الفصل الحادي عشر
( ريتشل )
الأحد، 21 تموز/يوليو 2013
في الصباح
استيقظت ورأسي مليء به. لم يبدُ هذا حقيقياً... لا شيء من هذا يبدو حقيقياً. أحس وخزاً في جلدي. ليتني أستطيع أن أتناول كأساً؛
لكني لا أستطيع. يجب أن أحافظ على صفاء ذهني. من أجل ميغان. من أجل سكوت.
بذلت بعض الجهد البارحة. غسلت شعري ووضعت بعض مستحضرات التجميل. ارتديت بنطلون الجينز الوحيد الذي لا يزال مقاسه
مناسباً لي، ومعه قميص قطن ملوَّن وصندل منخفض الكعبين. يبدو مظهري مقبولاً. ظللت أقول لنفسي إن من السخف أن أهتم بمظهري
لأنه آخر ما يمكن أن يلتفت إليه سكوت. لكني لم أستطع منْع نفسي. إنها المرة الأولى التي أذهب لرؤيته... الأمر مهم لي أنا. مهم أكثر
مما يجب... بكثير.
ركبت القطار وغادرت آشبري قرابة الساعة السادسة فوصلت إلى ويتني بعد السابعة مباشرة. أخذت طريق روزبري آفينيو، فمررت قرب
المعبر الذي تحت سكة القطار. لم أنظر صوبه هذه المرة، لم أستطع تحمل ذلك. أسرعت عندما صرت قبالة البيت رقم 23، بيت توم وآنّا.
سرتُ دافنةً ذقني في صدري، واضعةً نظارتي الشمسية، راجية ألا يراني أحد منهما. كان الشارع هادئاً، لا أحد من حولي، وسيارتان
تسيران بحذر وسط الشارع بين صفَّين من السيارات المركونة على الجانبين. كان شارعاً صغيراً ناعساً، أنيقاً موسراً، فيه أسر شابة
كثيرة. يتناولون العشاء كلهم نحو الساعة السابعة، أو يجلسون على الأريكة، الأم والأب والأطفال الصغار محشورين بينهما... يشاهدون
برنامج إكس فاكتور... كلهم.
لا يمكن أن تكون المسافة من المنزل 23 إلى المنزل 15 أكثر من خمسين أو ستين خطوة. لكن تلك الرحلة امتدت وطالت فبدا لي أنها
دامت دهراً. كانت ساقاي مثل الرصاص، وخطواتي غير ثابتة. كما لو أنني ثملة، كما لو أنني موشكة على الانزلاق عن الرصيف.
طرقت الباب ففتحه سكوت بمجرّد أن طرقت أوّل طرقة. كانت يدي الراجفة لا تزال مرفوعة عندما ظهر في الباب، عالياً فوق رأسي،
مالئاً الحيّز كله.
سألني: «ريتشل؟» وهو ينظر إليَّ من فوق... من غير ابتسام. أومأت برأسي. مدّ يده، فصافحتها. أشار إليّ بأن أدخل. لكن لحظة مرت من
غير أن أتحرك. كنت خائفة منه. إنه مخيف عندما ينظر إليه المرء عن قرب إلى هذه الدرجة... طويل، عريض الكتفين، وعضلاته بارزة
في ذراعيه وصدره، ويداه ضخمتان. خطر في ذهني أنه يستطيع أن يسحقني ـ يسحق رقبتي وأضلاعي ـ من غير أيّ عناء.
عبرت من جانبه صوب المدخل فمسّت ذراعي ذراعه عندما تحركت. شعرت بالحرارة ترتفع إلى وجهي. فاحت منه رائحة عرق قديم.
وكان شعره الداكن ملبَّداً ملتصقاً برأسه كما لو أنه لم يغتسل منذ فترة.
في غرفة الجلوس، فاجأني المشهد المألوف. فاجأني مفاجأة قوية إلى درجة جعلتني أشعر بالذعر. رأيت الموقد عند الجدار الذي في
آخر الغرفة، محاطاً بكوّات صغيرة. ورأيت انصباب الضوء عليه من الشارع عبر مصاريع النوافذ المغلقة. كنت أعرف أنني إذا استدرت
يساراً فسوف أرى زجاجاً وخضرة، ومن خلفهما خط القطار. استدرت فرأيت طاولة المطبخ، والنوافذ الفرنسية الطويلة من خلفها،
ورقعة المرج الخضراء اليانعة. كنت أعرف هذا البيت. أحسست بالدوار، وأردت أن أجلس. فكرت في ذلك الثقب الأسود ليلة السبت
الماضي... تلك الساعات المفقودة كلها.
لم يكن هذا يعني شيئاً، بطبيعة الحال. إنني أعرف ذلك البيت، لكن ليس لأني كنت فيه من قبل. أعرفه لأنه تماماً مثل البيت رقم 23:
ردهة في المدخل تفضي إلى السلم. وعلى يمينها غرفة المعيشة متصلة بالمطبخ. مدخل البيت وحديقته مألوفان لي لأنني كنت أراهما
من القطار. لم أصعد إلى الأعلى. لكنني أعرف أنني إذا صعدت فسوف أجد فسحة صغيرة لها نافذة عريضة منخفضة. وإذا خرجت من
تلك النافذة فسوف تجد نفسك على شرفة مضافة إلى البيت، على حافة السطح. أعرف أن في الأعلى غرفتَي نوم: رئيسية لها نافذتان
كبيرتان مطلتان على الشارع، وأخرى صغيرة في الخلف تطل على الحديقة. لا تعني معرفتي هذا البيت من الداخل والخارج أنني كنت
فيه من قبل.
لكنني كنت أرتعد عندما أشار إليّ سكوت بالدخول إلى المطبخ. عرض عليّ فنجاناً من الشاي. جلست إلى طاولة المطبخ بينما راح يغلي
الماء. وضع كيساً من الشاي في فنجان خزف كبير، وأراق بعض الماء المغلي على نضد المطبخ مدمدماً لنفسه بشيء غير مسموع. كانت
تفوح في المطبخ رائحة مواد مطهرة، رائحة حادة. لكن سكوت نفسه كان في حالة مزرية... بقعة من العرق على ظهر قميصه، وبنطلون
متهدل مرتخ على وركيه كأنه أكبر من مقاسه. تساءلت في سري عن آخر وجبة تناولها.
وضع فنجان الشاي أمامي ثم جلس إلى الجهة المقابلة من طاولة المطبخ. كانت يداه مطويتين أمامه. امتد الصمت، وامتد، مالئاً الفراغ
بيننا، مالئاً الغرفة كلها. صار الصمت يطنّ في أذنيَّ فشعرت بالحر وبعدم الراحة. وفجأة، صار ذهني خاوياً من كل شيء. لم أعرف ما
كنت أفعله هناك. لماذا أتيت أصلاً؟ ومن البعيد، سمعت زمجرة خفيضة. القطار قادم. أحسست أن صوته مريحاً، ذلك الصوت المألوف
القديم.
قال لي أخيراً: «أنت من صديقات ميغان؟».
سمعت اسمها من شفتيه فأحسست بغُصّة في حلقي. حدّقت في الطاولة... كفّاي محيطان بفنجاني... بإحكام.
قلت: «نعم! أعرفها... قليلاً. من المعرض الفني».
نظر إليّ منتظراً، مترقباً. رأيت عضلة تتقلص في فكه عندما كزَّ على أسنانه. فتشت عن كلمات لم تأتني. كان يجب أن أستعد على نحوٍ
أفضل.
سألته: «هل لديك أي أخبار؟» تعلَّقت عيناه بعينيّ فشعرت بالخوف لحظة. لقد قلت شيئاً خاطئاً. لا شأن لي إن كانت لديه أخبار أو لم
تكن لديه أخبار. سوف يغضب؛ وسوف يطلب مني المغادرة.
قال لي: «لا! ما الذي أردت إخباري به أنت؟».
مر القطار بطيئاً فنظرت إلى السكة. أحسستُ بالدوْخة... كما لو أنني خارج جسمي... كأنني أنظر إلى نفسي من الخارج.
رفع نبرة صوته قليلاً. وقال: «قلتِ لي في رسالتك إنك تريدين إخباري أمراً عن ميغان؟».
أخذت نفساً عميقاً. كان إحساسي فظيعاً. كنت مدركة، على نحو حاد، أن ما سأقوله سيجعل كل شيء أسوأ... سيجرحه.
قلت: «رأيتها مع شخص». قذفت هذه الكلمات، واضحة، مرتفعة، من غير استعداد، من غير سياق.
نظر إليَّ: «متى؟ هل رأيتِها ليلة السبت؟ هل أخبرت الشرطة؟».
قلت: «لا! كان ذلك صباح الجمعة». تهدّلت كتفاه.
«لكنها... لكنها كانت بخير يوم الجمعة. ما الذي يجعل هذا مهمًّا؟» رأيت تلك النبضة في فكه من جديد. لقد بدأ يغضب... «قلتِ إنك
رأيتِها مع... مع مَنْ رأيتها؟ هل كانت مع رجل؟»
«نعم، أنا...».
«كيف كان شكله؟»سألني ونهض واقفاً فحجب جسده الضوء. ثم سألني من جديد: «هل أخبرتِ الشرطة؟».
قلت له: «أخبرتهم. لكني لست واثقة من أنهم يأخذون كلامي على محمل الجد».
«لماذا؟»
«إنني فقط... لا أدري... ظننت أنك يجب أن تعرف».
انحنى صوبي وكفّاه على الطاولة... وقبضتاه مشدودتان.
«ماذا تقولين؟ أين رأيتها؟ ماذا كانت تفعل؟».
أخذت نفساً عميقاً آخر: «لقد كانت... في الخارج على المرج. هناك». قلت هذا مشيرة صوب الحديقة. «إنها... رأيتها من القطار». كانت
نظرة عدم التصديق على وجهه واضحة لا تخطئها العين... «أذهب بالقطار من آشبري إلى لندن كل يوم. أمرّ من هنا تماماً. لقد رأيتها.
كانت مع أحد ما. لم يكن... لم يكن أنت».
«وكيف تعرفين هذا؟... صباح الجمعة؟ الجمعة ـ اليوم الذي سبق اختفاءها؟».
«نعم».
قال: «لم أكن هنا. كنت مسافراً. كنت في مؤتمر في برمنغهام. عدتُ مساء الجمعة». بدأت بقع حمر تظهر في أعلى خديه. تراجع مفسحاً
المجال لشيء آخر... «إذن، أنتِ رأيتها على المرجة مع أحد ما؟ ثم...».
قلت له: «كانت تقبّله». كان عليَّ أن أقول هذا آخر الأمر. كان يجب أن أخبره... «كانا يتبادلان القبل».
انتصب واقفاً. كانت يداه... قبضتاه مشدودتين... متدليتين على الجانبين. اتسعت البقع الحمر على خدَّيه، وازداد غضبه.
قلت له: «إنني آسفة! إنني آسفة كثيراً! أعرف أن سماع هذا أمر بالغ السوء». رفع يده فأسكتني... بحركة ازدراء. ما كان مهتماً بتعاطفي.
أعرف كيف يكون هذا الشعور. كنت جالسة هناك، وتذكرت بوضوح كامل تقريباً كيف أحسست عندما جلست في مطبخي أنا، على
مسافة خمسة بيوت من هنا، بينما راحت لارا، أفضل صديقاتي في ما مضى... كانت جالسة هناك وطفلها الصغير السمين يتلوى في
حجرها... تذكرت كيف قالت لي إنها آسفة لأن زواجي انتهى. تذكرت كيف فقدت أعصابي أمام تفاهة كلامها وابتذاله. لم تكن تعرف
شيئاً عن ألمي. قلت لها أن تذهب. قلتها بطريقة سيئة، بكلمات بذيئة، فطلبت مني ألا أقول كلمات من هذا النوع أمام طفلها. لم أرها بعد
ذلك.
سألني سكوت: «كيف كان شكله... هذا الرجل الذي رأيتها معه؟». كان واقفاً يدير ظهره لي. كان ينظر إلى الخارج، صوب المرج.
«كان طويلاً ـ لعله أطول منك. وكان داكن البشرة. أظن أنه قد يكون آسيوياً. لعله هنديّ، أو شيء من هذا القبيل».
«وهل كانا يتبادلان القُبل هناك في الحديقة؟».
«نعم».
أطلق زفرة عميقة: «يا إلهي! إنني في حاجة إلى شراب». استدار فواجهني: «هل تريدين بيرة؟».
كنت أريد أن أشرب البيرة... كثيراً، لكني قلت لا. رحت أنظر إليه بينما أحضر لنفسه زجاجة من البراد، ثم فتحها، وشرب جرعة طويلة.
أكاد أشعر بانسياب السائل البارد في حلقي عندما كنت أنظر إليه. تاقت يدي إلى كأس تحملها. استند سكوت إلى طاولة المطبخ. كان
رأسه منكَّساً يكاد يلامس صدره.
أحسستُ بالبؤس عند ذلك. لم أكن أساعده؛ بل جعلته أسوأ حالاً، وزدتُ ألمه. إنني أعتدي على حزنه... كان هذا خاطئاً. ما كان يجوز لي
أن أذهب لرؤيته. ما كان يجوز لي أن أكذب عليه أبداً. من الواضح أنني ما كان يجوز أن أكذب أبداً.
كنت على وشك النهوض عندما تكلم: «يمكن أن... لست أدري... يمكن أن يكون هذا أمراً حسناً، أليس كذلك؟ قد يعني هذا أنها بخير. إنها،
فقط...» أطلق ضحكة قصيرة، خاوية... «هربت فقط، مع شخص ما». مسح بظهر يده دمعة عن خده فانكمش قلبي، صار مثل كرة
صغيرة... «لكني لا أستطيع... لا أستطيع تصديق أنها لا تتصل بي». نظر إليّ كأن الإجابات عندي، كأنني أعرف... «كان يجب أن تكلمني،
بالتأكيد، أليس كذلك؟ يجب أن تعرف كم خفت عليها... كم أشعر باليأس. إنها ليست من ذلك النوع الذي يحب الانتقام... ليست كذلك».
كان يكلمني كأنني شخص يمكنه الثقة به ـ كأنني صديقة لميغان ـ عرفت أن هذا أمر خاطئ، لكن إحساسي به كان طيباً. أخذ جرعة
جديدة من زجاجته ثم استدار صوب الحديقة. تابعت نظراته صوب كومة صغيرة من الحجارة قرب السور. كانت تشكيلاً حجرياً بدأ
إنشاؤه منذ زمن، لكنه لم يكتمل. رفع الزجاجة نحو شفتيه من جديد، نصف المسافة فقط، ثم توقف. استدار فواجهني.
سألني: «هل تقولين إنك رأيت ميغان من القطار؟ إذن أنت... كنت تنظرين فقط من نافذة القطار فرأيتها... امرأة تصادف أنك تعرفينها،
أليس كذلك؟». تغيّر الجو في الغرفة. ما عاد واثقاً أبداً... ما عاد واثقاً إن كنت حليفةً له، أو إن كان يستطيع الثقة بي. طغى الشك على
وجهه، كأنه ظل.
قلت: «نعم، أنا... أعرف أين تعيش». ثم ندمت على كلماتي هذه لحظة خروجها من فمي... «أقصد أين تعيشان. لقد كنت هنا من قبل. منذ
زمن بعيد. وهذا ما كان يجعلني أنظر بحثاً عنها عندما أمر من هنا». كان يحدّق بي. أستطيع الإحساس بالحرارة تصعد إلى وجهه...
«كنت أراها في الخارج هناك، معظم الوقت».
وضع زجاجته الفارغة على الطاولة، وسار خطوتين صوْبي، ثم جلس على الكرسي القريب مني، إلى الطاولة.
«إذن، فأنت تعرفين ميغان جيداً. أقصد أنك تعرفينها إلى حدٍّ كافٍ لأن تستطيعي الوصول إلى البيت، أليس كذلك؟».
أحسست بالدم نابضاً في رقبتي، وبالعرق أسفل ظهري، وباندفاعة الأدرينالين المدوّخة. ما كان يجب أن أقول هذا؛ وما كان يجوز لي
تعقيد الكذبة إلى هذا الحد.
«لم أذهب إليها إلّا مرة واحدة. لكني... لكني أعرف مكان البيت لأنني كنت أعيش قريباً من هنا». ارتفع حاجباه دهشة... «أسفل الطريق،
في البيت رقم 23».
أومأ برأسه بطيئاً ثم قال: «واتسون! إذًا، فأنت... ماذا... زوجة توم السابقة؟».
«صحيح. تركت البيت منذ سنتين».
«لكنك بقيتِ تزورين معرض ميغان، أليس كذلك؟».
«أحياناً».
«وعندما كنت ترينها، ماذا كنتما... هل كانت تتحدث عن أشياء شخصية؟ عني أنا؟» صار صوته مبحوحاً... «أو عن أي شيء آخر؟».
هززت رأسي نفياً: «لا! لا! كان ذلك عادة مجرد... أحاديث لقضاء الوقت، أنت تعرف». ساد صمت امتد زمناً طويلاً. بدا لي أن حرارة
الغرفة راحت تتزايد فجأة، وأن رائحة المطهرات بدأت تفوح من كل سطح في المطبخ. أحسست أنني على وشك الإغماء. كانت إلى
جانبي طاولة عليها صور فوتوغرافية في إطارات. كانت ميغان تبتسم لي من تلك الصور، مبتهجة... متهِمة.
قلت: «عليّ أن أذهب الآن. لقد أخذت من وقتك الكثير». بدأت أنهض، لكنه مد يده فوضعها فوق معصمي. ولم تفارق عيناه وجهي.
قال لي بصوت رقيق: «لا تذهبي الآن». لم أنهض، لكني سحبتُ يدي من تحت يده. كان إحساساً غير مريح... كأنه يحتجزني. قال لي:
«هذا الرجل... هذا الرجل الذي رأيتها معه ـ أتظنين أنك قادرة على التعرف إليه إذا رأيته؟... إذا رأيته؟».
لم أستطع القول له إنني تعرفت على صورة الرجل لدى الشرطة. كانت حجَّتي الوحيدة من أجل التواصل معه هي أن الشرطة لم تأخذ
قصتي على محمل الجد. فإذا اعترفت له بالحقيقة، فإن الثقة ستزول. وهكذا، كذبت مرة أخرى.
قلت: «لست واثقة! لكني أظن أنني أستطيع التعرف عليه». انتظر لحظة، ثم تابعت: «ورد في الصحف قول لأحد أصدقاء ميغان. كان
اسمه راجيش. وكنت أتساءل ما إذا...» رأيت سكوت يهز رأسه: «راجيش غوجرال؟ لا أستطيع تصديق هذا. إنه واحد من الفنانين الذين
كانوا يعرضون أعمالهم لديها. إنه رجل لطيف حقاً، لكن... إنه متزوج، ولديه أولاد». وكأن هذا يمكن أن يعني شيئاً... قال: «انتظري
لحظة»، ثم هب واقفاً على قدميه... «أظن أنني يمكن أن أعثر على صورة له في مكان ما هنا».
اختفى في الطابق العلوي. أحسست بكتفيَّ يسقطان، فأدركت أنني كنت جالسة متيبسة بفعل توتري، منذ وصولي. رحت أنظر إلى
الصور من جديد. ميغان في ثوب البحر على الشاطئ. لقطة قريبة لوجهها، عيناها زرقاوان ساطعتان. ميغان فقط. لا صور لهما معاً.
ظهر سكوت حاملاً كتيّباً قدمه لي. كان كتيّباً دعائياً يعلن عن عرض لوحات في معرضها الفني. فتحه سكوت، ثم قال: «هذا هو... هذا هو
راجيش». كان الرجل واقفاً إلى جانب لوحة تجريدية كثيرة الألوان: كان أكبر سناً، قصيراً، ممتلئاً، ملتحياً. لم يكن هو الرجل الذي رأيته،
الرجل الذي تعرفت على صورته لدى الشرطة. قلت له: «ليس هو». وقف سكوت إلى جانبي محدّقاً في الكتيب قبل أن يجري فجأة
فيخرج من الغرفة ويصعد إلى الطابق العلوي من جديد. عاد بعد لحظات حاملاً حاسوبه المحمول وجلس إلى طاولة المطبخ.
قال لي وهو يفتح الحاسوب ويشغله: «أظن، أظن أنني يمكن...» صمت فجأة؛ ورحت أنظر إليه: كان وجهه تجسيداً للتركيز. كانت
عضلات فكَّيه مشدودة. قال أخيراً: «كانت ميغان ترى معالجاً نفسياً. كان اسمه أبديك. كمال أبديك. ليس آسيوياً، بل هو من صربيا، أو
من البوسنة، شيء من هذا. لكنه داكن البشرة. يمكن أن يظنه المرء هندياً إذا رآه عن بعد. راح يبحث في الجهاز قائلاً: «هنالك موقع على
الإنترنت... في ما أظن. إنني واثق من وجوده. وأظن أن فيه صورة...». أدار الشاشة صوبي حتى أتمكن من رؤيتها. انحنيت حتى ألقي
نظرة أقرب. قلت له: «هذا هو! بالتأكيد... هذا هو». أغلق سكوت الحاسوب بعنف. ظل زمناً طويلاً من غير أن يقول شيئاً. كان جالساً،
واضعاً مرفقيه على الطاولة، مسنداً جبهته على أطراف أصابعه. كانت ذراعاه ترتجفان.
قال أخيراً: «كانت تصيبها نوبات من القلق، ومشكلات في النوم، وأشياء من هذا القبيل. بدأ الأمر في وقت ما من السنة الماضية. لا أذكر
متى بدأ ذلك على وجه التحديد. كان يتكلم من غير أن ينظر نحوي، كما لو أنه يكلم نفسه، كأنه نسي أنني موجودة أصلاً... «أنا من
اقترح عليها أن تتحدث مع شخص ما. أنا من شجعها على الذهاب لأنني لم أرَ نفسي قادراً على مساعدتها». تكسّر صوته قليلاً عند
ذلك... «لم أستطع مساعدتها. قالت لي إنها مَرّت بمشكلات مثل هذه في الماضي، وإنها ستزول آخر الأمر. لكنني جعلتها... أقنعتها أن...
تذهب إلى الطبيب. وقد نصحوها بذلك الرجل». تنحنح قليلاً حتى يستطيع متابعة الكلام... «بدا لي أن المعالجة تفيدها. بدت لي أكثر
سعادة». أطلق ضحكة قصيرة، حزينة: «أعرف السبب الآن».
مددت يدي لأربّت على ذراعه؛ حركة مريحة. ابتعد فجأة ثم هبّ واقفاً. قال مستعجلاً: «عليك الذهاب. سوف تأتي أمي قريباً ـ إنها لا
تتركني أكثر من ساعة أو ساعتين». وعند الباب، عندما كنت أهم بالمغادرة، أمسك بذراعي. سألني: «هل رأيتك في مكان ما قبل اليوم؟».
فكرت، لحظة واحدة، في أن أقول له: ربما رأيتني. لعلك رأيتني في قسم الشرطة، أو في الشارع هنا. كنت هنا ليلة السبت. هززت رأسي:
«لا. لا أظن هذا».
سرت مبتعدة نحو محطة القطار بأسرع ما استطعت. وعندما صرت في منتصف ذلك الشارع تقريباً، استدرت لأنظر خلفي، رأيته لا يزال
واقفاً بالباب، يراقبني.
في المساء
إنني الآن موسوسة بتفقد بريدي الإلكتروني. لكني لم أسمع شيئاً من توم. كم كانت الحياة سهلة على السكارى الغيورين قبل وجود
الرسائل الإلكترونية والرسائل النصية والهواتف المحمولة... قبل هذه الإلكترونيات كلها، وقبل الآثار التي تخلفها!
لا شيء جديدًا اليوم في الصحف عن ميغان. لقد تغيرت مواضيعها. الصفحات الأولى مكرسة للأزمة السياسية في تركيا، وللطفلة ذات
السنوات الأربع التي مزقتها الكلاب في ويغان، ولهزيمة فريق كرة القدم الإنكليزي المذلّة أمام فريق الجبل الأسود. لقد نسوا ميغان مع
أنها مختفية منذ أقل من أسبوع.
دعتني كاثي إلى تناول الغداء في الخارج. كانت غير مرتاحة لأن داميين ذهب لزيارة أمه في برمنغهام. لم تكن كاثي مدعوّة. إنهما على
علاقة منذ سنتين تقريباً الآن، لكنها لم ترَ أمه بعد. ذهبنا إلى مطعم جيراف في هاي ستريت... مكان أكرهه! جلسنا في وسط صالة مليئة
بزعيق أطفال دون الخامسة. راحت كاثي تسألني عما كنت أفعله. كان لديها فضول لمعرفة أين كنت الليلة الماضية.
سألتني بعينين مشتعلتين أملاً: «هل قابلت شخصاً ما؟»... كان سؤالها هذا مؤثراً حقاً.
كدت أقول لها نعم، لأن تلك هي الحقيقة. لكن الكذب كان أكثر سهولة. قلت لها إنني كنت في لقاء في ويتني لمعالجة الإدمان على
الكحول.
«أوه!» ... قالتها محرَجة ثم خفضت عينيها صوب صحن السلطة اليونانية أمامها... «ظننت أنك قد انزلقت قليلاً... وشربت يوم الجمعة».
قلت: «هذا صحيح. لن يكون هذا الأمر إبحاراً سهلاً يا كاثي». أحسست بالخجل لأنني أظنها مهتمة حقاً بأن أظل صاحية... «لكني أبذل
كل جهدي».
«إذا كنت محتاجة إلى، أنت تعرفين، إلى ذهابي معك...».
قلت: «ليس في هذه المرحلة. لكن أشكرك».
قالت: «لا بأس! قد نستطيع أن نفعل شيئاً آخر معاً. ما رأيك في الذهاب إلى النادي الرياضي؟».
ضحكت أول الأمر. لكني أدركت أنها كانت جادة، فقلت لها إنني سأفكر في الأمر.
ذهبت كاثي منذ قليل ـ اتصل بها داميين قائلاً إنه عاد من عند أمه؛ فذهبت إلى بيته. فكرت في أن أقول لها شيئاً ـ لماذا تركضين إليه
كلما اتصل بك؟ لكني... في الحقيقة... لست في ذلك الموقع العظيم الذي يسمح لي بتقديم النصائح في ما يخص العلاقات، أو في ما
يخص أي شيء في الحقيقة ـ ثم إنني كنت راغبة في الشراب أيضاً. (كنت أفكر في الشراب منذ جلوسنا في هذا المطعم. وعندما سألتنا
النادلة الصغيرة ذات الوجه المنقّط إن كنا راغبتين في كأس من النبيذ، قالت لها كاثي بنبرة حاسمة: «لا! شكراً لك»). وهكذا ودعت كاثي
وأنا أشعر بذلك التنميل يسري في جلدي ترقّباً للشراب، ودفعت عني الأفكار الطيبة كلها (لا تفعلي هذا، إنك تتقدمين جيداً). أهم بانتعال
حذائي لأذهب إلى متجر الكحول فيرن هاتفي. إنه توم. سوف يكون المتصل توم. أخرج الهاتف من حقيبتي وأنظر إلى الشاشة فتغدو
ضربات قلبي مثل الطبل.
«مرحباً». صمت... ثم أسأل: «هل كل شيء بخير؟».
بعد صمت قصير يقول لي سكوت: «نعم، بخير. إنني بخير. اتصلت بك فقط لأقول لك شكراً، شكراً لمجيئك البارحة. أشكرك لأنك تكرّمت
عليَّ بوقتك حتى تخبريني».
«أوه! لا بأس. لم تكن في حاجة إلى...».
«هل أزعجك باتصالي؟».
«لا! لا بأس». ساد صمت قصير على الطرف الآخر من الخط؛ وهكذا قلت من جديد: «لا بأس! هل... هل حدث شيء؟ هل تحدثت إلى
الشرطة؟».
قال: «كانت ضابطة الاتصال هنا بعد الظهر». تسارعت نبضات قلبي... «إنها المحققة رايلي. ذكرت لها اسم كمال أبديك. وقلت لها إن الأمر
قد يستحق التحدث معه».
صار فمي جافاً تماماً: «هل أخبرتَها... هل أخبرتها أنك تحدّثت معي؟».
«لا! لم أقل لها. ظننت، ربما... لا أعرف. ظننت أنه قد يكون من الأفضل إذا ورد اسمه على لساني أنا. قلت لها... كانت كذبة، أعرف هذا...
لكني قلت إنني كنت أعصر ذهني مفكراً في أي شيء يمكن أن يكون له معنى. وقلت إنني أظن أنه قد يكون مفيداً أن يتحدثوا مع
المعالج النفسي. وقلت إنني كنت أشعر ببعض القلق في ما يتصل بالعلاقة بينهما، في الماضي».
أستطيع الآن أن أتنفس من جديد. سألته: «وماذا قالت؟».
«قالت إنهم تحدثوا معه، لكنهم سيتحدثون معه من جديد. طرحت عليّ أسئلة كثيرة عمّا جعلني أمتنع عن ذكر الطبيب النفسي من قبل.
إنها... لست أدري. لا أشعر بالثقة تجاه هذه المرأة. من المفترض أن تكون في صفّي أنا؛ لكني أشعر طيلة الوقت كما لو أنها تتجسّس
عليّ، تتصيّدني، كأنها تحاول أن توقع بي».
أحسّ بسرور أحمق لأنني لا أحبها أنا أيضاً. هذا شيء آخر يجمعنا، خيط آخر يوحّدنا معاً.
«لكني أردت أن أشكرك على أي حال. أشكرك على مجيئك. كان ذلك فعلاً... يبدو الأمر غريباً... لكنه كان شيئاً طيباً أن أتحدث مع
شخص... شخص لا أعرفه معرفة قريبة. أحسست أنني صرت قادراً على التفكير على نحو أكثر منطقية. فبعد ذهابك، جلست أفكّر في
المرة الأولى التي ذهبت فيها ميغان لرؤيته ـ لرؤية أبديك ـ وفي الحال التي كانت عليها عندما عادت. كان فيها شيء ما... كأنها صارت
أخف». أطلق زفرة مرتفعة ثم تابع يقول: «لست أدري. لعلّي أتخيل هذا».
كان لديّ الشعور نفسه الذي أحسسته أمس ـ لم يعد يتحدث معي أنا... إنه يتحدث، فحسب. صرت كأنني شيئاً أتلقى كلامه فحسب؛
وهذا يسعدني. يسعدني أن أكون مفيدة له.
قال: «أمضيت النهار كله أفتّش في أشياء ميغان من جديد. لقد فتشت غرفتها، والبيت كله، عدة مرات... باحثاً عن شيء ما، عن أي
شيء يمكن أن يعطيني إشارة إلى مكان وجودها. ربما شيء منه. لكني لم أجد شيئاً. لا رسائل إلكترونية، ولا رسائل ورقية، لا شيء.
فكرت في محاولة الاتصال به؛ لكن العيادة مغلقة اليوم. ولا أستطيع العثور على رقم هاتفه المحمول».
سألته: «وهل تظن أن هذه فكرة حسنة؟ أقصد... ألا تظن أن من الأفضل أن تترك أمره للشرطة؟». لم أكن أريد أن أقولها بصوت مرتفع؛
لكن... لا بد أننا نفكر في الأمر نفسه: إنه شخص خطِر. أو يمكن أن يكون خطراً، على أقل تقدير.
«لا أدري... لا أدري حقاً». هناك نبرة يأس في صوته، نبرة من المؤلم سماعها. لكني لا أستطيع أن أقدّم له ما يريحه. يمكنني سماع صوت
تنفسه عند النهاية الأخرى من الخط. أسمعه قصيراً، متسارعاً، كما لو أنه خائف. أود أن أسأله إن كان معه أحد ما، لكني لا أستطيع:
سيبدو هذا سؤالاً خاطئاً، كأنه تودُّد ٌفي غير محله.
قال لي: «رأيت زوجك السابق اليوم». أحسست بشعر ذراعيَّ ينتصب.
«أوه!».
«نعم! كنت في طريقي إلى كشك الجرائد فرأيته في الشارع. سألني إن كنت بخير، وإن كانت هنالك أي أخبار جديدة».
«أوه!» ... كرّرتها لأنها كانت كل ما أستطيع قوله. أفلح أخيراً في صياغة بضع كلمات. لا أريد أن يتحدث مع توم. يعرف توم أنني لا
أعرف ميغان هيبويل. يعرف توم أنني كنت في بلينهايم رود ليلة اختفائها.
«لم أذكر اسمك. لم أفعل... تدركين ذلك. لم أكن واثقاً إن كان من المستحسن أن أقول له إنني قابلتكِ».
«معك حق. أظن من الأفضل ألا تقول له. لا أعرف. قد يبدو ذلك أمراً غريباً».
قال: «لا بأس إذًا».
حلَّ صمت طويل بعد ذلك. كنت أنتظر نبضات قلبي حتى تبطئ قليلاً. ظننت أنه سيُنهي المكالمة، لكنه قال: «ألم تتحدثي عني حقاً؟».
قلت: «بالطبع... بالطبع تحدثت. أقصد... لم نكن نتحدث كثيراً، لكن...».
«لكنك أتيت إلى البيت. نادراً ما تدعو ميغان أحداً إلى البيت. إنها شديدة التمسك بخصوصيتها، تحرص على حماية حيّزها الخاص من
الناس».
إنني أفتش عن سبب. أتمنى لو أني لم أقل له إنني ذهبت إلى البيت من قبل.
«أتيت لأستعير كتاباً».
«حقاً؟» ... يبدو أنه لا يصدّقني. إنها ليست قارئة -أعود بذاكرتي إلى بيتها ـ لم أرَ كتباً على الرفوف. «ماذا كانت تقول؟ عني أنا؟».
أقول له: «كانت سعيدة جداً. أقصد، معك. علاقتكما». عندما قلت هذا أدركت كم كان يبدو غريباً، لكني لا أستطيع التحديد... وهكذا
فإنني أحاول إنقاذ نفسي... «سأكون صادقة معك. كنت أمرّ بمرحلة عصيبة فعلاً في زواجي. وهذا ما يجعلني أظن الآن أن حديثنا كان
نوعاً من المقارنة بين الحالتين. كانت تضيء عندما تتحدث عنك». يا للعبارة المبتذلة المكرورة!
«حقاً؟» ... يبدو أنه لم يلاحظ ... ثمة أسى في صوته... «لطيف أن أسمع هذا». يصمت قليلاً فأسمع صوت تنفّسه، سريعاً، ضحلاً، عند
النهاية الأخرى من الخط. يقول: «جرى بيننا... جرت بيننا مشاجرة مخيفة... ليلة اختفائها. تؤلمني فكرة أنها كانت غاضبة مني عندما...».
يتوقف عن الكلام.
أقول له: «أنا واثقة من أن غضبها منك لم يستمر طويلاً. الأزواج يتشاجرون. الأزواج يتشاجرون طيلة الوقت».
«لكــن ذلــك الشــجار كــان ســيئاً، كــان مخيفــاً، ولا أســتطيع... أحـس أننـي لا أسـتطيع إخبـار أحـد، لأنـهم سـينظرون إلـيَّ كـأنني مـذنب إن
أخبرتهم».
هنالك نبرة جديدة في صوته الآن: مسكون بالهواجس، مشبع بالذنب.
يقول: «لا أذكر كيف بدأ الأمر». لكني لا أصدقه، على الفور... ثم أعضّ على لساني عندما أتذكر كل المشاجرات التي نسيتها... «كانت
مشاجرة حامية. كنت شديدًا... لم أكن لطيفاً. كنت ملعوناً تماماً. وكانت منزعجة. حزينة. صعدتْ إلى الأعلى فوضعت بعض الأشياء في
حقيبة. لا أعرف ما وضعته فيها على وجه التحديد، لكني لاحظت بعد ذلك أن فرشاة أسنانها غير موجودة. عرفت بعد ذلك أنها لم تكن
تعتزم العودة إلى البيت تلك الليلة. افترضت... ظننت أنها لا بد ستمضي ليلتها عند تارا. حدث هذا مرة من قبل. مرة واحدة فقط. لم
تكن هذه الأشياء تحدث طيلة الوقت.
تابع يقول: «بل إنني حتى لم أذهب وراءها». فاجأني، مجدداً، أنه لم يكن يتحدث معي حقاً... إنه يعترف. إنه جالس إلى أحد جانبَيْ
نافذة الاعتراف، وأنا على النافذة الأخرى، عديمة الوجه، غير مرئية... «لقد تركتها تذهب».
«هل حدث هذا ليلة السبت؟».
«نعم! كانت تلك آخر مرة أراها».
كان هناك شاهد رآها ـ أو رأى امرأة تطابق أوصافها ـ رآها ماشية صوب محطة ويتني قرابة السابعة والربع. أعرف هذا من تقارير
الصحف. كانت تلك آخر مشاهدة لها. لم يتذكر أحد رؤيتها على رصيف المحطة، أو في القطار نفسه. ليس في محطة ويتني كاميرات
مراقبة تلفزيونية. ولم تلتقط صورتها كاميرات المراقبة في كورلي. لكن التقارير الصحفية قالت إن هذا لا يُثبِت أنها لم تكن هناك، لأن
في تلك المحطة «نقاطاً عمياء كثيرة لا ترصدها الكاميرات».
أسأله: «متى حاولت الاتصال بها؟»... صمت طويل آخر.
«أنا... لقد ذهبت إلى الحانة. إلى حانة ذا روز، هل تعرفينها، عند الزاوية، على شارع كينغلي رود؟ كنت في حاجة إلى تهدئة نفسي...
حتى أستطيع التفكير بشكل صحيح. شربت كأسين. ثم عدت إلى البيت. عدت قبل العاشرة تماماً. أظن أنني أملت في أن تكون قد
حظيت ببعض الوقت حتى تهدأ، ثم عادت إلى البيت. لكنها لم تكن هناك».
«إذن، كانت الساعة نحو العاشرة عندما حاولت الاتصال بها؟».
«لا!»... صار صوته يشبه الهمس الآن... «لم أتصل. شربت أيضاً زجاجتين من البيرة في البيت. وشاهدت التلفزيون بعض الوقت. ثم
ذهبت إلى فراشي».
أفكّر في تلك المشاجرات مع توم؛ في كل تلك الأشياء الفظيعة التي كنت أقولها بعد أن يفيض بي الكيل، وفي ذلك الغضب في الشارع.
كيف كنت أصرخ عليه، وأقول له إنني لا أريد أن أراه بعد ذلك. كان يتصل بي دائماً؛ وكان يحدِّثني حتى أهدأ، ويتملّقني حتى أعود إلى
البيت.
«ظننت أنها ستكون جالسة في مطبخ تارا... تعرفين هذا... تحدثها عن مساوئي. وهكذا، تركت الأمر».
لقد ترك الأمر. يبدو هذا قسوة قلب، قلة اهتمام... لا يفاجئني أنه لم يخبر أحداً بهذه القصة. بل يفاجئني أنه يقولها الآن. ليس هذا
سكوت الذي تخيلته، سكوت الذي عرفته، الرجل الذي كان يقف خلف ميغان على الشرفة واضعاً كفيه الكبيرتين على كتفيها النحيلين،
مستعداً لحمايتها من أي شيء.
إنني على وشك إغلاق الهاتف، لكن سكوت يتابع الكلام: «نهضت من نومي باكراً. لم أجد أي رسائل على هاتفي. لم يُخِفْني هذا ـ افترضت
أنها مع تارا وأنها لا تزال غاضبة مني. اتصلت بها عند ذلك، فلم تجبني... انتقل الهاتف إلى البريد الصوتي. لكني لم أشعر بخوف، حتى
ذلك الوقت. قلت في نفسي إنها لا تزال نائمة، ربما، أو لعلها تتجاهل اتصالي فقط. لم أستطع العثور على رقم تارا. لكن عنوانها كان
عندي ـ كان موجوداً على بطاقتها، على مكتب ميغان. وهكذا، ذهبت... قدتُ سيارتي إلى ذلك المكان».
أسأل نفسي... إن لم يكن قلقاً، فما الذي جعله يذهب إلى بيت تارا. لكنني لا أقاطعه. أتركه يتحدث.
«وصلت إلى شقة تارا بعد التاسعة بوقت قصير. تأخرت قبل أن تفتح الباب. وعندما فتحته، بدت عليها دهشة حقيقية لرؤيتي. كان
واضحاً أنها لم تكن تتوقع أبداً ظهوري عند بابها في هذا الوقت من الصباح. عند ذلك عرفت... عند ذلك أدركت أن ميغان لم تكن عندها.
بدأت أفكر... بدأت...». تعثرت كلماته، وشعرت بالتعاسة لأنني شككت فيه.
«قالت لي إنها رأت ميغان آخر مرة ليلة الجمعة، في درس التمرينات الرياضية. عند ذلك بدأ خوفي».
وعندما أغلقت الهاتف، رحت أفكر لو أنني لم أعرفه... لو أنني لم أره كيف يكون معها، مثلما فعلت... لبدا كثير مما قاله غير صحيح.
الاثنين، 22 تموز/يوليو 2013
في الصباح
أشعر بتشوّش تام. نمت نوماً عميقاً، لكن أحلامي كانت كثيرة. وهذا الصباح، أحاول جاهدة أن أصحو جيداً. عاد الطقس الحار من
جديد. عربة القطار خانقة اليوم رغم أن الركاب لا يشغلون إلا نصفها. تأخر استيقاظي هذا الصباح. ولم يتسنَ لي الوقت الكافي لألتقط
جريدة أو لأتفقد الأخبار على الإنترنت قبل مغادرة البيت. وهذا ما جعلني أحاول قراءة ما حمله موقع بي بي سي على هاتفي المحمول.
لكن الصفحة تستغرق زمناً طويلاً حتى تفتح... لسبب ما. وفي محطة نورثكورت، دخل العربة رجل معه آي باد وجلس إلى جانبي. لم
تصادفه أي صعوبة في تصفّح الإنترنت والوصول إلى الأخبار. ذهب مباشرة إلى موقع صحيفة ديلي تليغراف. وهناك وردت القصة
الثالثة تحمل عنواناً بأحرف ضخمة: اعتقال رجل على صلة باختفاء ميغان هيبويل.
أصابني ذعر جعلني أنسى نفسي وأنحني مباشرة صوب الجهاز حتى أرى ما هو مكتوب بشكل أفضل. نظر الرجل إليّ، شاعراً بالاستياء،
مجفلاً تقريباً.
قلت له: «إنني آسفة. أنا أعرفها... تلك المرأة المختفية. إنني أعرفها».
قال: «أوه! كم هذا فظيع!». إنه رجل في منتصف العمر، حَسَن الكلام، حَسَن الملبس... «هل تريدين قراءة القصة؟».
«نعم، من فضلك. لا أستطيع الوصول إلى أي شيء في الانترنت على هاتفي».
ابتسم ابتسامة لطيفة ثم أعطاني الجهاز. لمست العنوان فظهرت القصة أمامي.
اعتقل رجل في الثلاثينات، على علاقة بقضية اختفاء ميغان هيبويل البالغة تسعة وعشرين عاماً وتقطن في منطقة ويتني والمفقودة
منذ يوم السبت، 13 تموز/يوليو. لم تؤكد الشرطة إن كان الرجل المعتقل زوج ميغان هيبويل، سكوت هيبويل، الذي خضع لاستجواب
مشدَّد يوم الجمعة. وفي تصريح له هذا الصباح، قال ناطق باسم الشرطة: «نستطيع تأكيد أننا اعتقلنا رجلاً في ما يتصل باختفاء ميغان.
لم يوجَّه له أي اتهام بعد. إن البحث عن ميغان متواصل. ونحن نفتش عن عنوان نظن أنه يمكن أن يكون مسرح جريمة».
إننا نمر بالبيت الآن؛ لكن القطار لم يتوقف عند الإشارة هذه المرة. التفتّ صوب البيت، لكنني تأخرت. لقد مضى. ترتجف يداي بينما
أعيد الجهاز إلى صاحبه. يهز رأسه بحزن قائلاً: «إنني آسف جداً».
قلت له: «إنها ليست ميتة». صوتي مثل نعيب غراب... بل إنني لا أصدق نفسي أيضاً. الدموع تلسع عينَيَّ من الداخل. لقد كنت في هذا
البيت. لقد كنت هناك. جلست قبالته إلى طاولة المطبخ. نظرت في عينيه. وأحسست شيئاً. أفكر في تلك اليدين الكبيرتين... أفكر في
أنه، إذا كان قادراً على سحقي، فهو قادر على سحقها أيضاً ـ ميغان الهشة، صغيرة الجسم.
تزعق مكابح القطار عند اقترابنا من محطة ويتني فأنهض على قدمَيَّ، قفزاً.
أقول للرجل الجالس إلى جانبي: «عليَّ الذهاب»، فيبدو عليه شيء من الدهشة، لكنه يومئ برأسه إيماءة متعقلة.
يقول لي: «حظاً طيباً».
أجْري على رصيف المحطة، ثم أهبط الدرجات. إنني ماضية عكس اتجاه حركة معظم الناس. وعندما أكاد أصل أسفل السلم أتعثّر
فيقول رجل لي: «انتبهي!» ... لكني لا ألتفتُ إليه لأني أنظر إلى حافة الدرجة الإسمنتية، الدرجة قبل الأخيرة. أرى بقعة دم عليها. أسأل
نفسي... كم من الوقت مَرَّ عليها هنا. هل يمكن أن يكون عمرها أسبوعاً؟ هل يمكن أن يكون هذا الدم دمي؟ هل يمكن أن يكون دمها؟ هل
يمكن أن يكون دمها في البيت... أسأل نفسي إن كان هذا هو سبب اعتقاله! أحاول استعادة صورة المطبخ، وغرفة المعيشة. الرائحة:
نظافة تامة، رائحة مادة مطهّرة. هل كانت مادة الكلور مثلًا؟ لست أدري... لا أستطيع التذكر الآن. كل ما أستطيع تذكره تذكراً واضحاً هو
العَرَق على ظهره ورائحة البيرة في أنفاسه.
أجري متجاوزة النفق فأصل مترنّحة إلى زاوية شارع بلنهايم رود. أحبس أنفاسي عندما أمضي مسرعة على امتداد الرصيف، خافضة
رأسي، خائفة من النظر. وعندما أنظر، لا أرى شيئاً.
لا أجد سيارة مقفلة أمام باب سكوت، ولا سيارات شرطة. أيمكن أن يكونوا قد انتهوا من تفتيش البيت؟ إن كانوا قد وجدوا شيئاً،
فسوف يظلون هناك... بالتأكيد. لا بد أن الأمر يستغرق ساعات... حتى يفتشوا كل شيء... حتى يجمعوا الأدلة. تتسارع خطواتي.
وعندما أبلغ بيته أقف ثم أستنشق نفساً عميقاً. الستائر مسدلة، في الأعلى وفي الأسفل. تهتز ستائر نافذة الجيران. هناك من يراقبني.
أخطو صوب مدخل البيت، ثم ترتفع يدي. لا يجوز أن أكون هنا. لا أعرف ما أفعله هنا. أردت أن أرى فحسب، أردت أن أعرف. أتردد
لحظة بين مخالفة غرائزي كلها وقرع الباب، وبين الاستدارة والذهاب. أستدير لأغادر. وعند تلك اللحظة، ينفتح الباب.
قبل أن أتحرك، تمتد يده سريعاً، فتقبض على ساعدي وتجذبني نحوه. فمه مشدود غاضب، وعيناه مجنونتان. إنه يائس. يملأني الذعر
والأدرينالين، وأرى الظلمة قادمة. أفتح فمي لأصرخ، لكنني تأخرت كثيراً. يدفعني داخل البيت، ثم يغلق الباب خلفي.
ميغان
الخميس، 21 آذار/مارس 2013
في الصباح
لست ممن يخسرون! يجب أن يعرف هذا الأمر عني. أنا لا أخسر لعبة من هذا النوع.
شاشة هاتفي المحمول فارغة. فارغة... معانِدة، وقحة. لا رسائل نصية، ولا مكالمات. كلما نظرت إلى تلك الشاشة، أشعر أنني أتلقى
صفعة على وجهي، فأزداد غضباً على غضب. ماذا أصابني في غرفة الفندق تلك؟ بم كنت أفكر؟ هل ظننت أن صلة قامت بيننا، أن شيئاً
حقيقياً حدث بيننا؟ لم يكن يعتزم الذهاب معي إلى أي مكان. لكني صدقته ثانية واحدة ـ بل أكثر من ثانية ـ وهذا ما يزعجني حقاً. كنت
سخيفة، سريعة التصديق. كان يسخر مني، طيلة الوقت.
إن كان يعتقد أنني سوف أجلس باكية عليه، فسوف يرى شيئاً آخر. أستطيع العيش من دونه. أستطيع أن أكون على أحسن ما يرام من
دونه ـ لكني لا أحب أن أخسر. هذه ليست طبيعتي. لا شيء من هذا يشبه طبيعتي. لا يستطيع أحد أن يرفضني. أنا من يقرّر الذهاب، أنا
من يذهب.
إننــي أقــود نفسـي صـوب الجنـون، ولا أسـتطيع عـدم فعـل ذلـك. لا أسـتطيع التـوقف عـن العـودة إلـى ذلـك اللقـاء بعـد الظـهر فـي الفنـدق
واستعادة ما قاله، مرة بعد مرة... استعادة الشعور الذي جعلني أحسه.
ابن حرام!
إن كان يظن أنني سأختفي... سأذهب هكذا، سأذهب بهدوء... فهو مخطئ. إذا لم يرد على اتصالي سريعاً، فسوف أكف عن الاتصال
بهاتفه المحمول، وسأتصل به في البيت. لن أقبل أن يتجاهلني.
على الإفطار، طلب مني سكوت أن ألغي جلسة المعالجة النفسية ليوم الغد. لم أقل شيئاً. تظاهرت بأنني لم أسمعه.
يقول لي: «دعانا ديف إلى العشاء. لم نذهب إليهم منذ زمن بعيد. هل تستطيعين ترتيب وقت آخر لجلسة المعالجة النفسية؟».
نبرة صوته خفيفة، رقيقة... كما لو أنه يطلب طَلَباً عارضاً. لكنني أستطيع الإحساس به يراقبني، عيناه على وجهي. إننا واقفان على
حافة مشاجرة... عليَّ أن أكون حذرة.
أقول له: «لا أستطيع يا سكوت! الوقت متأخّر على هذا. لماذا لا تطلب من ديف وكارين أن يأتيا إلينا ليلة السبت بدلاً من ذلك؟»... إن
فكرة تسلية ديف وكارين في عطلة نهاية الأسبوع ترهقني، لكن يجب أن أقدم تنازلاً.
يقول لي: «لا، ليس الوقت متأخراً». يقولها وهو يضع فنجان قهوته على الطاولة، أمامي. يضع كفَّيْه على كتفيَّ لحظة واحدة ويقول: «ألغِ
ذلك الموعد، هل اتفقنا؟» ثم يسير خارجاً من الغرفة.
وعندما أسمعه يغلق باب البيت... في اللحظة نفسها، ألتقط فنجان القهوة وأقذف به صوب الجدار.
في المساء
كنت أستطيع أن أقول لنفسي إن الأمر ليس رفضاً في الحقيقة. كنت قادرة على إقناع نفسي بأنه يحاول أن يفعل الشيء الصحيح،
فحسب... الشيء الصحيح أخلاقياً ومهنياً. لكني أعرف أن هذا غير صحيح. أو... على الأقل... ليس هو الحقيقة كلها لأن المرء، إذا أراد
شخصاً ما بقوة... فلا علاقة للأخلاق بذلك (ولا للاعتبارات المهنية بالتأكيد)؛ سوف يفعل أي شيء ليحصل عليه. إنه لا يريدني بالقوة
الكافية.
تجاهلت اتصالات سكوت طيلة بعد الظهر؛ وذهبت إلى جلستي متأخّرة عن الموعد. دخلت مكتبه مباشرة من غير قول أي كلمة لموظفة
الاستقبال. كان جالساً خلف مكتبه... يكتب شيئاً. التفت صوبي لحظة دخولي، لم يبتسم... ثم عاد ينظر في أوراقه. وقفت أمام مكتبه
منتظرة أن يرفع رأسه وينظر إليّ. أحسست أن دهراً قد انقضى قبل أن يفعل ذلك.
سألني أخيراً: «هل أنت بخير؟» ... ابتسم لي عند ذلك: «أنت متأخرة عن موعدك».
انحبست أنفاسي في حلقي، ولم أستطع الكلام. مضيت حول مكتبه ثم وقفت متكئة عليه. لامست ساقي فخذه. انسحب إلى الخلف
قليلاً.
قال لي: «ميغان! هل أنت بخير؟» هززت رأسي. مددتُ يدي له، فمد يده وأمسكها.
«ميغان»... قالها من جديد وهو يهز رأسه.
لم أقل شيئاً.
قال: «لا يمكنكِ... عليك أن تجلسي. دعينا نتحدث».
هززت رأسي.
«ميغان».
كلما نطق اسمي من جديد، كلما ازداد الأمر سوءاً.
نهض واقفاً ودار حول المكتب، مبتعداً عني. وقف في وسط الغرفة.
قال بنبرة مهنية ـ نبرة جافة، مسطَّحة: «هيا... اجلسي».
مضيت خلفه حتى وسط الغرفة. وضعت يدي على وسطه، ووضعت الأخرى على صدره. أمسك بمعصمي وابتعد قليلاً عني.
«لا تفعلي هذا يا ميغان. لا تستطيعين أن تفعلي هذا... لا نستطيع...». ثم استدار مبتعداً.
قلت بصعوبة: «كمال، أرجوك». كرهت صوت كلماتي.
«هذا الأمر... هنا! لا يجوز... ليس هذا مناسباً. هذا... صدّقيني، لكن...».
أخبرته لحظتها بأنني أريد أن أكون معه.
قال لي: «هذه حالة تحوّل، انتقال، يا ميغان. إنها تحدث من وقت لآخر. إنها تصيبني أنا أيضاً. كان عليَّ حقاً أن أخبرك عن هذا الأمر في
المرة الأخيرة. إنني آسف».
حينها، وددت أن أصرخ. إنه يجعل الأمر يبدو مبتذَلاً كثيراً، من غير روح... يجعله عادياً.
سألته: «هل تريد القول لي إنك لا تحسّ شيئاً؟ أتقول لي إنني أتخيل هذا كله؟»
هز رأسه: «عليك أن تفهمي يا ميغان. ما كان يجوز لي أن أترك الأمور تصل إلى هذا الحد».
تحركتُ مقتربةً منه. وضعت يدي على ورْكيه ثم جعلته يستدير صوبي. أمسكَ بمعصمي من جديد. أطبقت أصابعه الطويلة على
معصمي. قال: «من الممكن أن أخسر عملي». وعند ذلك، فقدت أعصابي حقاً.
ابتعدت عنه... بغضب، بعنف. حاول أن يمسكني، لكنه لم يستطع. كنت أصرخ عليه، أقول له إنني لا أعبأ أبداً بعمله. كان يحاول تهدئتي ـ
قلقاً، هكذا افترضت... قلقاً مما يمكن أن تظنّه موظفة الاستقبال، ومما يمكن أن يظنّه بقية المرضى. أمسك بكتفي. انغرس إبهاماه في
أعلى ذراعيّ. طلب مني أن أهدأ، وأن أكف عن التصرف كالأطفال. هزّني... هزاً عنيفاً... ظننت للحظة أنه سوف يصفعني على وجهي.
قبّلته على فمه؛ عضضتُ على شفته السفلى بأشد ما استطعت. أحسست بطعم دمه في فمي. دفعني بعيداً عنه.
في طريق عودتي إلى البيت كنت أخطط للانتقام. كنت أفكر بكل الأشياء التي يمكن أن أفعلها به. أستطيع جعلهم يطردونه من عمله، أو
أسوأ من ذلك. لكني لن أفعل هذا لأنه يعجبني كثيراً. لا أريد إيقاع الأذى به. بل إنني لست شديدة الانزعاج من رفضه بعد الآن. ما
يزعجني أكثر من أي أمر آخر هو أنني لم أصل إلى نهاية قصتي. وأنا لا أستطيع البدء من جديد مع شخص آخر... الأمر صعب كثيراً.
لا أريد الذهاب إلى البيت الآن لأنني لا أعرف كيف سأفسّر الكدمات على ذراعي.
ريتشل
الاثنين، 22 تموز/يوليو 2013
في المساء
... إنني أنتظر الآن.
يعذِّبني... يعذبني عدم معرفتي، يعذبني بطء كل شيء يجب أن يتحرك. لكن، لا شيء أستطيع فعله أكثر مما فعلت.
كنت على حق هذا الصباح عندما أحسست بذلك الذعر. لكني، فقط، لم أعرف من أي شيء يجب أن أخاف.
ليس من سكوت! لا بد أنه رأى الذعر في عينيّ عندما جذبني داخل البيت. لأنه تركني على الفور تقريباً. كان مجنون العينين أشعث
الشعر؛ بدا كأنه آثر الانسحاب من الضوء... أغلق الباب من خلفنا. «ماذا تفعلين هنا؟ هنالك مصورون وصحافيون في كل مكان. لا
أستطيع أن أترك الناس يأتون إلى بابي... يتجولون هنا. سوف يقولون أشياء... سوف يحاولون ـ سوف يحاولون أي شيء، للحصول
على صورة، للحصول على...»
قلت له: «لا أحد في الخارج»؛ لكني يجب أن أكون صادقة... لم أنظر حقاً. لعلّه يوجد أشخاص جالسون في سيارات، منتظرين حدوث
شيء.
سألني من جديد: «ماذا تفعلين هنا؟».
«سمعت... كان ذلك في الأخبار. أردت فقط أن... هل هو ذلك الرجل؟ هل اعتقلوه؟».
أومأ برأسه: «نعم! في وقت مبكر من هذا اليوم. كانت محققة الشرطة هنا. جاءت لتخبرني. لكنها لم تستطع... لا يريدون أن يكشفوا لي
عن السبب. لا بد أنهم وجدوا شيئاً؛ لكنهم لا يريدون أن يقولوا لي ما هو. لكنهم لم يجدوها هي، رغم ذلك. أعرف أنهم لم يعثروا عليها».
يجلس على درجات السلم لافّاً ذراعيه حول جسده. جسده يرتجف كله.
«لا أستطيع احتمال هذا. لا أستطيع احتمال انتظار رنين جرس الهاتف. عندما يرن الهاتف... ماذا سيكون الخبر؟ هل سيكون أسوأ خبر
على الإطلاق؟ هل سيكون أن...» تتوقف كلماته، ثم يرفع رأسه وينظر إليّ كأنما يراني أول مرة: «لماذا جئت؟».
«أردت... ظننت أنك لن تكون راغباً في البقاء وحدك».
نظر إلّي كما لو أنني مجنونة، ثم قال: «لست وحدي».
نهض وسار من جانبي إلى غرفة المعيشة. بقيت واقفة هناك، لحظة. لم أعرف إن كان عليَّ أن أتبعه أو أن أذهب. لكنه صاح عند ذلك:
«هل تريدين قهوة؟».
كانت هناك امرأة في الخارج، على المرج، تدخِّن. كانت طويلة لها شعر خطّه الشيب. وكانت تبدو أنيقة في بنطلون أسود وقميص أبيض
أغلقت أزراره حتى رقبتها. كانت تسير عند المدخل جيئة وذهاباً، لكنها توقفت عندما لمحتني. ألقت سيجارتها على الأرض المبلَّطة
وسحقتها بقدمها.
سألتني متشككة عندما وصلت إلى المطبخ: «هل أنت من الشرطة؟».
«لا. إنني...».
قال سكوت: «هذه ريتشل واتسون. المرأة التي اتصلت بي لتخبرني عن أبديك».
أومأت برأسها بحركة بطيئة كما لو أن تفسير سكوت لم يساعدها في فهم شيء. راحت تنظر إليّ، وراحت عيناها تنتقلان سريعاً من
رأسي إلى قدمي، ثم صعوداً من جديد... «أوه!».
«إنني، فقط، آآآ...» لم يكن لديَّ سبب يبرر وجودي هناك. لم أكن أستطيع القول... أليس كذلك؟ ... لم أستطع القول إنني أردت أن أعرف
فقط. أردت أن أرى!
«لا بأس! إن سكوت شديد الامتنان لك لأنك أخبرته بذلك. من الواضح أننا الآن ننتظر لنعرف ماذا يحدث على وجه التحديد». تقدّمت
مني ثم أمسكتني من مرفقي وأدارتني بلطف صوب الباب. ألقيت نظرة صوب سكوت. لكنه ما كان ينظر نحوي. كانت عيناه مثبتتان في
مكان ما خارج النافذة، إلى الناحية الأخرى من خط القطار.
«شكراً على مرورك يا آنسة واتسون. حقاً، إننا ممتنّون لك كثيراً».
وجدت نفسي على درجات المدخل. أغلق باب البيت بإحكام من خلفي. وعندما رفعت رأسي رأيتهم: توم دافعاً عربة الطفلة، وآنّا سائرة
إلى جانبه. تجمّدا في مكانهما عندما شاهداني. رفعت آنّا يدها إلى فمها ثم انحنت سريعاً فأخذت طفلتها من العربة. اللبؤة تحمي
صغيرتها! وددت أن أضحك عليها... أن أقول لها إنني لست هنا من أجلها... لم أكن في أي لحظة أقل اهتماماً بطفلتها مني الآن.
إنني مطرودة! لقد أوضحت والدة سكوت ذلك بكل جلاء. إنني مطرودة... وإنني محبَطة أيضاً. لكن هذا لا يجوز أن يكون أمراً مهماً
لأنهم اعتقلوا كمال أبديك. لقد أمسكوا به، وقد ساعدتهم في هذا. لقد فعلت شيئاً صحيحاً. لقد أمسكوا به. ولن يطول الأمر الآن قبل أن
يعثروا على ميغان ويعيدوها إلى بيتها.
أنت تقرأ
فتاة القطار
Adventureتحكي الرواية عن ريتشل ، سيدة مطلقة فقدت وظيفتها بعدها تدخل في حالة كآبة. تستقل القطار يومياً في ذهابها للندن وعندما يتوقف القطار في احدى المحطات تلمح زوجين في أحد المنازل فيتشكل لديها رابط خاص بهما. غير انه في احد الأيام تكتشف خيانة الزوج لزوجها من...