14

67 5 0
                                    

                                 *****
الصدمة كبيرة, لم أستطع أن أخرج منها, بالرغم من كل المواسين, وداع جدتي لوالديّ أدمى قلبي, كانت تبكي والدتي وكأنها أمها, وأنا أُراقب عن قرب دون أن أتحرك, نادتني جدتي قائلةً بصوتٍ جياش:
-" هيا يا ابنتي, ودعي والديكِ, سيأخذونهما الآن, هيا يا صغيرتي"
تقدمت نحوهما أجر قدماي من فرط تعبي, وضيق قلبي, جلست بينهما وأحطت كلاهما بيديّ, و أخفضت رأسي إلى الأرض, صرت أصرخ وأنوح:
"لا يا أمي, لا تذهبي يا حبيبة عمري, يا حنونتي, أبي ما زلت صغيراً على الموت, لا تتركني لو سمحت"
زدت في صراخي  حتى فقدت الوعي, عندما أفقت وجدت نفسي على سرير عمتي, أزحت الغطاء عني وقفزت, كان صوت تلاوة القرآن يملئ المنزل, نظرت إلى ساعتي كانت تشير إلى الثالثة عصراً, توسدت الأرض أنحب من جديد, ذهبا بدوني هذه المرة, ذهبا حقاً.
أتت سلمى تركض, عانقتني وصرنا نبكي سوياً, ثم نهضت وارتديت عباءتي وحجابي, ونزلت إلى الأسفل, هممت بالخروج من الباب لولا صراخ عمتي:
"إلى إين؟ "
-" سأذهب إلى والداي"
-"منى: بتونيا ارجعي إلى الداخل, لا تفضحينا إمام هذه الجموع من الناس"
تجاهلت كلامها وهممت خارجة, سرت على عجل, ترافقني سلمى, لا إعلم كيف لمحنا وسيم؟ أتى مسرعاً الخطى نحونا.
-"وسيم: ماذا تفعلن هنا؟ بتونيا, إلى أين؟"
-"بتونيا: لا تتدخل, لا أريد لأحد التدخل بي "
أكملت السير موليةً ظهري له.
-"وسيم: على الأقل انتظري؛ لأحضر سيارتي, لن أدعكما تذهبان لوحدكما"
عندما وصلنا المقبرة أرهبني المنظر, هذه المرة الأولى التي أدخلها, أخذت أُجيل نظري في المكان بحثاً عنهما, فوقفت حائرةً أنظر نحو وسيم الذي فهم مقصدي وسار أمامنا, ثم توقف مشيراً بيده إلى مكانهما, نظرت نحوهما مطولاً, كان الألم يعتصر روحي التي يقبع جزأين منها في التراب الآن, انحنيت جالسةً على ركبتاي بينهما مرةً أخرى, أنظر يميناً ويسارً, ثم إلى الأعلى لألتقط أنفاسي المتعبة, كانت يداي تنغمران في ذرات التراب, ثم قبضت على حفنتين من تراب قبريهما بشدة, ومرغت وجهي بهما, أسرعت سلمى نحوي تنفض وجهي, وتحاول رفعي عن الأرض, وأنا أتمسك بشدة في أرضي وكأني شجرةُ زيتون عتيقة يصعب قلعها, روحي قد شاخت دون أن أشعر, ومن غير إرادةً مني.
أقبل وسيم نحوي, رفعني من أرضي وكأنني نبتة صغيرة بدون جذور, جذوري بقيت في أرض المقبرة, وأنا الآن سأعيش بدون جذور, هل يعقل هذا؟ كم سأحتمل دون جذوري؟ نظرت نحو والداي مرةً أخيرة قبل أن يجراني وسيم وسلمى إلى الخارج, وهتفت:
"سأعود لا تقلقا, اعتنيا بنفسيكما, سأصبح كما تُريدان, وسأبقى أزوركما, لا أدري بأي وجهٍ سأقول لكما: لا تنسياني من الدعاء؛ لأنني أعلم أنكما ستبقيان بجانبي, وستدعون لي حتى بعد موتكما, أرجوكما أكثرا من زيارتي في الأحلام, لا تُطيلا فراقي, فأنا لن أحتمل وحدتي بدونكما, أحبكما كثيراً, أحبكما كثيراً..."
سمعت صوت شهقات سلمى المكتومة, حتى وسيم اغرورقت عيناه بالدموع,  عندما صعدنا إلى العربة, استأذن قليلاً, ثم دخل المقبرة مرةً أخرى, أعلم أن له عزيزاً هنا, ربما بكائي وحرقتي على والداي ذكراه بشخصٍ تركه هنا منذ زمن.
-"سلمى: سنبقى بجانبك تعلمين هذا, أنا صديقتك, وأختك وعضيدتك بإذن الله"
-"بتونيا: أعلم يا صديقتي, أعلم"
رميت برأسي على كتفها, ثم عدنا إلى المنزل الّذي يفيض بالحزن, لم أحتمل هذا الكم الهائل من السواد, ورحت أختبئ بالغرفة التي ستصبح غرفتي الجديدة.
بعد صلاة المغرب, أقبلت الخالة رنا تحمل صينية الطعام, لكنني لم أقبل, لا أشتهي شيئاً, أريد أن أموت, وألحق بهما, لا أريد حياةً خالية من حياة الحنونة, وزياد الحبيب, عندما باءت محاولات الجميع بالفشل, أرسلوا وسيم؛ لإقناعي, لكنني مصممة, لا أريد.
-"وسيم: لما تفعلين هذا يا باتي؟ هذا قدر الله, ألا تؤمنين بالقدر؟"
-"بتونيا: الحمد لله دائماً وأبداً, لكنني لا أشتهي الطعام, أرجوك افهمني"
-"وسيم: من الأمس لم تأكلي شيء, هذا لا يجوز"
-"بتونيا: دعوني وشأني من فضلكم, أريد أن أنام"
خرج الجميع وعدت أسبح بدموع الليلة الأولى لوالديّ في القبر, يا رب ثبتهما عند السؤال, يا رب أدخلهما جنتك.

بتونيا زهرة المجرة 🌸 حيث تعيش القصص. اكتشف الآن