*****
مضى أسبوعين على طلاقنا, لا زلت مكسورة الخاطر, مجروحة الفؤاد, أنهيت اختباراتي ولملمت حقيبتي؛ استعداداً للخروج مع لانا, لا أعلم ما ينتظرني في الخارج, طمأنتني لانا أنها تُخفي مبلغاً جيداً من مصروفها؛ لكنه عاجلاً أم آجلاً سينفذ.
-"لانا: أخبرتني المديرة: أنها ستُدبرنا في إحدى دور الفتيات"
-"بتونيا: وهل صدقتِ؟ ألم تُخبرنا الأسبوع الماضي أنه لا يوجد شاغر, ثم سأُذكرك.. نهايتنا ستكون في مراكز الإصلاح"
-"لانا: لا تفكري بهذا, ولا تستبقي الأحداث, بقي ثلاثة أيام, ننتظر ونرى, إدعي أن تجد لنا ولو غُرفةً صغيرة تأوينا "
-"بتونيا: كيف سنجد عملاً يا ذكيه؟ كيف سنتدبر أمر طعامنا ولوازمنا؟ كيف سأكمل دراستي؟"
-"لانا: كوني واقعية يا باتي لن تُكملي تعليمك أنتِ تعلمين ذلك, إذا وفرنا الطعام والسكن ف الحمد لله "
-"بتونيا: أه.. يا رب ساعدنا"
أشعر بالرعب من المصير المجهول الذي ينتظرني, لم يتبقى لي أحد سوى لانا, حتى سلمى لا تُريد الحديث معي بعد طلاقي من وسيم؛ وكأنني السبب, ماذا أفعل؟ العالم ضيق جداً على أمثالنا, يا ليتني خُلقت عصفورً.
بعد يومين أبلغتنا المديرة أنها وفرت لنا غرفة ومنافعها؛ بإيجار بسيط, وأنها لم تجد شاغراً في دور الفتيات: أما بالنسبة لدراستي الجامعية, فلقد طلبت مني الانتظار إلى وقت صدور النتائج, والتوجه إلى صندوق الأمان؛ وهو سيتكفل بدراستي, أما لانا فهي تعلم من الآن أنها لن تنجح, فقررت أن تذهب معي؛ ليساعدوها على الأقل بمصروف شهري, أو أن يدربوها مهنياً, وهي تريد أن تتعلم الخياطة, يعني و لله الحمد بدأت الأمور تنفرج.
غداً صباحاً سنخرج من مركز الأيتام, وطبعاً لانا مصرة على إتلاف هاتف المشرفة وحاسوبها, أخبرتها: بأنني لن أتدخل فذهبت لوحدها, أخاف أن تُمسك بها وأضيع أنا بين الأقدام, سألحق بها.. وقفت قرب الباب أُراقب الممر.. خرجت بعد عشرة دقائق, وعلامات الفرح تشع من وجهها.
-"بتونيا: فعلتها إذن"
-"لانا: أنتِ وبقية الفتيات بأمان, حاسوبها يسبح الآن بالقهوة, وهاتفها عاد كما خرج من الشركة, هيا لنذهب؛ كي لا يرانا أحد"
ضحكنا وعدنا إلى غرفتنا بخفة ومكر. في اليوم التالي ودعنا الفتايات وأوصلنا سائق الباص إلى بيتنا الجديد, والأصح غرفتنا الجديدة, التي تتكون من: غرفة نوم بسريرين, ومطبخ, وحمام, لا بأس بها, المهم أن تأوينا, طبعاً البيت بحاجة إلى تنظيف, رتبنا ملابسنا وخرجنا بعدها إلى الهواء الطلق, وأجلنا تنظيفها إلى المساء.
كنت أُريد أن أتنفس قليلاً, ذهبنا إلى مدينة الألعاب, ثم تناولنا الطعام في إحدى المطاعم, وبعدها ذهبت إلى المقبرة؛ لأرى والداي, كنت كمغترب ترك وطنه بالإجبار, ثم عاد له بعد فوات الأوان, جلست بين القبرين وبدأت الحديث لم أصمت لثانية, تكلمت كثيراً, وبكيت كثيراً, حتى لانا كانت تجلس على مقربةٍ مني وتنحب.
أخُلقنا لنبكي الراحلين؟ أم لنبكي الذكريات؟ أم لنبكي على حالنا؟ ودعتهما ووعدتهما أن لا أقطعهما أبداً, لن يمنعني عن زيارتهما أحد بعد الآن.
ذهبنا واشترينا بعض المعلبات والأطعمة, ونواقص المنزل بالمال المتبقي مع لانا, يجب أن نبحث عن عمل من الغد, عدنا إلى منزلنا وأول إجراء قمنا به: بدلنا قفل الباب, وبعد أن أنهينا تهذيب المنزل خلدنا إلى نومٍ عميق, ولأول مرة منذ وفاة والداي أنام دون أن أُفكر بالغد.
استيقظنا باكراً بنشاط, تناولنا إفطارنا وخرجنا نبحث عن عمل, كان الوضع غير مبشر بخير, الرواتب قليلة جداً لا تكفي لشيء, والعمل الذي أعجبنا لم نعجب بصاحبه, ماذا سنفعل الآن؟ اهترأت أقدامنا من السير, لم أعد أستطع. دخلنا إلى إحدى الحدائق؛ لنرتاح قليلاً, جلست على المقعد بتعب, ثم عقدت يداي على الطاولة, وألقيت رأسي عليهما.
-"لانا: ما بك يا باتي؟ طريقنا لا يزال طويل, أتتعبين من الآن؟"
ضحكت ولم أُجبها, أغمضت عيناي وأوقفت التفكير, بعد دقائق سمعت صوتها:
"نعم نحن في الحديقة الغربية "
رفعت رأسي ونظرت نحوها متسائلةً:
"مع من تتحدثين؟"
-"لانا: ما بكِ ؟لِمَ كل هذا الفزع؟ هذه سلمى"
-"بتونيا: هل أخبرتها بشيء؟"
-"لانا: لا, اتصلت بي للسؤال عنكِ؛ لأن هاتفك مغلق"
-"بتونيا: هاتفي مغلق؟ انتظري لأرى, أوه نعم, لقد نفذ شحن بطاريته, هل ستأتي إلى هنا؟"
-"لانا: نعم ستأتي برفقة شهد"
-"بتونيا: هل تعتقدين أن وسيم سيوصلهما؟"
-"لانا: لا أعتقد, فهو مشغول بالصيدلية, وبتخرجه, لماذا تسألين؟"
-"بتونيا:لا يُهمني, سألت لأنني لا أُريد أن أصدفه "
-"لانا: طبعاً, وأنا اقتنعت"
-"بتونيا: إلى أين تذهبين؟"
-"لانا: سأُحضر شيئاً للشرب"
عادت لانا برفقة سلمى وشهد, ويتضح من وجوههن أنها قد أبلغتهن, سأقص لها هذا اللسان الذي بطول حذائي.
-"سلمى: هكذا يا باتي, لم تفكري حتى أن تخبريني بخروجك من الميتم"
-"بتونيا: أنتِ من قاطعتني يا سلمى, وأنا لا أُحب أن أفرض نفسي على أحد"
-"شهد: وأنا يا باتي ما علاقتي بمشاكلكم؟ لِمَ لمْ تُجيبي على رسائلي, واتصالاتي؟"
-"بتونيا: أخبرتكما أنني لا أستطيع التنفس بمركز الأيتام, وأنتما تعلمان بقصتي, لِمَ العتاب؟"
-"سلمى: ووسيم؟"
-"بتونيا: ما به؟"
-"سلمى: لِمَ تطلقت منه؟ ماذا فعل لكِ؟ بكل هذه البساطه تُحبين غيره"
-"لانا: ماذا؟!"
-"شهد: هل هذا صحيح يا باتي؟"
-"بتونيا: لا طبعاً, لقد تحججت بذلك ليتركني وشأني, لا أُريد أن أُفسد مِزاجه, ولن أُعكر صفوكم بمشاكلي "
-"سلمى: أقسم أنكِ مريضة, كيف تفعلين هذا به؟ تعلمين أنه يُحبك كثيراً, ولا يستطيع فُراقك, لماذا يا باتي؟"
-"شهد: لا فائدة من هذا الحديث الآن, لقد خطب رزان وانتهى الأمر "
وكأنها صبّت فوقي أطناناً من الماء البارد:
-" ماذا؟! خطب من؟"
-"شهد: أنا آسفة, لم أكن أعلم أنك لا تدرين"
-"سلمى: سامحك الله يا شهد, بتونيا اهدئي سأشرح لكِ"
-"بتونيا: تأخرنا, يجب أن نعود إلى المنزل, ليُسعدهما الله, لا يُهمني, لم أتركه لأبكي عليه"
-"سلمى: أرجوكِ يا باتي إسمعيني, قبل قليل وصلنا, ما هذا اللقاء السريع؟"
-"بتونيا: مرةً أُخرى إن شاء الله, هيا يا لانا"
-"شهد: أنا آسفة لأنك علمتِ بهذه الطريقة"
-"بتونيا : لا عليك, ليس مهماً"
-"سلمى: أعطني عنوان بيتك إذن لنزورك لاحقاً"
-"بتونيا: لا أستطيع يا سلمى, لا أُريد لأحد أن يعلم أين أقيم؟ وبيتنا عبارة عن غرفة نوم, لا يتسع لضيوف ,بالإذن"
أنت تقرأ
بتونيا زهرة المجرة 🌸
Romanceرواية بتونيا "زهرة المجرة" pdf تأليف نعمه الزعبي.. رواية اجتماعية رومنسية، ستأخُذكَ بعيداً عن عالمِك حتى و إن كنت لا تُحِبُ القراءة؛ فستُعجِبُك روايتي هذه، ستذهبُ معها برحلةٍ طويلة نوعاً ما، لكنك ستُحِبها ستعيش تفاصيلها، ستُضحكُك و تُبكيك، وربما تك...