الفصل الثالث والعشرون

240 5 0
                                    



الفصل الثالث و العشرون
خرجت أماني من المطبخ تجفف يديها من الماء و هي تقول باضطراب :
_ هل تحدثت لزياد ؟؟
بإرهاق و اضح أرخى جسده على الأريكة و هو يقول :
_ اتصلت به و قد ظهر القلق و الغضب على صوته جلياً
جلست أماني بجانبه و هي تفرك كفيها بتوتر :
_ لقد شعرتُ بالدماء تنسحب من وجهها و هي تقف كالمصعوقة .. لم أفهم ما الذي حدث لها فجأة لترحل بعصبية دون أن تلتفت لندائي
نظرت لحمزة بقلق وهو يحاول بضعف الإستواء بجلسته .... أخذ نفساً عميقاً و هو ينظر لعينيها المرتجفتين خوفاً و قلقاً على حاله ....أمسك كفها بين يديه ليقول بصوت مضطرب :
_ أماني حبيبتي .... هناك أمر يجب أن تعرفيه
قالت بقلق كما لو أنها تعلم طبيعة الأمر ...قلبها يحدثها بأن هناك خطباً جللاً سيقع ... حاولت تجاهل هذه الأحاسيس و لكن !!!! .....
_ ما الأمر حمزة ...؟؟ تكلم أرجوك
مرر يده على عنقهِ بتوتر و هو يجاهد نفسه حتى يبوح بحقيقة الأمر :
_ أنا .... سوف أجري عملية بعد بضعة أيام ....
بهت لونها و هي تمسك بذراعهِ دون ان تنطق ... وضع يده على رأسها يمسد شعرها:
_ أنا أعاني من ورم في الرأس .... و سوف يقومون بـ....
قاطعته بصوت مرتجف كما لو كانت تخشى من وقع الكلمة عليها :
_ هل هو حميد أم خبـــ ... خبيث ؟؟
قال و هو يضمها لصدره بقوة :
_ لن يعلموا إلا بعد فحصه مخبرياً
حاولت جاهدة أن تحبس دموعها و هي تسأله :
_ و نسبة نجاح العملية ؟؟
_ 30%
وضعت يدها على فمها و هي تكتم لوعتها و ألمها على حبيب ينسل من بين يديها بصمت مخيف ..ضمته أكثر و أكثر ... تمنت أن تتوحد مع أضلعه و تصبح جزءاً منه لا يفارقه ... إن رحل من الدنيا ترحل معه و إن بقي تبقى
قالت و هي ترتجف :
_ ذلك الطبيب الأحمق كيف لم يكتشف الأمر !!
عض حمزة على شفته بقوة و هو يدرك مقدار الغضب الذي سوف يعصف به
_ لقد علم منذ البداية و لكن انا من رفض العلاج
رفعت رأسها و هي تنظر إليه بغضب يكاد يصرعه قبل المرض... وقفت تذرع الغرفه دون هدف صامتة .... تمنى أن تصرخ بهِ بدلاً من ذلك الصمت الرهيب
وقف ليسد الطريق عليها .... حاولت تجاوزه ولكنه منعها ..قال حمزة و هو يضم وجهها بين كفيه :
_ لا تغضبي مني أرجوك
هربت الدموع من عينيها تكوي قلبه و روحه ..ضمها لصدره النحيل و هو يقبل جبينها و وجهها :
_ أماني دموعك تقتلني ..أرجوكِ لا تغضبي
هزت رأسها على صدره و هي تقول مرتعشة:
_ لن أغضب الآن منك و لكن .... بعد العملية و بعد خروجك سالماً من المشفى سأغضب منك و بشدة .... لن أكلمك لأيام أيها الأحمق الغبي ... سوف أعاقبك بشدة ....و لكن ليس الآن .... ليس الآن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
بيد مرتجفة نقدت سائق سيارة الأجرة ... تطلعت للبرج الضخم الذي يرتفع بشموخ و ينتهي بقبة زجاجية لامعة تضم مطعماً فخماً يطل على المدينة الجميلة
تحفظ تفاصيل المكان بدقة.... كل حجر يحمل ذكرى قديمة ... أول لقاء .... أول حب ... أول جرح ... أول انكسار ...
مع كل خطوة باتجاهه تتسرب ذكرى لوعيها ... لتدرك مدى خطورة الشباك التي تحيط بسلام
مرغمة عادت لذلك اليوم الذي استلمت فيه عملها في رئاسة الوزراء ... كانت تراه يتحرك بنشاط بين الأقسام..كل العيون ترصد ذلك الشاب الوسيم ذو العينان الغريبة .. " سوف يصبح ذا شأن في يوم من الأيام .. و الده سفير سابق و يحظى بدعم المجتمع السياسي ....عبقري ومميز " ... تستمع لهذه الكلمات كل يوم ... ما إن يمر بالقرب منها حتى ترصده نظرتها الخجولة .... لتهرب سريعاً من حضوره تتشاغل بأقرب ملف أو تنقر لوحة المفاتيح بعشوائية ...ليرحل و يترك خلفه رائحة عطرهِ النافذ يتغلغل بحواسها و قلبها ...
لطالما كانت قوية و مسيطرة على عواطفها لم يتمكن أي رجل من كسر القشرة الصلبة التي شكلتها على قلبها .. رفضت الحب و اقتراب الرجال منها ... رأت من والدها قسوة جعلتها ترفض تحكمهم بحياتها ... قوة شخصيتها و اعتمادها على ذاتها كان ما يميزها .... منذ أن استلمت عملها رغم صغر سنها فرضت وجودها و استحقاقها لأي عمل تتسلمه ...
لكن هو كان مختلفاً ... بهدوء و صمت تسلل لقلبها ... أصبحت صورة وجهه و صوته القوي و شخصيته الجذابة أمراً يسكن كيانها و قلبها ... لم يقل شيئاً لها .... لم يخاطبها ... لم ينظر إليها و هي من تجعل أقوى الرجال يقف مذهولاً من جمالها و فتنتها الطاغية .. لكنها كانت راضية ..هي لم تمتلك الجرأة على الحب يوماً ... هي سعيدة بمشاعرها الهادئة
حتى جاء ذلك اليوم .... في هذا المكان " مطعم البرج " تمت إقامة حفل برعاية رئيس الوزراء يشكر فيه طواقم الموظفين و العاملين على مجهوداتهم و إنجازاتهم ... كادت أن لا تذهب لولا إصرار سعاد ... ارتدت فستاناً ذهبياً بأكمام طويلة ... يكشف عن عنقها الطويل المزين بعقد يحمل اسمها ... يلف جسدها برقة و عذوبة .... يضيق عند خصرها .... ليعود و اسعاً ....يحف ركبتيها بهدوء يطيح بالعقول .... تركت شعرها مسترسلاً يغطي ظهرها تزينه بمشيك ذهبي... تقدمت تبحث بعينيها عن صديقاتها في القسم ..تجاهلت العيون اللاهثة التي تنهشها دون حياء ... جلست بسرعة و هي تبتسم بخجل ....نظرت لطاولة كبار الموظفين ..كان جالساً بجانب الرئيس يتحدث إليه و ابتسامة متكلفة ترتسم على شفتيه تزيد من قوة حضوره ... كم يبدو وسيماً و ملفتاً دون عناء ... في هذه اللحظة رفع عينيه إليها يضبطها بالجرم المشهود ... عقلها يحثها على تحويل مسار نظرها و لكنها كانت مأسورة به .. هو ينظر إليها حقاً ... هو يراها ..هي ليست خيالاً ..أم أن عقلها رسم لها صوراً تتمناها فقط ... ارتفع صوت رئيس الوزراء يلقى كلمته الترحيبية ....أفاقت من حلم يقظتها لتركز نظرها على المسرح .... تضرج وجهها بحمرة ناعمة ... قلبها كان يخفق سريعاً مضطرباً بطريقة لم تعرفها يوماً ...
بعد ساعة من بداية الحفل غادر الرئيس الحفل و من بعدهِ انسحب المدراء و كبار الموظفين .... أصبح الحفل أكثر مرحاً و أقل رسمية .. كانت ياسمين تتبادل الأحاديث المرحة مع الفتيات و قد هدأت بعد مغادرته أخيراً ... حاول زملائها الرجال دعوتها للرقص معهم و لكنها كانت ترفض بأدب دفعهم للتراجع رغم النيران التي تشتعل بصدورهم
أخذ الحفل منحنى أكثر صخباً وقد تأخر الوقت .... مما جعل أغلب الفتيات ينسحبن من الحفل و كانت ياسمين منهن ... اقتربت من سيارتها وسط الظلام وحيدة .... لكن وقع الخطوات خلفها جعلها تلتفت بقلق .. ما أن رأت وجه القادم حتى هدأت :
_ لما غادرتِ الحفل باكراً ؟؟
_ علي أن أعود إلى المنزل عن إذنك
أمسك ذراعها سريعاً و هو يقول :
_ انتظري أرجوكِ
نفضت يده عن ذراعها سريعاً و هي تحذره بنظراتها
رفع يده و هو يقول :
_ اعتذر لم أقصد أن أزعجك
قالت بحدة و هي تتابع سيرها نحو السيارة :
_ عن إذنك مصطفى
وقف امام السيارة يمنعها من فتح الباب :
_ توقفي عن التصرف بتعالي ياسمين
قالت بغضب و هي تشد على كفها وقد فاحت رائحة الكحول منه :
_ ابتعد عن طريقي .. أنت ثمل ... انا أعاملك بكل احترام كزميل في العمل
قال و هو يقترب منها بواقحة و فظاظة :
_ و انا لا أريدك أن تعامليني كزميل .. أريدك عشيقتي
اقترب منها حتى كاد يلامس جسدها ... لم تحتمل أكثر صفعته على وجهه و هي تصرخ :
_ انت وقح قليل الذوق والأخلاق
اشتعل الغضب في عينيه و هو يمسك ذراعها قائلاً :
_ سأكسر لك ذراعكِ و أقص لسانكِ السليط و أتعرف على تفاصيل جسدكِ عقاباً على فعلتك
داست قدمه بكعب حذائها وهي تدفعه بعيداً .. أسرعت الى سيارتها تفتح بابها و لكنه كان أسرع أمسك كتفيها و هو يقول :
_ جنيتي على نفسك يا جميلة
غطت وجهها تحمي نفسها من شفتيه النهمتين ...شعرت بالإختناق و هي تصرخ ...
_ توقف .. توقف ....لا تقترب أيها الحقير
شعرت بالهواء يلفح وجهها وصراخ مصطفى يصك أذنيها .. فتحت عينيها لتجد جسده ملقى بعيدا على الرصيف المقابل و ذلك الضخم يكيل له الضربات و الركلات و عيناه تشتعلان بغضب أسود ...
أسندت جسدها على السيارة و هي تجاهد لالتقاط انفاسها و الدموع تملأ عينيها ...انهارت على الأرض الإسفلتية تغطي فمها و هي تردد بصوت خفيض
_ يكفي ..يكفي
التقط قصي كلماتها المرتجفة مما جعله يتوقف عن ضرب مصطفى ... تركه فاقد الوعي .... أسرع إليها يقول بقلق :
_ هل أنتِ بخير ؟؟
أومأت رأسها بنعم و هي تحاول ضبط إيقاع تنفسها المتسارع ..أمسك كفها و ساعدها لتركب سيارتها ..جلس القرفصاء أمام الباب ينظر إليها و هو يقول بصوته الرخيم :
_ ما كان عليك السير وحيدة بهكذا وقت
قالت و هي تمسح دموعها بكفها و تستجمع قوتها :
_ لم أتوقع أن يحدث هذا
قال و هو يخرج من جيبه منديلاً حريراً :
_ لا تقلقي ..سوف أحاسبه حساباً عسيراً .. لن يزعجك بعد اليوم
مسح الدموع التي تبلل وجهها بالمنديل الحريري ... و هو يغرق في عينيها ....تجمد قلبها كما كل خلايا جسدها من لمساته الدافئة... لم يكن قريباً منها هكذا من قبل .... تشعر بتيار كهربائي لذيد يسري في دمها ...
قال و هو يضع يده على رأسها يداعب شعرها كما لو كانت طفلة :
_ آآآآآآ يا ياسمين ...لقد حاولت أن أبتعد عنكِ ولكن ... أنتِ خطر على قلبي .. و أنا خطر عليك

رواية الشبح لكاتبة زهرة نيسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن