمأنتها, عانقتها ودعوت لها, لم يُقام لها أي حفل ولو بسيط؛ لأنها تتزوج من أسعد سراً كما تعلمون, أتى أسعد ليأخذها في المساء, كانت كالزهرة, عانقتني طويلاً أنا وسلمى, وشهد, ثم غادرت, لا أدري قلبي مقبوض يا رفاق.
لم أستطع النوم لا أنا ولا سلمى, صحيح نسيت أن أخبركم, سلمى ستنام عندي هذه الليلة, بعد رجاءٍ وتوسل منا للخالة رنا, أمضينا الليلة في الحديث عن أحلامنا وطموحاتنا, وعن الجامعة التي سندرس بها, تحدثنا عن كل شيء, حتى عن رزان ومحاولات انتحارها الكاذبة.
كانت الساعة تُشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل عندما طرق الباب طويلاً وبعنف, لقد تجمدنا في أرضنا من الخوف, من يكون يا ترى؟ لم أستطع استجماع قواي للوقوف, ثم ظهر صوت لانا المضطرب تنادي بصوتٍ خافت باسمي, حينها نهضت بسرعة وفتحت الباب لها, لن تصدقوا حالها, كانت ترتدي بيجامة نومها, ويديها تمتلئان بالدماء.
-"لانا: قتلته يا باتي, قتلته, سيحدث ما خفت منه, سأدخل السجن"
وانهارت على الأرض تنحب, لم أدري كيف أتصرف, ثم سمعت صوت وسيم من جانب الباب:
"بتونيا, هلَّا ارتديتِ ملابس الصلاة؟ أريد أن أدخل"
ارتديت ملابسي سريعاً وغطيت جسد لانا بعباءة وألبستها حجاب, صحيح أنها لا تُغطي رأسها؛ لكنني لم أكن أعي ما أفعله, كنت أرتجف, أما سلمى فلم تنهض من السرير من وقت الطرق العنيف على الباب.
عاد صوت وسيم مرةً أخرى:
"هل أدخل؟"
-"بتونيا: تفضل"
عندما دخل وسيم, ذهب نحو سلمى, أحاطها بذراعيه, ثم أخذ يهمس تعويذاته بأذنها ليُّهدأ من روعها, عندما هدأت أتى نحوي وقال:
" هل أنتِ بخير؟"
أجبته وأنا أنفي بوجهي قبل كلماتي:
" لا. لست بخير.. لسنا بخير.. ماذا نفعل؟ ماذا نفعل يا وسيم؟"
وانهرت أرضاً أرتجف, مسح وسيم على رأسي, ثم جلس على ركبتيه أمامي وقال:
" يجب أن تهدئي الآن, لنجد حلاً مناسباً"
قال كلماته هذه وهو ينظر بداخل عيناي, هل شعرت أنا بالأمان؟ نعم. واستكنت روحي, ثم وجه بصره نحو لانا التي لم تتوقف عن الإهتزاز للأمام وللخلف وهي تردد:
" قتلته.. أنا قتلته"
-"وسيم: إهدئي أرجوكِ, استجمعي قواكِ وأخبرينا ما الذي حصل؟"
لم تجبه, وبقيت على حالها, أعاد سؤاله كثيراً لكنها لم تجب, ثم صفعها على خدها بقوة فشهقت, ثم بدأت ترتجف, ركضت نحوها وعانقتها وأتت سلمى وجلست أمامها أيضاً, ثم أعاد وسيم السؤال عليها:
"ما الذي حصل يا لانا؟ أخبريني من البداية"
-"لانا: قتلته, لقد أخبرني أن زواجنا مجرد حيلة, الشهود, والمأذون أصدقائه, لم أتمالك نفسي, كان يضحك بطريقة مُقرفة وهو يخبرني, قتلته يا بتونيا, أحضرت سكيناً من المطبخ وطعنته كثيراً وهو نائم,  لقد مات أنا متأكدة. "
كنت أعلم يا لانا أنكِ تجرين نفسكِ إلى مصيبة, كنت أعلم.
-"لانا: أنتِ على حق يا بتونيا, أنت على حق, لم أستمع لكِ, سأدخل السجن الآن, الشيء الوحيد الذي جهدت كثيراً للإبتعاد عنه, لن أخرج قبل عشرون عاماً, انتهت حياتي.. انتهت"
وعادت تبكي من جديد, ذهب وسيم وأحضر لها كوباً من الماء, ثم أخذناها لتنام بسريرها قبل أن تكتشف الشرطة أمرها.
نامت لانا ودخلنا نحن إلى المطبخ ننتظر استيقاظها.
-"بتونيا: وسيم ماذا سنفعل؟"
أراح صدغيه النابضين ثم قال و هو يغمض عينيه:
" لا أعلم, أحاول أن أفكر, لا أستطيع إيجاد مهرب, لكن يجب أن تسلم نفسها للشرطة"
-"سلمى: لنُخبأها عن الأنظار, ثم كيف سيعلمون أنها هي القاتلة؟"
-"وسيم: والبصمات؟ وهويتها المدنية؟ يجب أن نرافقها إلى مركز الأمن قبل أن يأتوا إلى هنا"
-"بتونيا: لا أرجوكما, هي تخاف السجن, لن أسلمها مستحيل, سيضيع مستقبلها هناك"
-"وسيم: لا تخافي سيُخفف حكمها؛ لأنها قتلته دفاعاً عن شرفها, ولأنها لا تزال طفلة "
-"لانا: أنا جاهزة, هلَّا أوصلتني إلى مركز الشرطة يا وسيم؟"
-"سلمى: لانا؟ متى استيقظتِ؟"
-"بتونيا: لا يا لانا, أرجوكِ لا تتركيني أنتِ أيضاً "
-"لانا: أنا آسفة, لقد خرجتِ من الميتم بسببي, وها أنا أتخلى عنكِ بسبب طيشي, يا ليتك ضربتني يا باتي, يا ليتك قتلتني ولم أفعل ما فعلته, نطقتُ قدري بلساني يا باتي, ألا يقولون كل متوقعٍ آتٍ؟ أنا توقعت دوماً دخولي إلى السجن, لا تتوقعي سوى الخير يا باتي, سأشتاق لكِ كثيراً يا أختي, أرجوكِ زوريني, لا تنسيني في الداخل, أعلم.. كثُرت الأماكن التي ستزورينها؛ لكن تذكريني وادعي لي حتى لو لم تستطيعي زيارتي, كوني معي بقلبك وهذا يكفيني "
ثم عانقتها مودعةً إياها, ما هذا الحظ العاثر؟ لا, ما يحصل بحياتي كبير جداً, لم أعد أحتمل
                                *****
رافقنا لانا إلى مركز الأمن, لكننا لم ندخل معها, لم تسمح لنا بالدخول, لا تريد أن تتسبب بأذيتنا, انتظرنا ساعتين ثم اتصلت لانا بباتي؛ لتخبرها أنها بالمركز كما اتفقنا بيننا, لنأتي دون أن تدخلنا في دوامات التحقيق, انتظرنا قليلاً ثم دخلت لوحدي, لم أدع الفتيات يرافقنني إلى الداخل, حقق معي الضابط قليلاً وسألني: من أكون بالنسبة لها؟ فقلت له: أنني خطيب صديقتها في السكن, طال التحقيق.. ثم أخبرني الضابط أنها ستبقى عندهم, وأنها ستحول في الغد إلى مركز العاصمة, وأنهم قد تأكدوا من وفاة الضحية, ثم طمأنني أن حكمها سيكون مخففاً, شكرت الضابط وخرجت.
كانت الفتاتين تنتظرانني بالخارج بتوتر, والدموع تُغرق المحاجر وتفيض على الوجوه.
-"بتونيا: ماذا حدث؟"
-"وسيم: سيشرحون الجثة أولاً, ثم سيتم نقل لانا إلى مركز أمن العاصمة, ستبقى هناك إلى أن يصدر حكمها, ربما ستُسجن سنة أو اثنتين, وبعدها سيتم الحكم عليها, لأن قضايا القتل تأخذ وقتاً طويلاً لإصدار الحكم"
سقطت باتي أرضاً ثم غابت عن الوعي, ما هذه الليلة العصيبة؟ أعدناها إلى منزلها بعد أن أيقظناها, عندما وصلنا المنزل استلقت على سريرها وراحت تغط بنومٍ عميق بعد انهيارها من التعب, وسلمى أيضاً نامت على سرير لانا, أما أنا فلم أستطع النوم, جلست على إحدى المقاعد في المطبخ, ووضعت رأسي على الطاولة, و بدأت دوامة الأفكار تعمل, ماذا سأفعل ببتونيا؟ لن تبقى لوحدها طبعاً, يجب أن أعثر على عائلتها بأسرع وقتٍ ممكن.
في الأيام الماضية بحثت أنا وزيد عن شقيقتها التي عرفنا أنها في السنة الأخيرة لها بتخصص الطب العام؛ أي أنها تكبر باتي بسبعة أعوام, وجدنا طرف الخيط الذي سنبدأ منه, و هي الجامعة التي تدرس بها سارة.
لكن إلى حين عثوري على عائلتها ستقيم مجبرةً في بيتنا, لن أدعها تبقى وحيدةً في هذا البيت, لكن كيف سأقنع والدتي؟ طبعا لم تغب عن بالي البلوة الكبيرة, خطيبتي العزيزة, أعلم أنها ستفعل كل شيء؛ لأبعادها عن المنزل, غفوت على الطاولة ولم أشعر إلا بيد سلمى التي تمسح على رأسي لتوقظني, فتحت عيناي بصعوبة ونظرت نحوها, ثم تذكرت ما حدث الأمس بثواني؛ فانتفضت جالساً, كانت عضلاتي متشنجة وكل جسدي مشدود, وكأنني خُضت حرباً شعواء
-"وسيم: ماذا حدث؟ أين بتونيا؟"
-"سلمى: لم يحدث شيء, الأمور على ما يرام, لكننا نريد أن نزور لانا, هلّا أخذتنا؟"
-"وسيم: لن يسمحوا لأحد برؤيتها يا سلمى, تُهمتها كبيرة "
أتت باتي من الخارج تصدح بصوتها:
"لكنها صديقتي, وأريد أن أطمأن عليها, إن لم تأخذنا سنذهب لوحدنا"
نهضت عن المقعد واتجهت نحوها ثم قلت:
-" أولاً ستجمعين ملابسك وأغراضك وتأتين معنا إلى المنزل, وسأذهب أنا لأرى ماذا حصل؟ لا تخافي, سأحاول أن أخذ إذناً للزيارة"
-"بتونيا: أبداً, لن أذهب معكما إلى المنزل, سأبقى هنا في بيتي"
-"سلمى: أجننت أنت؟ كيف ستبقي هنا بعد ما حدث ليلة البارحة؟ لن نتركك هنا "
-"وسيم: لا تخافي, فقط ليومين أعدك بعدها لن تري وجهي على الإطلاق, ثم سأبحث لكِ عن سكن تقيمين فيه مع بعض الفتيات, على الأقل سيرتاح بالنا قليلاً"
-"بتونيا: والخالة رنا؟ ورزان؟ ووالدتها؟"
-"وسيم: أنا سأقنع والدتي, ولا تهتمي للباقي "
-"سلمى: هيا يا باتي, هذا الحي مخيف, كيف ستبقي بمفردك هنا؟ ماذا ستفعلين ليلاً؟"
استرخت ملامحها وتنهدت بيأس, ثم انصرفت إلى غرفة النوم جمعت أغراضها, ووضعت ملابس لانا بحقيبة صغيرة؛ لنأخذها لها.
ذهبنا في البداية إلى مركز الأمن فلم يسمحوا لنا برؤيتها, وأخبرني الضابط أن لا فائدة من تواجدي هنا؛ لأنها اعترفت وسيتم تحويلها إلى سجن النساء, إلى أن يصدر الحكم, خرجت أجر أذيال الخيبة, أيُعقل أن تكون نهاية هذه الفتاة الرقيقة في السجن؟ ماذا لو كانت باتي بمكانها؟ لن أفكر بهذا الآن, يجب أن أوصلهما إلى المنزل سريعاً؛ لألحق بسارة قبل أن تنهي محاضراتها.
عندما وصلنا إلى المنزل ترددت باتي مرةً أخرى, فتركتها لسلمى؛ لتقنعها وسبقتهما إلى الداخل, كانت أمي في المطبخ, اتجهت نحوها وقبلت رأسها ثم قلت:
-" ماذا تصنع أجمل الأمهات؟ سلم الله يداكِ يا غاليتي"
-"رنا: تكلم, ماذا فعلت؟ ما المصيبة التي اقترفتها؟"
-"وسيم: ليست مصيبة, أريد أن أطلب منكِ شيئاً"
-"رنا: هات ما عندك يا وسيم "
-"وسيم: ستبقى باتي في بيتنا ليومين"
-"رنا: مستحيل, أتريد أن تثير جنون رزان؟ لا, لا أستطيع قبول ذلك"
-"وسيم: أمي أرجوكِ استمعي لي أولاً ثم قرري"
أخبرتها بما حصل ليلة الأمس, بعد كلامي المختصر, لان قلبها قليلاً لكنها قالت:
"إذا بقيت باتي هنا, ستذهب أنت لبيت خالتك "
-"وسيم: إلى بيت زيد, هذا أفضل لي ولكِ ,ها ما رأيك؟"
-"رنا: يومين لا أكثر"
ابتسمت وقبلت جبينها بسعادة, ثم قلت:
" وربما أقل"
ثم خرجت و ناديت على الفتاتين؛ فأقبلت سلمى وباتي تلحق بها على استحياء, ثم تركتهما مع والدتي التي رحبت بباتي واحتضنتها , صعدت أنا إلى غرفتي ووضعت بعضاً من ثيابي بالحقيبة, وخرجت كي أنزح من هذا المنزل سريعاً.
-"سلمى: أخي إلى أين؟"
-"وسيم: سأبقى عند زيد"
-"بتونيا: لن أرضى بذلك, أرجوكما أعيداني إلى بيتي, لا أريد البقاء هنا"
-"وسيم: لقد تحدثنا في هذا الأمر, تحملي يومين وبعدها أعدكِ ستعيشين حياة سعيدة وهانئة"
ثم انصرفت واتصلت بزيد؛ لنلتقي عند بوابة الجامعة, وصلت بعد نصف ساعة, كان زيد ينتظرني بسيارته بالخارج, عندما رآني بدء بالضغط على البوق, صرخت:
-" أراك يا غبي, توقف لقد أفزعت الناس"
ضحك وتوجه نحوي, ثم قال:
"أنا متحمس كثيراً اليوم, أشعر أننا قاربنا من خط النهاية"
-"وسيم: أتمنى ذلك يا أخي, لقد تعبت كثيراً, لنجد عائلة باتي ونرتاح قليلاً"
-"زيد: هيا إذن لندخل "
وجدنا ضالتنا وأخيراً, ها هي سارة تقف على مقربةٍ منا, لقد تأكدت منها, تشبه باتي إلى حدٍ ما, لكن باتي أجمل منها بالطبع, فعين المحب لا ترى سوى من تحب, انتظرناها حتى خرجت ولحقنا بها, إلى أن وصلنا منزلها.
انتظرناها حتى دخلت, ثم اتجهنا إلى البقالة القريبة من المنزل, كان يجلس بها رجل طاعن في السن, يرتدي ثوباً بني اللون, وفوقه جاكيت أسود من الجلد.
-"زيد: السلام عليكم يا عم"
-"وعليكم السلام, تفضلا.. ماذا تريدان؟"
-"وسيم: زادك الله فضلاً يا عم, نحن نريد أن نطلب يد الآنسة سارة, التي تُقيم في حييكم, هل تعرفها؟"
وذكرت اسم العائلة لنتأكد من أنها ذاتها أخت باتي, قال:
"هل أنتما الاثنين معاً؟"
ثم ضحكنا على سذاجتي, أجبت بخجل:
"آسف يا عم لقد ارتبكت, أنا سأطلب يدها, وأريد أن أعرف بعض المعلومات عن عائلتها"
-" سارة طيبة ومهذبة, وستصبح طبيبة قريباً إن شاء الله, ووالديها قمة في الأخلاق, لها أخ يصغرها بعدة أعوام؛ طالب محاماة, لكنه يقيم في محافظةٍ أخرى حيث جامعته, يأتي في أيام العطل, إنهم من خير الناس يا ولدي, صدقني لن تندم"
-"وسيم: هل عائلتهم بهذا القدر, إذن يا حظي, سأكون النسيب المدلل"
-"أجل ستكون النسيب المدلل, كان من المفترض أن يكون لك نسيباً آخر, لكنك محظوظ"
كنت أستدرج العم في الكلام, أريد أن أصل إلى غايتي سريعاً.
-"وسيم: ماذا تقصد يا عمي؟ هل لها أخت ميتة؟"
-"لقد كان لها أختاً اخْتُطِفَت من العربة في وضح النهار, كانت رضيعة لم يتجاوز عمرها بضعة أيام, ولم يستطع أحداً العثور عليها, وكأنها تبخرت"
-"زيد: ربما يجدوها الآن بعد هذا العمر "
-"لا أعتقد يا ولدي, ربما قتلها من اختطفها, أو أخذها إلى مدينة أخرى, سأنصحكما نصيحة, لا تفتحا هذا الموضوع مع العائلة إذا لم يُخبركم أحد منهم, لأن جرحهم لم يبرئ بعد "
-"وسيم: شكراً من قلبي لك يا عم, لقد خدمتني خدمة العمر بكلامك هذا"
ثم ودعناه وخرجنا, غداً سيكون يوم الجمعة, ستكون العائلة مجتمعة, سنأخذ باتي ونزورهم, حان وقت اللقاء يا عقلة الإصبع. يجب أن أمهد لها الموضوع لكن كيف سأبدأ؟ لا أدري ما سأفعله, لكنني سأطير؛ لأزف إليها الخبر السار سريعاً.

بتونيا زهرة المجرة 🌸 حيث تعيش القصص. اكتشف الآن