الفصل الثامن عشر
عبثت أشعة الشمس بعيونها الشاحبة ... بتكاسل رفعت جفنيها... لم تشأ النهوض .... تشعر بدفء غريب افتقدته منذ زمن... صور الليلة الماضية تتراقص أمامها بعذوبتها و مرارتها ... تحاول فصل الحقيقة عن الخيال ... هل كان هنا حقاً ؟ ... هل عاد ليعزف على أوتار قلبها لحنه الذي يعلن بهِ تملكها ؟؟ يأسرها في عينيه الغريبتين ؟ أم أن كل هذه الذكريات .... ما هي إلا صور نسجها خيالها لتهرب من برود روحها و فراغ صدرها و جمود قلبها
جلست في موضعها.... ضمت قدميها لصدرها .... حدقت بضياع لصورتها المنعكسة على المرآة أمامها ... هذه الإنسانة لا تعرفها .... هذه غزت جسدها و طردت روحها ... لتبقى هائمة في الفراغ تصارع عواصف تطيرها كورقة شجر يابسة ....هل تعرف عليها حقاً ..؟؟ هي لا تعرف نفسها .... مالذي راه فيها حتى يلقي عليها بتعويذة مشاعر لا تفهمها .... ما الذي يريده منها ذلك المجنون ؟؟ لما عاد الآن ؟؟ لا يمكن أن تكون كافية له أو لغيره ..ما هي إلى بقايا انسانة محطمة استحالت لأشلاء ... ليس بمقدرتها أن تدخل أي رجل الى حياتها و إن كان هو ... عادت لتغرق نفسها بظلامها الخاص ... أسندت رأسها الى ركبتيها و أغلقت عينها ...
أجفلها صوت انفتاح الباب .... دخل حاملاً الكثير من أكياس التسوق ... ابتسم بعذوبة أربكتها ... أبقى على الباب مفتوحاً ... أخذت تطرف بجفنيها سريعاً لتستفيق مما ظنته حلماً ... قال و هو يخرج مجموعة من الثياب الشتوية الأخاذة من الاكياس :
_ أخيراً استيقظتي حوريتي .... يبدو أنك لم تنامي منذ دهور
نظرت الى الساعة لتجد أن الوقت قد تجاوز الظهيرة بكثير
_ يا الله ...لقد نمت كل هذا الوقت أنا لم ....
صمتت و هي تنظر الى أكوام الثياب التي تكدست على السرير ....قالت باستنكار واضح :
_ ما الذي تفعله ...ما كل هذا .؟؟
قال و هو يخرج معطفاً شتوياً خمري اللون .. بقصة أنيقة ....مع قبعة صوفية تطابق لون المعطف :
_ ملابسك خفيفة لا تناسب أجواء باريس الباردة .... هيا يجب أن ننطلق استعدي ... سوف نغادر ... أمامنا الكثير من الأماكن التي تنتظر قدومنا ...
هزت سلام رأسها رافضة و هي تقول :
_ اعد هذه الثياب الى مكانها ..لا أريد منك أي شيء... لن أغادر هذا الفندق إلا الى المطار
القى قصى بالثياب من يديه جالساً على أحد المقاعد و هو يقول ببرود :
_ حسناً يا سلام لنبقى حبيسين في هذه الغرفة
نظرت إليه بتوتر فهي بالكاد تستطيع التنفس و هو معها في نفس الغرفة
_ أرجوك أن تخرج من هنا .. هذه غرفتي
قال و هو يضرب يد المقعد بيده :
_ لن أتحرك من هنا حوريتي
قالت بجمود و هي تواجهه :
_ ما الذي تريده قصي ؟؟
انحنى الى الامام .... و هو يحدق بعينيها الخاوية يبحث عن تلك الصبية الجذابة بهدوئها ... صاحبة العيون البراقة ... بنظرة سحرته و جعلته صريع هواها:
_ لاشيء يا سلام ... فقط أريد أن تكوني بخير
ابتسمت بألم و هي تضحك ضحكة مكلومة طعنته في الصميم ....عادت لتنهار على حافة السرير و هي تصارع صور الماضي:
_ بخير ؟؟؟ لا مكان لهذه الكلمة في حياتي .. فقدتها منذ أن لوث ذلك الحقير حياتي .... سلبني روحي و جسدي و ...
أسرع قصي اليها يريد ان يسكتها ..جلس على ركبتيه امامها ... لن يتحمل سماعها تتحدث عن ذلك الوغد .. لقد رأى بعينه ما حصل .... صورتها و هي تشد الغطاء على جسدها ... علامات يديه موسومة على كتفيها ... اللون الأزرق يغطي رقبتها ... كلها صور لا تزال جاثمة على صدره.. قال متوسلاً :
_ سلام .... أعلم أن ألمك كبير و جرحك عميق ... لقد سقطتي بقوة ... و الكثير فيك ِقد كسر .... و لكن الآن يجب أن تنهضي .... حياة كاملة بانتظارك ... و ها أنا هنا أتوسل إليكِ أن تسمحي لي بمساعدتك على النهوض
نظرت اليه بجمود :
_ لقد رحلت ..فقط رحلت ... كان يمكنك ان تودعني بدل أن تلقيني كبضاعة تالفة لا قيمة لها ....
اشتعلت النيران بعينيه تهدد بحرق كل ما يحيطها ..قال بصوتٍ مزج الغضب و الألم:
_ القيكِ !!! بضاعة تالفة!!! هذا ما صوره لك عقلك و قلبكِ ... لقد هربتُ سلام ..هربت خوفاً عليكِ من نيران غضبي و جنوني ... لم اتحمل أن أراكِ بهذه الحال .. أحبكِ يا مجنونة ...أنا أحبكِ ....و حبك يؤلمني و يقتلني .. لهذا هربت ...لكن ..لكن .. لم اتمكن من البقاء بعيداً ... لقد ارتبط وجودي بكِ انتِ ....أصبح بعدكِ عني أمراً مستحيلاً
أمتلئت عينا سلام بالدموع حتى فاضت .... أغرقت وجهها بين كفيها تستحضر كل أحزانها و ألمها ... كم تمنى ان يضمها لصدرهِ .... أراد أن يهدهدها كما فعل البارحة بين أحضانه و لكن معها كل حركاته يجب أن تكون محسوبة ...كم يخشى أن يكون سبباً لخوفها .... ان يبعدها عنه بدل ان يقربها ....تركها تبكي حتى هدأت
رفعت وجهها و هي تمسح دموعها تنظر إليهِ .... و رغم دموع الألم التي غشت عينيها ... لكنه لمح بريق حياة خجول يخشى الظهور .... لقد بدأت طريق عودتها ... نظرت لعينيه المطمئنة و ابتسمت بتوتر و هي تبعد نظرها عنه.... كم لمست قلبه بتلك الابتسامة .... وضع يده على كفها المستكينة الى جانبها ... سرت رعشة قوية أوصالها ...شعر بها و لكنه لم يتركها بل زاد من قوة احتضانهِ لكفها ...
_ أرجوكِ سلام دعينا نخرج ... لمكان واحد فقط .... واحد فقط .... و إن كنت على ما يرام سوف نكمل جولتنا ... و إن شعرت بالإضطراب سنعود للفندق فوراً اتفقنا ....؟؟
هزت رأسها موافقة و هي تحاول جاهدة لتسيطر على تلك الرعشة التي غزتها ... وقف قصي و هو يتجه الى الباب قائلاً :
_ سأنتظرك في الخارج ....
أغلق الباب خلفه .... لتتحول ملامح وجهه الهادئة الى تقاسيم تبث الرعب في النفس ... لكم الحائط أمامه بغضب و هو يشد على أسنانِه .... هامساً بصوتٍ مخيف:
_ ما كان يجب أن أقتلك أيها الوغد .... فموتك ألف مرة لن يطفيء النار في صدري ... كان يجب أن أبقيك حياً ... لكنت أذقتك من صنوف العذاب التي يبدو الموت امامها مهرباً جميلاً ...
أغمض عينيه بقوة لترتسم عيون سلام المنكسرة الهائمة الضائعة أمامه ... كم تشبه عيني أمه الراحلة .... في كل ليلة .... عندما كانت تندس الى جانبه في الفراش تبكي حالها بعد ان سلمت نفسها لقاتل جديد يلقي لها ببضع حفنات مقابل أن تترك له حرية نهش لحمها ... نفس العيون ... نفس الألم ... نفس الإنكسار .... نفس الضياع ... محاولة سلام الانتحار تطرق رأسه بعنف يكاد يفجره .. هل يعقل ان تعاود المحاولة ؟؟؟ هل سيفقدها كما فقد أمه ؟؟ ... حاتم و طارق .... كم يتمنى أن يغرقهما في عذاب أبدي لا نهاية له .... إن كان حاتم قد مات .... فالثاني لازال حياً ...
جاء صوتها الهامس باسمه ساحباً إياه من عالمه الأسود .... عاد الى نورها .... خفق قلبه باضطراب .... كان يراها فاتنة بلباسها البسيط ... لكنها الآن و مع ذلك المعطف الخمري اللون و رغم شحوبها تبدو ساحرة .. جذاية ... قلبه يخفق لها منادياً أسمها .... لا يمكن أن بحيد بنظرهِ عنها مهما حاول....
أنت تقرأ
رواية الشبح لكاتبة زهرة نيسان
Romanceمن كان يعلم ان ايقاف يوم طيران واحد واحد فقط يسبب حادثة اختطاف الطائرة الفرنسية وعلى متنها ٢٠٠ راكب ومن ضمنهم السفير الفرنسى قد تؤدى الى اختلاف حاضر ومستقبل ابطالنا وحتى نظرتهم للماضى بصورة لم يتصورها احدهم تاهت خططهم وضاعت تصوراتهم تشابكت خطوط اقد...