ريتشل

680 13 1
                                    

الفصل الأول
( ريتشل )

الجمعة، 5 تموز\يوليو 2013
في الصباح
كومة ملابس إلى جانب سكة القطار. شيء لونه أزرق فاتح ـ لعله قميص ـ متداخل مع شيء أبيض وسخ. لعله بعض القمامة... لعله
شيء سقط من حمولة قطار من القطارات في هذه الأجمة المشعثة الصغيرة على حافة الطريق. أو لعله شيء تركه المهندسون الذين
يعملون على هذا الجزء من سكة القطار. كثيراً ما يأتي المهندسون إلى هنا. أو لعله يمكن أن يكون شيئاً آخر. كانت أمي تقول لي إن لديّ
مخيّلة مفرطة النشاط. كان توم يقول هذا أيضاً! الأمر ليس بيدي! أرى شيئاً مهمَلاً ملقًى هنا أو هناك، قميصاً وسخاً أو فردة حذاء
وحيدة، فلا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في الفردة الأخرى، وفي القدمَين اللتَين كانتا تنتعلانهما.
اهتزّ القطار، وكشطت عجلاته السكة عائدةً إلى الحركة. اختفت كومة الملابس الصغيرة عن ناظري، ورحنا نتقدم صوب لندن متحركين
بسرعة عَدّاء نشيط. أطلق شخص في المقعد الذي خلفي زفرة انزعاج يائس. إن قطار الثامنة وأربع دقائق، القطار البطيء من آشبوري
إلى إيستون قادر على امتحان صبر أكثر المسافرين اعتياداً عليه. من المفترض أن تستغرق الرحلة أربعاً وخمسين دقيقة، لكنها نادراً ما
تكتفي بذلك. إن هذا المقطع من السكة قديم وبالٍ تعطّله مشاكل الإشارات وأشغال هندسية لا تنتهي.
مضى القطار قُدُماً، ثم مَرّ مهتزّاً بمستودعات وخزان مياه وجسور وسقائف وبيوت متواضعة على الطراز الفيكتوري تُدير ظهورها إلى
سكة القطار.
أسندت رأسي إلى نافذة العربة. ورحت أنظر إلى هذه البيوت تجري أمامي مثل صور متعاقبة في فيلم تمَّ تسريعه. أرى هذه البيوت كما
لا يراها غيري؛ بل إن أصحابها أنفسهم لا يرونها من هذه الزاوية. أحظى، مرتين كل يوم، بنظرة إلى حياة أشخاص آخرين... لحظاتٍ
فقط. ثمّة شيء يريح النفس في رؤية أشخاص غرباء آمنين في بيوتهم.
رُنّ هاتف أحد الأشخاص؛ صوت أغنية مندفعة مرحة مشجّعة. تباطأ صاحب الهاتف في الإجابة. وراحت تلك الأغنية تصدَح وتصدَح
من حولي. أستطيع أن أشعر برفاق الرحلة المسافرين معي يتململون في مقاعدهم، يقلّبون صفحات جرائدهم، ينقرون على مفاتيح
حواسيبهم المحمولة. ترنّح القطار وتمايل منعطفاً، ثم تباطأت حركته عند اقترابه من إشارة حمراء. حاولت ألّا أرفع رأسي لأنظر؛
حاولت القراءة في الجريدة المجّانية التي وزّعت علينا في المحطة؛ لكن الكلمات غامت أمام عينَيّ، ولم يفلح شيء في إثارة اهتمامي.
في رأسي، لا أزال قادرة على رؤية تلك الكومة الصغيرة من الملابس راقدة عند حافة سكة القطار... متروكة وحدها.
في المساء
فار الجن الممزوج بالتونيك مندفعاً حتى فتحة العبوة عندما رفعتها إلى فمي وأخذت رشفة منها. كان بارداً لاذعاً مثل طعم أول عطلة
أمضيتها مع توم في قرية صيادين على ساحل بلاد الباسك عام 2005. كنا نسبح صباحاً مسافة نصف ميل حتى الجزيرة الصغيرة في
الخليج؛ ثم نمارس الحب على شواطئ خَفية سرية. وكنا نجلس بعد الظهر في أحد البارات نشرب الجِنّ القوي اللاذع مع التونيك
ونراقب جماعات من لاعبي كرة القدم على الشاطئ يلعبون ألعاباً فوضوية فوق رمال ترك المّدّ آثاره عليها.
أخذت رشفة أخرى، ثم أخرى. فرغ نصف العبوة الآن؛ لكن لا بأس! لديّ ثلاث غيرها في كيس من النايلون عند قدمَيّ. إنه يوم الجمعة...
وهكذا، لست مضطرة إلى الإحساس بالذنب لأنني أشرب في القطار. الشكر لله، إنه يوم الجمعة... هنا يبدأ المرَح!
سوف تكون نهاية أسبوع لطيفة. هكذا يقولون. شمس جميلة، وسماء من غير غيوم. في سالف الأيام، كان يمكن في يوم مثل هذا أن
نذهب بالسيارة إلى غابة كورلي مع بعض الطعام وبعض الجرائد؛ ثم نُمضي بعد الظهر كله مستلقين على بطانية تحت أشعّة الشمس
المبرقشة، ونشرب النبيذ. أو لعلنا يمكن أن نظل هناك فنقيم حفل شواء مع الأصدقاء؛ أو نذهب إلى ذا روز ونجلس في حديقة البيرة
فتتوهّج وجوهنا بفعل الشمس والكحول عند اقتراب المساء، ثم نعود إلى البيت شابكين ذراعَينا، ونغفو على الأريكة.
أشعّة شمس جميلة، وسماء من غير غيوم، ولا أحد ألعب معه، ولا شيء أفعله. يصبح العيش هكذا، مثلما أعيش الآن، أكثر صعوبة في
الصيف عندما يكثر ضياء الشمس وتتراجع مساحة الظلمة... عندما يخرج الجميع، هنا وهناك... عندما يصبح كل شخص سعيداً إلى
درجة هجومية فاضحة. شيء مضنٍ، شيء يجعلك حزيناً إن لم تكن جزءاً منه.
لا تزال عطلة نهاية الأسبوع ممتدة أمامي؛ ثمان وأربعون ساعة فارغة يجب أن أملأها. أرفع العبوة إلى فمي من جديد... ما عاد فيها أيّ
قطرة
. الاثنين 8 تموز\يوليو 2013
في الصباح
تجعلني العودة في قطار الثامنة وأربع دقائق أشعر بانفراج. ليس الأمر أنني لا أطيق انتظار الوصول إلى لندن وبدء أسبوع العمل، بل أنا
لا أريد أن أكون في لندن أصلاً. لا أريد إلا أن أجلس في مقعد القطار الطري الناعم الخفيض، وأشعر بدفء أشعة الشمس منصَبّةً عبر
النافذة، وباهتزاز العربة أماماً وخلفاً، ثم أماماً وخلفاً... ذلك الإيقاع المريح لعجلات القطار على السكة. أفضّل أن أكون هنا أنظر إلى
البيوت عند سكة القطار... أفضل أن أكون في هذا المكان أكثر من أي مكان آخر.
ثمة إشارة معطلة على هذا الخط، عند منتصف طريق رحلتي تقريباً. أظن أنها لا بد أن تكون معطلة لأنني أراها حمراء دائماً. نتوقف
عندها معظم الأيام. نتوقف لثوانٍ معدودة أحياناً، ودقائق لا تنتهي في أحيانٍ أخرى. إذا كنت جالسة في العربة (د)، وهذا ما أفعله غالباً،
ثم توقف القطار عند تلك الإشارة (هذا ما يفعله معظم الأحيان)، فإنني أحظى بمشهد ممتاز للبيت الأثير عندي، البيت رقم 15.
البيت رقم 15 يشبه البيوت الأخرى الموجودة على هذا المقطع من سكة القطار: بناء فيه بيتان متلاصقان على الطراز الفيكتوري،
ارتفاعه طابقان، مطلٌ على حديقة ضيّقة معتنى بها تمتد نحو عشرين قدماً ثم تنتهي بنوع من سياج تقع خلفه بضعة أمتار من أرض لا
يملكها أحد... ثم تأتي سكة القطار. أعرف هذا البيت عن ظهر قلب. أعرف كل قرميدة فيه. أعرف لون الستائر في غرفة النوم العلوية
(لون بنّي فاتح عليه رسوم مطبوعة بالأزرق الغامق). وأعرف أن الطلاء متقشِّر على إطار نافذة الحَمّام؛ وأن ثمة أربع قرميدات مفقودة
من قسم من السقف إلى الجهة اليمنى.
وأعرف أن ساكنَيْ هذا البيت، جيسون وجِس، يخرجان في أمسيات الصيف الدافئة من النافذة الخفيضة الكبيرة ليجلسا على شرفة
تمت إضافتها فوق امتداد سقف المطبخ. إنهما زوج ذهبي... رائع! رجل داكن الشعر متين البنية، قوي، لطيف، عطوف... له ضحكة رائعة.
وأما هي فامرأة عصفورة صغيرة، امرأة جميلة، شاحبة الجلد، لها شعر أشقر جزَّته قصيراً. إن لعظامها بنية مناسبة لهذا النوع من
الجمال؛ ولها وجنتان بارزتان مرشوشتان بالنمَش، وفكّ جميل.
رحت أبحث عنهما بينما كنا عالقين عند الإشارة الحمراء. غالباً ما تكون جس هناك، في الخارج، عند الصباح، في أوقات الصيف خاصة.
تكون جالسة... تشرب قهوتها. أحياناً، عندما أراها هناك، أشعر أنها تنظر إليّ، تبادلني النظر. وأود أن ألوِّح لها بيدي. لعلي أفرط في
التركيز على ذاتي! لا أرى جيسون دائماً فهو يغيب كثيراً، في العمل. لكن حتى إذا لم يكونا هنا، فإنني أفكر في ما يفعلانه الآن. لعلهما
قرَّرا هذا الصباح أن يحظيا بعطلة إضافية؛ ولعلها ظلت مستلقية في السرير بينما ذهب جيسون لإعداد الفطور. أو لعلهما ذهبا للركض
معاً لأن هذا ما يفعلانه كثيراً. (كنا نركض معاً أيام الأحاد، أنا وتوم. كنت أركض بأكثر من سرعتي المعتادة؛ وكان يركض بنصف سرعته
تقريباً... فقط حتى نتمكن من الركض جنباً إلى جنب). أو لعل جس في الأعلى، في الغرفة الإضافية... لعلها ترسم، أو لعلهما في الحمام
معاً، تحت تيار الماء المندفع... يداها مضغوطتان على الجدار، وكفّاه على ردفيها.
في المساء
كنت مستديرة صوب النافذة بعض الشيء مولية بقية العربة ظهري. فتحت واحدة من زجاجات شيمين بلاك الصغيرة التي اشتريتها
من متجر ويسلستوب في إيستون. ليست باردة؛ لكنها وافية بالغرض. سكبت قليلاً في كأس بلاستيكية ثم أغلقت الزجاجة ودسستها
في حقيبة يدي. ليس الشرب في القطار مقبولاً كثيراً يوم الاثنين، إلا إذا كان المرء يشرب بصحبة أشخاص آخرين. لكني لست كذلك!
ثمة وجوه مألوفة في هذا القطار؛ أشخاص أراهم كل أسبوع، ذاهبين وعائدين. أعرف وجوههم، ولعلهم يعرفون وجهي أيضاً. رغم هذا،
لا أعرف إن كانوا يرونني، إن كانوا يرون حقيقتي.
إنها أمسية بهية... دافئة، من غير أن تكون دافئة كثيراً. بدأت الشمس انحدارها الكسول؛ وراحت الظلال تتطاول. بدأ ضياء الشمس
المنكسف يصبغ الأشجار بلون الذهب. القطار ماضٍ في طريقه. مررنا سريعاً بمنزل جيسون وجس. عبرا أمامي في لمحة خاطفة من
ضوء الشمس المسائي. أراهما أحياناً... ليس كثيراً... من هذا الجانب من سكة القطار. إذا لم يكن على الخط الآخر قطار يسير في
الاتجاه المعاكس، وإذا كانت سرعة قطارنا منخفضة إلى الحد الكافي، فإنني أستطيع أحياناً أن ألمحهما جالسَين على شرفتهما. أما إذا لم
أرهما ـ مثلما حدث اليوم ـ فإنني أستطيع تخيّلهما. ستكون جس جالسة، رافعةً قدميها على الطاولة، هناك على الشرفة... وفي يدها كأس
نبيذ. وسيكون جيسون واقفاً خلفها واضعاً يديه على كتفَيها. أستطيع تخيل الشعور بهاتيْن اليدَين، الشعور بوزنهما، الشعور بهما...
حانيتَيْن، تبثّان اطمئناناً في النفس. أحياناً، أضبط نفسي محاولة تذكر المرة الأخيرة التي كان لي فيها احتكاك جسدي له معنى مع
شخص آخر... مجرد معانقة، أو ضغطة ودود على يدي... فينقبض قلبي.
الثلاثاء، 9 تموز\يوليو 2013
في الصباح
لا تزال كومة الثياب في مكانها منذ الأسبوع الماضي. تبدو أكثر اهتراء وتعفّراً بالتراب مما كانت قبل أيام. قرأت في مكان ما أن القطار
يمكن أن ينزع عنك ملابسك عندما يصدمك. ليس هذا أمراً غير مألوف... الموت بسبب القطار. من مئتين إلى ثلاثمئة حادثة كل سنة...
هكذا يقولون. هذا يعني حادثة واحدة على الأقل كل يومين. لست واثقة من عدد الحالات التي هي حوادث فعلاً. نظرت بعناية عندما
مر القطار بطيئاً بتلك الملابس؛ نظرت باحثة عن دم عليها، لكني لم أرَ دماً!
توقف القطار عند الإشارة... كالمعتاد. أرى الآن جس واقفة في الفناء أمام الأبواب الفرنسية. إنها ترتدي فستاناً متألّقاً من قماش ملوَّن.
قدماها عاريتان. إنها تنظر من فوق كتفها... إلى داخل المنزل. لعلها تكلّم جيسون الذي يحضّر الإفطار. ظلت عينايَ معلقتَين بجس،
ببيتها، بينما بدأ القطار حركته من جديد. ما كنت أريد رؤية البيوت الأخرى. ما كنت أريد، خاصة، أن أرى ذلك البيت، بعد أربعة بيوت من
بيتها... ذلك البيت الذي كان بيتي... بيتي أنا!
كنت أعيش في البيت رقم 23 في شارع بلنهايم... خمس سنوات... كنت هانئة سعيدة. لا أستطيع النظر إلى هذا البيت الآن. كان بيتي
الأول. ما كان بيت والديّ؛ وما كان بيتاً مشتركاً مع طلبة آخرين... كان بيتي أنا، بيتي الأول. لا أستطيع احتمال النظر إليه الآن؛ بل إنني
أستطيع... إنني أنظر إليه... أريد أن أنظر إليه... لا أريد أن أنظر إليه... أحاول ألا أنظر إليه. أقول لنفسي كل يوم لن أنظر إليه، لكني أنظر
إليه كل يوم. لا أستطيع منع نفسي رغم عدم وجود أي شيء أريد النظر إليه هناك، رغم أن كل ما أراه يؤلمني. رغم أني أذكر، بوضوح
تام، كيف أحسست عندما رفعت رأسي مرة ونظرت فلاحظت أن الستارة ذات اللون الفاتح في غرفة النوم العلوية قد اختفت وحل
محلها شيء ناعم وردي اللون... رغم أني لا أزال أذكر الألم الذي أحسسته عندما رأيت آنّا تسقي شجيرات الزهور قرب السياج، ورأيت
قميصها مشدوداً على بطنها المنتفخة... عضضت على شفتي حتى نزفت دماً.
أغمض عينيَّ بإحكام وأعد حتى العشرة، حتى الخامسة عشرة، حتى العشرين. هكذا، لقد انقضى الأمر الآن... ولم أعد أستطيع أن أرى
شيئاً. يندفع القطار داخلاً محطة ويتني ثم يخرج منها ويبدأ تزايد سرعته مع ذوبان الضواحي واندماجها بمنطقة شمال لندن المسخمة
الوسخة. وتحل محل البيوت ذات الشرفات جسور عليها لوحات وبنايات فارغة بنوافذ محطمة. يزداد قلقي كلما اقتربنا من إيستون؛
ويزداد إحساسي بالضغط... كيف سيكون هذا اليوم؟ ثمة مبنى إسمنتي قذر واطئ السقف إلى الناحية اليمنى قبالة سكة القطار قبل
خمسمئة متر من دخولنا إيستون. وعلى صفحة هذا البناء رسم أحدهم سهماً متّجهاً صوب المحطة. وإلى جوار ذلك السهم كلمتان:
الرحلة انتهت! أفكر في كومة الملابس إلى جانب السكة فأشعر بانقباض في حلقي.
في المساء
ذلك القطار الذي ينقلني في المساء، قطار الخامسة وست وخمسين دقيقة، أبطأ قليلاً من قطار الصباح ـ يستغرق ساعة واحدة ودقيقة
واحدة، أي سبع دقائق كاملة أكثر مما تستغرقه رحلة قطار الصباح رغم عدم توقفه في أي محطة إضافية. لا مانع عندي لأنني لا
أستعجل كثيراً العودة إلى آشبري في المساء مثلما لا أكون مستعجلة كثيراً عند دخول لندن في الصباح. ليس هذا لأنها آشبري تحديداً،
رغم أن المكان نفسه سيىء بما فيه الكفاية... بلدة جديدة من الستينات منتشرة مثل ورم في قلب منطقة باكينغهامشاير. ليست أحسن
ولا أسوأ من عشر بلدات أخرى مثلها... يغص مركزها بالمقاهي ومحلات الهواتف المحمولة وفروع متاجر جي دي سبورتس، ويحيط بها
عدد من الضواحي، يأتي بعدها مبنى سينما متعدد الصالات ومتجر تيسكو الضخم خارج البلدة. أعيش في بناية «ظريفة» «جديدة»
واقعة في نقطة يبدأ عندها ذوبان قلب المدينة التجاري في ضواحيها السكَنيّة. لكن هذا ليس بيتي! بيتي هو ذلك البيت على الطراز
الفيكتوري عند سكة القطار؛ البيت الذي كنت أملكه جزئياً. وأما في آشبري، فأنا لست مالكة، ولا حتى مستأجرة ـ إنني أستأجر غرفة
واحدة، أسكن غرفة نوم إضافية صغيرة في بيت كاثي اللطيف المسالم المكوَّن من طابقين.. وفيه أخضع لجَلالها وعطفها.
كنت وكاثي صديقتين في الجامعة. كنا نصف صديقتين في الحقيقة، وما كان تقاربنا أكثر من ذلك أبداً. كانت خلال سنتي الجامعية
الأولى، تعيش في غرفة على الناحية الثانية من الممر، قبالة غرفتي. وكنا طالبتَين في الفرع نفسه. هذا ما جعلنا حليفتَين طبيعيتين في
الأسابيع القليلة المضنية الأولى قبل أن نلتقي أشخاصاً نجد مشتركاتٍ أكثر معهم. ما كنا نتقابل كثيراً بعد السنة الأولى؛ وصارت لقاءاتنا
أقل بعد الكلية فلا نلتقي إلا في حفلات زفاف عارضة. لكن كاثي، وقت حاجتي تماماً، كانت لديها غرفة خالية تريد تأجيرها. بدا لي
الأمر معقولاً. وكنت واثقة تماماً من أنني لن أمضي عندها إلا شهرين اثنين... ستة شهور على الأكثر. وما كنت أعرف فعل شيء آخر غير
التقاط هذه الفرصة. لم أعش وحدي أبداً من قبل: انتقلت من الوالدين إلى شركاء السكن في الجامعة، إلى توم. وهذا ما جعلني أرى
فكرة السكن مع كاثي فكرة مغرية مقنعة. هذا ما جعلني أوافق. كان هذا قبل سنتين تقريباً.
الأمر ليس سيئاً! إن كاثي شخصية لطيفة... لطيفة بطريقة تفرض نفسها عليك فرضاً. إنها تجعلك تلاحظ لطفها. بل هو مكتوب عليها
بأحرف كبيرة؛ إنه طبيعتها المحدِّدة لها والتي تجد حاجة إلى اعتراف الآخرين بها... في كل يوم تقريباً. يكون هذا متعباً أحياناً! لكن
الأمر ليس شديد السوء لأنني أعرف خصالاً سيئة كثيرة أخرى يمكن أن تكون موجودة في شركاء السكن. لا، ليس الأمر متعلقاً بكاثي،
ولا هو متعلق حتى بآشبري نفسها. ما يزعجني أكثر من أي شيء آخر في وضعي الجديد هذا هو فقدان السيطرة (لا أزال أعتبره وضعاً
جديداً رغم مرور سنتين). أشعر دائماً بأنني ضيفة في بيت كاثي... أشعر بذلك حتى في طريقة ترحيبهم بي عند الباب. أحس هذا في
المطبخ حيث نتزاحم عندما نطبخ وجباتنا المسائية. أحس هذا عندما أجلس إلى جانبها على الأريكة ويكون جهاز التحكّم في قبضتها.
غرفة نومي الصغيرة هي الحيّز الوحيد الذي أحسّه لي أنا... وحدي. تلك الغرفة التي حُشر فيها سرير مزدوج وطاولة مكتب لا يتركان إلا
فسحة صغيرةً للمرور بينهما. غرفة مريحة إلى حد معقول، لكنها ليست مكاناً يحب المرء أن يكون فيه. وهذا ما يجعلني أتأخر في غرفة
المعيشة أو على طاولة المطبخ... وأكون عندها سريعة الانزعاج تائهة العزم. فقدت سيطرتي على كل شيء، حتى على تلك الأماكن في
رأسي أنا.
الأربعاء، 10 تموز\يوليو 2013
في الصباح
الحرارة في ازدياد. لم تتجاوز الساعة الثامنة والنصف، لكن النهار بات قريباً. صار الهواء ثقيلاً بما فيه من رطوبة. ليت عاصفة تهب
الآن! ... لكن السماء صافية إلى درجة الوقاحة... شاحبة، زرقاء مائية اللون. أمسح العرق عن شفتي العليا. أتمنى لو أنني تذكرت شراء
زجاجة ماء.
لا أستطيع رؤية جيسون وجس هذا الصباح. يجعلني هذا أحس بخيبة حادة. غباء... أعرف هذا! ألقي نظرة مدققة على البيت، لكني لا
أرى شيئاً. الستائر مفتوحة في الطابق السفلي، لكن الأبواب الفرنسية مغلقة ينعكس ضوء الشمس على زجاجها. وأما النافذة المنخفضة
في الطابق العلوي فمغلقة أيضاً. لعل جيسون في عمله. إنه طبيب، أظن هذا! لعله يعمل مع إحدى المنظمات الناشطة في الخارج.
يستدعونه دائماً. حقيبته جاهزة فوق الخزانة. ثمة زلزال في إيران أو تسونامي في آسيا... وهو يترك كل شيء. يأخذ حقيبته ويمضي
إلى مطار هيثرو خلال ساعات... جاهزاً للطيران وإنقاذ الأرواح.
أما جس، بثوبها الملوَّن الجريء وحذائها الرياضي وجمالها، وهيئتها كلها، فتعمل في مجال الأزياء. أو لعلها تعمل في الموسيقى، أو
الإعلان ـ لعلها مصففة شعر أو مصوّرة. إنها رسّامة جيدة أيضاً، ولديها موهبة فنية وافرة. أستطيع رؤيتها الآن، في تلك الغرفة الإضافية
في الأعلى... تصدح الموسيقى صاخبة... النافذة مفتوحة، وفرشاة الرسم في يدها، ولوحة رَسم عليها قماشة ضخمة مستندة إلى
الجدار. سوف تبقى هناك حتى منتصف الليل. يعرف جيسون أن عليه ألا يزعجها أثناء عملها.
لا أستطيع رؤية شيء في الحقيقة...! لا أعرف إن كانت ترسم، أو إن كانت ضحكة جيسون رائعة، أو إن كانت وجنتا جس جميلتين. لا
أستطيع رؤية وجنتيها من هنا، ولم أسمع صوت جيسون أبداً. ما رأيتهما عن قرب لأنهما ما كانا يعيشان في هذا البيت عندما عشت أنا
في هذا الشارع. انتقلا إلى هنا بعد ذهابي بسنَتَين... عليّ أن أعرف متى انتقلا على وجه التحديد. أظن أنني بدأت ألاحظهما منذ سنة
تقريباً. ثم... شيئاً بعد شيء، على مر الشهور... صارا شخصين مهمَّين عندي.
لا أعرف اسمَيهما أيضاً! أطلقت عليهما هذين الاسمين بنفسي. سمّيته جيسون لأنه وسيم مثل نجوم السينما البريطانيين؛ ليس مثل
جوني ديب أو براد بيت، بل مثل فيرث أو جيسون إيزاكس. كما أن اسم جس مناسب لاسم جيسون. جيسون يناسب جس أيضاً! إن
اسمها مناسب لجمالها وخلوّ بالها. إنهما منسجمان، خُلقا ليكونا معاً. وهما سعيدان أيضاً... أستطيع أن أقول هذا. إنهما مثلما اعتدت أن
أكون؛ إنهما توم وأنا قبل خمس سنوات. إنهما ما فقدته... إنهما كل ما أريد أن أكونه.
في المساء
قميصي ضيق إلى حد مزعج: كانت أزراره ضاغطة على صدري. وكان متسخاً بعض الشيء، مع بقعتين رطبتين تحت الإبطين. أشعر
بحكة في حلقي وفي عيني. لا أريد أن تطول الرحلة هذا المساء. إنني توّاقة إلى الوصول إلى البيت، توّاقة إلى خلع ملابسي وإلى
الاستحمام، توّاقة إلى أن أكون حيث لا ينظر أحد إليّ.
أنظر إلى الرجل في المقعد المقابل. إنه في مثل سني تقريباً، أوائل الثلاثينيات... أو أواسطها. له شعر داكن بدأ يشيب عند الصدغين. إنه
شاحب الجلد يرتدي بدلة، لكنه علّق السترة على المقعد المجاور له. بين يديه جهاز ماك بوك، رقيق كأنه ورقة، مفتوح أمامه. إنه بطيء
في الطباعة على الجهاز. في معصمه الأيمن ساعة فضّية كبيرة ـ تبدو فاخرة، لعلها من طراز بيرتلينغ. إنه يمصّ خده من الداخل. لعله
متوتر... أو لعله يفكر بعمق! لعله يكتب رسالة مهمّة إلى أحد الزملاء في مكتب الشركة في نيويورك... أو لعله منهمك في اختيار الكلمات
المناسبة لرسالة انفصال عن صديقته. يرفع رأسه وينظر إليّ على نحو مفاجئ فتلتقي عيوننا. تنتقل نظراته فوقي، ثم إلى زجاجة النبيذ
الصغيرة على الطاولة أمامي. يشيح بوجهه بعيداً. ثمة شيء في إطباقة فكَّيه يوحي بالنفور. إنه يجدني منفِّرة!
أنا لست الفتاة التي كنتها من قبل. لم أعد مرغوبة. إنني منفِّرة على نحو ما. ليس هذا لأن وزني ازداد، أو لأن وجهي منتفخ نتيجة
الشرب وقلة النوم. لا... المسألة هي أن الناس كأنهم... كأنهم يستطيعون رؤية الخراب الذي أصابني. يستطيعون رؤيته في وجهي، في
طريقة تصرّفي، وفي حركتي.
ذات ليلة في الأسبوع الماضي، عندما خرجت من غرفتي لأجلب كأساً من الماء، سمعت كاثي تتحدّث إلى صديقها داميين في غرفة
المعيشة. وقفت في الممر وأصغيت. كانت كاثي تقول: «إنها وحيدة. وأنا قلقة عليها حقاً. ليس حسناً أن تكون وحدها هكذا طيلة
الوقت». ثم أضافت: «أليس لديك أحد في العمل... ربما... أو في نادي الركبي؟».
قال داميين: «من أجل ريتشل؟ لا أقصد السخرية يا كاثي، لكنني لست واثقاً من أنني أعرف رجلاً بلغ هذه الدرجة من اليأس».
الخميس، 11 تموز\يوليو 2013
في الصباح
إنني أعبث بالشريط الطبي اللاصق على سبابتي. الشريط رطب... تبلل عندما كنت أغسل فنجان القهوة هذا الصباح. يبدو الآن رطباً،
وسخاً، رغم أنه كان نظيفاً هذا الصباح! لا أريد نزعه لأن الجرح عميق. كانت كاثي خارج البيت عندما عدت. وهكذا فقد ذهبت إلى
المتجر واشتريت زجاجتَيْ نبيذ. شربت الأولى ثم فكرت في الاستفادة من غياب كاثي لكي أعدَّ لنفسي شريحة لحم مع صلصة البصل
الأحمر وطبق من السلطة الخضراء. وجبة صحيّة لذيذة! جرحت قمة إصبعي عندما كنت أقطع البصل. لا بد أنني ذهبت إلى الحمّام
لتنظيف الجرح، ثم مضيت لأستلقي قليلاً، ثم نسيت كل شيء عن المطبخ لأنني استيقظت قرابة الساعة الثامنة فسمعت صوت كاثي
وداميين يتحدثان. كان يقول إنه شيء مقزِّز أن أترك المكان على تلك الحالة. صعدت كاثي إلى الطابق العلوي لتراني. قرعت الباب
بلطف ثم فتحته قليلاً. مالت برأسها جانباً ثم سألتني إن كنت بخير. اعتذرت من غير أن أعرف عمَّ كنت أعتذر. قالت كاثي إن كل شيء
على ما يرام، لكن يجب أن أقوم بشيء من التنظيف. كان على لوح التقطيع قطرات من الدم. وكانت الغرفة تفوح برائحة اللحم النيء.
لا تزال شريحة اللحم موجودة على طاولة المطبخ... بدأ لونها يصير رمادياً. بل إن داميين لم يشأ تحيّتي... اكتفى بهز رأسه عندما رآني،
ثم صعد إلى غرفة كاثي.
وبعد أن ذهبا إلى الفراش تذكرت أنني لم أشرب الزجاجة الثانية، ففتحتها. جلست على الأريكة أشاهد التلفزيون بعد أن جعلت الصوت
شديد الانخفاض حتى لا يستطيعان سماعه. لا أستطيع تذكّر ما كنت أشاهده. لكن، لا بدّ أنني شعرت بوحدة شديدة في لحظة ما... أو
بسعادة... أو بشيء ما... لأنني أردت أن أكلم أحداً. لا بدّ أن حاجتي إلى التواصل كانت طاغية... ما كان عندي أحد أستطيع الاتصال به
إلا توم.
ما كان عندي أحد أرغب في الكلام معه إلا توم. تقول قائمة المكالمات على هاتفي إنني اتصلت به أربع مرات: عند الحادية عشرة
ودقيقتين، وعند الحادية عشرة واثنتي عشرة دقيقة، وعند الحادية عشرة وأربع وخمسين دقيقة، وعند الثانية عشرة وتسع دقائق.
عندما نظرت إلى مدة كل مكالمة من المكالمات رأيت أنني تركت له رسالتين. بل لعله أجاب على اتصالي، لكني لا أذكر أنني تكلمت معه.
أذكرت أنني تركت الرسالة الأولى. أظنني طلبت منه أن يعاود الاتصال بي... فقط. لعل هذا ما قلته في الرسالتين... هذا ليس سيئاً
كثيراً.
تباطأ القطار حتى وقف عند الإشارة الحمراء فرفعت رأسي ونظرت. رأيت جس جالسة في مدخل بيتها تشرب القهوة من فنجان. كانت
قد رفعت قدميها على الطاولة ومالت برأسها إلى الخلف... كانت تتشمس. ومن خلفها أظن أنني رأيت ظلاً، شخصاً يتحرك: إنه جيسون.
أتوق إلى رؤيته، إلى إلقاء نظرة على وجهه الوسيم. أريد أن يخرج من البيت وأن يقف خلفها، مثلما اعتاد أن يفعل... أن يقبّل قمّة
رأسها.
لم يخرج جيسون... انحنى رأس جس إلى الأمام. ثمة شيء في طريقة حركتها اليوم يبدو لي مختلفاً. إنها أثقل من ذي قبل... تبدو
متثاقلة. أريده أن يخرج إليها، لكن القطار يتحرك ويندفع إلى الأمام قبل أن يظهر جيسون. إنها وحيدة. والآن، من غير تفكير، وجدت
نفسي أنظر مباشرة داخل بيتي... لا أستطيع تحويل نظراتي عنه. الأبواب الفرنسية مفتوحة، والضياء ينصب في المطبخ. لا أستطيع
التحديد، حقاً... لا أستطيع، لا أستطيع تحديد إن كنت أرى هذا أو أتخيله ـ إنها هناك، عند المجلى، تغسل الصحون؟ هل هنالك طفلة
صغيرة جالسة في كرسي هزاز من كراسي الأطفال فوق طاولة المطبخ؟
أغمض عيني وأترك الظلمة تنمو وتتمدد حتى تتحول من إحساس بالحزن إلى شيء أسوأ منه: ذكرى، لمحة خاطفة إلى الخلف. لم
أطلب منه أن يعاود الاتصال بي. أتذكر الآن أنني كنت أبكي. قلت له إنني لا أزال أحبه، وإنني سأحبه دائماً. أرجوك يا توم، أرجوك، أريد
أن أتحدث إليك. إنني مشتاقة إليه. لااااااااا!
لقد قبلت الأمر! لا معنى لمحاولتي إبعاد هذا عني. سوف أكون منزعجة طيلة النهار. سيأتي ذلك على شكل موجات ـ موجة قوية، ثم
أضعف، ثم أقوى ـ ستأتي تلك القرصة في قمة معدتي. وسيأتي شعور الإحساس بالخجل... بالعار. تصعد الحرارة إلى وجهي فأغمض
عينَيّ، أشدّ عليهما كما لو أنني أستطيع أن أجعل ذلك كله يختفي. وسوف أمضي النهار كله أقول لنفسي إن هذا ليس أسوأ الأشياء،
أليس كذلك؟ ليس هذا أسوأ شيء فعلته. إنه ليس مثل أن أسقط أرضاً أمام الناس، أو أن أصرخ على شخص غريب في الشارع. ليس
هذا مثل إهانة زوجي في حفل شواء في الصيف عندما أطلقت شتائم صارخة على زوجة أحد أصدقائه. ليس هذا مثل أن نتشاجر ذات
ليلة في البيت فأمضي صوبه حاملة مضرب الغولف، ملوِّحة به، وأكسر قطعة من الجص في جدار الممر أمام غرفة النوم. ليس هذا مثل
العودة إلى العمل بعد غداء استمر ثلاث ساعات... أعود مترنّحة إلى المكتب فينظر الجميع إليّ. ويقول لي مارتن مايلز بعد أن يأخذني
جانباً إنه يظن أن عليَّ أن أذهب إلى البيت. قرأت ذات مرة كتاباً كتبَته مدمنة سابقة على الكحول. وصفَت فيه كيف مارست الجنس
الفموي مع رجلين مختلفَين... رجلين التقت بهما مصادفة في مطعم في شارع لندني مزدحم. قرأت الكتاب وقلت في نفسي، حسنًا أنا
لست على هذه الدرجة من السوء. هكذا صارت معاييري!
في المساء
أمضيت اليوم كله أفكّر في جس، غير قادرة على التركيز على أي شيء آخر غير ما رأيته هذا الصباح. ما الذي جعلني أظن أن هنالك
شيئاً ليس على ما يرام؟ لم أكن قادرة على رؤية تعبير وجهها من تلك المسافة. لكني أحسست عندما نظرت إليها أنها كانت وحيدة، بل
أكثر من وحيدة... كانت تعاني الوحدة! لعلها كانت ـ لعله بعيد عنها... لعله ذهب إلى واحدة من تلك البلاد الحارة التي يطير إليها لإنقاذ
الأرواح. هي مشتاقة إليه، وقلقة عليه، رغم إدراكها أن من واجبه أن يذهب.
إنها مشتاقة إليه طبعاً، مثلما أنا مشتاقة إليه! إنه لطيف، وقوي... لديه كل ما يجب أن يكون لدى الزوج. إنهما شريكان. أستطيع رؤية
هذا. أعرف كيف هما. قوته، وذلك الشعور بالحماية الذي يشعّ منه... هذا لا يعني أنها ضعيفة. هي قوية بطرق أخرى. إنها قادرة على
قفزات عقلية تتركه فاغر الفم معجباً بذكائها. وهي قادرة على النفاذ إلى لبّ المشكلة، على تشريحها وتحليلها خلال الوقت الذي
يستغرقه الناس الآخرون لقول عبارة صباح الخير. وهو يمسك بيدها في الحفلات رغم أنهما معاً منذ سنين. يحترم كل منهما الآخر، ولا
يخذل أحدهما الآخر أبداً.
أحس أنني مستَنْفَدَة هذا المساء. أحسّ أنني صاحية، باردة مثل حجر. أشعر بالسوء بعض الأيام إلى درجة تجعل من المحتَّم عليّ أن
أشرب. وأشعر بالسوء بعض الأيام إلى درجة تجعلني لا أستطيع الشرب. اليوم، تجعلني فكرة الكحول أشعر بالغثيان في معدتي. لكن
الصحو عندما يكون المرء في قطار المساء أمر صعب، الآن خاصة، في هذا الحر. تغطي كل بقعة من جلدي طبقة من العرق، أشعر بوخز
داخل فمي، تحكّني عيناي... يتجمع الكحل في زواياهما.
يرن هاتفي في حقيبتي فيجعلني أقفز في مكاني. تنظر فتاتان في الناحية الأخرى من العربة صوبي ثم تتبادلان النظرات... وتتبادلان
ابتسامتين خفيفتين. لا أعرف ماذا تريان في شكلي، لكنني أعرف أنه ليس شيئاً جيداً. يقفز قلبي بين أضلاعي عندما أمد يدي إلى
هاتفي. أعرف أن هذا لن يكون جيداً أيضاً: ستكون كاثي... لعلها تريد، بلطفها الأبدي، أن تسألني ألّا أشرب هذا المساء! أو لعلها أمي تريد
إخباري أنها ستكون في لندن الأسبوع القادم: سوف تزورني في المكتب. وعندها نستطيع أن نذهب ونتعشى معاً. أنظر إلى شاشة
الهاتف. إنه توم! أتردد ثانية واحدة ثم أجيب.
«ريتشيل؟».
لم أكن ريتشيل أبداً خلال السنوات الخمس الأولى من علاقتنا. كان يدعوني راتش دائماً. وكان يدعوني باسم شيلي أحياناً لأنه يعرف
مقدار كرهي لهذا الاسم. وهذا ما كان يجعله يضحك عندما يراني منزعجة ثم أضحك بدوري لأنني لا أستطيع عدم مشاركته الضحك.
«ريتشيل، هذا أنا!»، صوته رصاصي. يبدو مرهَقاً. «اسمعيني! عليك أن تتوقفي عن هذا! هل اتفقنا؟»، لا أقول شيئاً. يتباطأ القطار. نكاد
نصبح قبالة البيت... بيتي القديم. أود أن أقول له: «تعال إلى الخارج. اذهب وقف على المرج. دعني أراك».
«أرجوك يا ريتشيل... لا يمكنك أن تواصلي الاتصال بي طيلة الوقت. عليك أن ترتّبي أمورك». في حلقي غصة صلبة كأنها حجر...
ناعمة... معاندة. لا أستطيع ابتلاع ريقي. لا أستطيع الكلام. «ريتشيل... هل أنت على الخط؟ أعرف أن أوضاعك ليست جيدة. يؤسفني
هذا، يؤسفني حقاً، لكن... لكني لا أستطيع مساعدتك. وهذه الاتصالات المستمرة تزعج آنّا. هل تفهمين؟ لا أستطيع مساعدتك بعد الآن.
اذهبي إلى جمعية الكحوليين... أو إلى مكان ما. أرجوك يا ريتشيل. اذهبي إلى لقاء جمعية الكحوليين اليوم، بعد العمل».
أنتزع اللصاقة القذرة عن طرف إصبعي وأنظر إلى اللحم الشاحب المتجعِّد تحتها وإلى الدم المتجمد عند حافة ظفري. أضغط ظفر
إبهامي الأيمن في قلب ذلك الجرح. أشعر بالجرح ينفتح. ألم حاد... حار. أحبس أنفاسي. يبدأ تدفق الدم من الجرح. الفتاتان في الناحية
الأخرى من العربة تراقبان ما أفعله بوجهَين خاليَيْن من أي تعبير.

فتاة القطارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن