الفصل الثلاثون والاخير

488 8 0
                                    

الفصل الثلاثون ( الأخير )
بخطى متعثرة تبحث عن مخرج من هذا الجحيم .... سُحب الدخان تحيط بها من كل حداً و صوب .. . تحجب عنها الرؤيا لتغرق في عالم حيادي لا لون له ... نيران تهب فجأة تلسعها لترتد إلى الخلف مرتعبة ... سعال يكاد يمزق رئتيها و الأكسجين من حولها فقد و اندثر
تقدمت على غير هدى لنقطة غير معلومة الملامح ... و هي تدعو الله أن يخلصها من هذه المحنة و كل تفكيرها يتجه لطفلها الذي تركته خلفها ... فجأة انهار السقف فوق رأسها لتسقط أرضاً غائبة عن هذا العالم .. فتحت عينيها ببطء و هي تشعر بيد دافئة ترفع رأسها لتستقر في حضن تفتقده و تشتاقه و رائحته تتسرب الى خلايا جسدها المنهك ... رفعت رأسها لتلتقي مع عيون لطالما أسرتها بسحرها الخاص ...همست و دموعها تتساقط تعلن حباً و عشق كسير :
_ فراس ... فراس
ابتسم كما أعتاد و هو يمرر يده بين خصل شعرها البني المتناثر على فخذيه ... يجلس على رمال الشاطيء الخاص ... ينهكها بنظراته المشتعلة بعشق و حب ... قالت مرتعشة و هي ترفع يدها تلمس وجهه :
_ نحن في شهر عسلنا فراس !!
أمسك كفها يطبع قبلة طويلة يتنفسها و هو يقول بحزن :
_ أنتِ من أعادنا الى هنا ريتاج ...
نظرت للبحر و هو يتماوج هادئاً ترخي أهدابها و هي تقول بخفوت :
_ خذني معك يا فراس لقد تعبت بدونك ضعفت قوتي و قدرتي على التحمل ... أحتاجك
طوق وجهها بكفيه و هو يقول بثقة و عزم :
_ لا يا ريتاج ... أنت قوية .. قادرة على مواجهة الصعاب ثقي بالله و بنفسك حبيبتي
عضت على شفتيها بقوة و هي ترتجف ..تضم نفسها و تخفي وجهها في حنايا صدره .. طوقها فراس و هو يهمس بجانب أذنها :
_ ريتاج .. أحبك و أشتاق لك و لكن لازال مكانك هناك ... محاربة .. مقاتلة ... صوت من لا صوت له...و جهاد يحتاجك لتزرعي في نفسه قيم و مباديء تضيع .
تمسكت بقميصه و هي تشهق بنعومة تحاول زرع نفسها بين أضلعه ...
انحنى فراس يقبلها بعمق على جبينها و هو يقول بصوتٍ مبحوح كساه الحزن :
_ لقد حان وقت عودتك الآن حبيبتي
رفعت نفسها و هي تهز رأسها رافضة :
_ لا .. لا تتركني مرة ثانية
بدأ يبتعد و هو يقول :
_ انا لن أتركك ريتاج سأبقى حولك دائماً حبيبتي ... و سوف يهتم جهاد و باقي أطفالك بك
_ أطفالي ؟؟
قال فراس و قد اختفي و لم يبقى سوا صوته يتردد بخفوت:
_ أصرخي .. نادي ... سينقذك
شهقت بقوة و هي تسعل بعنف و صوت من بعيد يناديها بأسمها :
_ ريتاج ... ريتاااااااااااااج
فتحت عينيها و هي تستجدي الهواء و الركام غطى نصفها الأسفل حاولت النهوض لم تستطع و قد قيدتها الأنقاض .. أرادت الصراخ ...لكن صوتها خذلها و السعال يشتد أكثر و أكثر يعتصر صدرها ... أغمضت عينيها بقوة و هي تحاول أن تجبر صوتها على العلو :
_ أنا هنا ... انا هنا ...النجدة .. لا أستطيع الحراك .....ربااااااااااه
عاد عالم اللاوعي يسحبها و قد أوشكت على الإستسلام لكن صوته و هو يقول لها بلهفة :
_ ريتاج .... هل تسمعيني ؟
فتحت عينيها الدامعة و المحمرة بشدة :
_ أنت ؟ أرجوك ....قدماي
_ ششش .. ستكونين بخير ..سأزيل الركام عن قدميك لنخرج من هنا
بدأ يرفع الانقاض بعزم متحاملاً على ألم يده المكسورة و قد اختنقت أنفاسه ... فجأة انهار جزء جديد على مقربة منهما لتصرخ ريتاج بجزع
أسرع مهاب بعمله وهو يشجع ريتاح على التحمل و الصبر ... إنهيار آخر كان أقرب جعل مهاب يسقط على يده المكسورة ليصرخ ألماً ... لكنه عاد ليقف و هو يعمل بجد كآلة لا تعرف معنى الشعور ..قالت ريتاج بضعف :
_ أخرج من هنا .. لا فائدة ... أنقذ نفسك
ضحك بخشونة و هو يقول :
_ لا داعي لكلام الأفلام الآن عزيزتي ... سنخرج معاً .. أعدك
أزال آخر حجر عن قدمها لتصرخ متألمة ... رفعها بين ذراعيه يحاول تذكر طريق المخرج ... و هو يتجنب النيران التي انتشرت في كل مكان يحمي و جهها بصدره ... لا يعلم كيف خرج من المكان لتستقبله عاملة في فريق الطواريء لتأخذهما لأحد سيارات الاسعاف ... وضع ريتاج على النقالة في سيارة الاسعاف لينهار بجانبها ممسكاً بيده و قد وصل الألم لحده الأقصى
سمع صوتها الخفيض يناديه ليهب سريعاً و هو يطل عليها و ينظر لوجهها الذي كساه الرماد :
_ ما الأمر ريتاج ؟ هل أنتِ بخير ؟
بحروف متكسرة و متعثرة بسعالها القوي :
_ شكراً لك .. أنت .... بخير؟
ابتسم رغم الألم الطاحن الذي يدق عظام جسده :
_ الحمد لله بخير ... ما دمتِ أنت بخير ...
أسبلت أهدابها مستسلمة لضعفها لتسافر في عالم اللاوعي.... حدق مهاب في جموع الناس الذاهلة و المتخبطة في دوامة المفاجأة و جثث قتلى تصف جنباً لجنب و جرحى يصرخون ألماً و خوفاً ... و النيران و سحب الدخان تلف المكان ... و أصوات التحطم توقف القلب كما لو أن يوم القيامة قد حلّ و الحساب قد آن أوانه... متمازجة مع أصوات الإنذار و سيارات الشرطة و الإطفاء ..... يتسائل عن مصير زياد و حازم ..... و أوامر العقيد بعدم الإتصال بهم تقيدهُ بقسوة
اصطدمت عيناه بذلك الوجه القلق الذي يحدق بوجوه الناجين و الجرحى و القتلى .... يتنقل بينهم بوجل .... هبط مهاب من سيارة الإسعاف يقترب منه ... يتذكر شكوك زياد حوله هو تحديداً .... لكن مظهره في هذه اللحظة كمن حوله من ناجين ..يبحث عن شخصٍ يحبه و يهتم لأمره!!!!
وضع مهاب يده على كتف قصى ليجفل الثاني و هو يحدق بوجه :
_ سيد قصي هل أنت بخير ؟
أجابه باقتضاب و هو يركز بكل ما يحيطه يبحث عن خيط يقوده لأخيه المفقود :
_ بخير ...
_ جميع أعضاء الوفد خرجوا من المبنى سالمين .. هل تبحث عن شخص معين ؟؟
نظر إليه قصي بتدقيق و هو يقول :
_ أنت من ضمن فريق زياد ؟؟
كبت مهاب مشاعره أمام هذا التصريح الواضح و هو يقول :
_ لا أفهم ....
قاطعه قصي بقوة و حزم :
_ زياد مفقود .. ربما كان في المرآب وقت الإنفجار يتنكر بوجه البستاني ... و أنا أبحث عنه منذ نصف ساعة بين القتلى و الجرحى ... لكن بلا فائدة و في حال تم القبض عليه لن يتمكن أي شخص من تخليصه
شحب وجه مهاب بشدة و هو يقول له :
_ ما الذي تحتاجه ؟
_ أحاول الإتصال بياسمين لكن هاتفها مغلق ... أترى الكاميرا المثبتة فوق إشارة المرور أمام المرآب ؟؟
_ حدق مهاب حيث أشار قصي :
_ إنها محطمة تماماً بسبب الإنفجار العنيف
_ صحيح و لكن التسجيلات محفوظة في دائرة السير ... أريد من ياسمين الولوج إليها لنتأكد من أن زياد قد خرج قبل الإنفجار
بيده السليمة أخرج الهاتف من فوره و هو يتصل برقم محدد ضارباً بالتعليمات عرض الحائط ... إن كان زياد سيسقط فليسقط هو معه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يجلس القرفصاء مستنداً على الحائط مسنداً ذراعه على فخذه و وجهه على كفه و الشيب في رأسه تفجر فجأة يفضح فرط خوفه و حمله الثقيل ... كبر فوق عمره سنين كثيرة ... يناجي الله ليحفظها من كل سوء و شر .... قلبه يتمزق بينها و بين من تركها بين يدي ممرضي المشفى النفسي لتستسلم لهم دون مقاومة و قد انطفأ بعينيها بريق الحياة ليسكنها الخواء و الضياع المرعب .. حتى صوت حمزة لم يعدها من ذلك العالم المظلم الذي غابت فيه وحيدة
خرج الطبيب من غرفة الإنعاش و قد كسى العبوس ملامحه ... انتفض سامر من جلسته ليقف بثبات يسأله عن حالها ... قال الطبيب بآلية :
_ لقد قمنا بغسيل معدتها و لكن جسدها تشرب أغلب كمية السم الذي تناولته ... جسدها ضعيف للغاية ...
قال سامر و قد أرتجف صوته و خفت :
_ هل ستنجو ؟ ...
_ سيد سامر ... وضعها صعب لا أنكر ... و هي الآن تصارع الموت ... الأمر يعتمد على قوتها و جلدها
بثقة أجابه سامر :
_ هي قوية ... محاربة .. ستنجو
_ أتمنى ذلك .. أدعو الله لها
همّ الطبيب بالإنصراف ليقطع السامر عليه الطريق :
_ أريد أن أراها
_ أعتذر منك سيد سامر من الممنوع الدخول لغرفة الإنعاش
حدق به سامر بإصرار معلناً أنه لن يتنازل عن طلبه مهما كانت النتائج ... ليستسلم الطبيب و يسمح له بالبقاء معها لخمس دقائق فقط ....
بخطوات متعثرة إقترب من جسدها المحاط بالأجهزة الطبية و صوت مراقب الضغط و النبض يضرب ناقوس الخطر... كم تبدو ضعيفة و بعيدة .... بعيدة للغاية .. شاحبة .... انطفأ نور و جهها ... شعر بروحه تصارعه لتغادر جسده و سكين حادة تطعن قلبه ... رئته توقفت عن تلقي الهواء ... مرر يده بين خصلات شعره بقسوة ..يعض باطن شفته بقهر ... جلس إلى جانبها يحتضن كفها و قد فقد القدرة على كبح دموعه لتتسارع بالتساقط برجولة تشربت العشق .. أخذت الكلمات تتسلل من قلبه لتخرج من بين شفتيه بصوته المبحوح و المجروح :
_ سعااااااد .. آه يا جرح القلب و الروح ... لا تتركيني حبيبتي ... لن أحتمل فراقك مرة أخرى .. ليس بعد أن تذوقت حلاوة قربك و عشقك ... لو تعلمين عدد الليالي التي استيقظت فيها من نومي مفزوعاً أتأكد من وجودك إلى جانبي .... أظنك أحياناً خيالاً يداعب أحلامي لدقائق قصيرة .... أنتظر الواقع ...ليجلدني بنار الفراق و الغربة ... تتسللين من بين أصابعي كماء عذب
بأصابع مرتجفة و ضع يده على رأسها يغلل أصابعه بين خصل شعرها ...ليهمس بحب :
_أرجوكِ تماسكي حبيبتي عودي إلى ... أنا هنا بإنتظارك .... اقتربي مني .. لا تبتعدي ...
دخلت الممرضة و هي تقول بصوت خفيض تخشى أن تجرح هذه المناجاة الفريدة :
_ إذا سمحت .. لقد انتهى وقت الزيارة ..
وقف سامر و هو يقبل جبين سعاد بشفاه متوسلة هامساً :
_ تعالي حبيبتي .. تعالي .... لا تتركيني
قيد دموعه لمقلتيه و هو يخرج من غرفة سعاد تاركاً بقايا روحه تقاتل إلى جانبها
على أمل

رواية الشبح لكاتبة زهرة نيسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن