الفصل الثاني والعشرين
( آنّا )
الثلاثاء، 13 آب/أغسطس 2013
في الصباح
وقفــت أنظــر إلـى تـوم وهـو يسـتعد للعمـل هـذا الصـباح... يرتـدي قميصـه ويضـع ربطـة عنقـه. بـدا لـي منشـغل البـال بعـض الشـيء. لعلـه
يستعرض برنامجه لهذا اليوم. اجتماعات، ومواعيد، وماذا، ومع من، وأين. أحسست بالغيرة. حسدته، للمرة الأولى، حسدته حقاً على
متعة ارتداء الملابس في الصباح ومغادرة البيت والمضي هنا وهناك طيلة اليوم... المضي خلف هدف... وكل ذلك في خدمة الدَّخْل
الذي يجنيه.
ليس العمل هو الشيء الذي أشتاق إليه أو أفتقده، كنت وسيطة عقارية... لم أكن جرّاحة أعصاب. وهو ليس بالعمل الذي يحلم به المرء
عندما يكون طفلاً. لكني كنت أحب قدرتي آنذاك على التجول في أنحاء البيوت الغالية حقاً عندما لا يكون أصحابها فيها. كنت أمرّ
بأصابعي على رخام المطابخ، وأسترق نظرات إلى الخزائن الكبيرة. كنت أتخيل كيف يمكن أن تكون حياتي إذا عشت في بيت من هذا
النوع... وأي شخص أكون عند ذلك. أدرك تماماً أن ما من عمل أهم من تنشئة طفل؛ لكن المشكلة أنه عمل لا يلقى كبير تقدير. لا يلقى
كبير تقدير بالمعنى الذي يهمني الآن... بالمعنى المالي. أود أن يكون لدينا مال أكثر حتى نستطيع ترك هذا البيت، وهذا الشارع. الأمر
بسيط.... الأمر بهذه البساطة.
لعله ليس بسيطاً هذه البساطة كلها. بعد خروج توم إلى عمله، جلست إلى طاولة المطبخ لأخوض معركة مع إيفي من أجل إفطارها.
أقسم أنها كانت تأكل أيّ شيء، منذ شهرين فقط. أما الآن، فإنها ترفض أيّ طعام ما لم يكن لبناً رائباً مع الفراولة. أعرف أن هذا أمر
طبيعي. دائماً أقول هذا لنفسي هذه الأيام... وأنا أحاول إزالة صفار البيض من شعري، وأزحف في أرجاء الغرفة لالتقاط الملاعق
والأطباق التي ترميها. أقول لنفسي دائماً إن هذا أمر طبيعي.
رغم ذلك، عندما ننتهي من الطعام أخيراً وتبدأ طفلتي باللعب وحدها سعيدة... أسمح لنفسي بالبكاء دقيقة واحدة. لا أتيح هذه الدموع
لنفسي إلا نادراً... فقط عندما لا يكون توم هنا... بضع لحظات فقط حتى أنفّس عمّا في صدري. كان ذلك عندما ذهبت لأغسل وجهي بعد
فراغي من إطعام إيفي... لاحظت كم أبدو متعبة، كم أبدو مبقَّعة، مهلهلة، فظيعة تماماً. عندها، جاءني ذلك الإحساس من جديد. الحاجة
إلى ارتداء فستان وحذاء مرتفع الكعب، وإلى تصفيف شعري ووضْع مساحيق التجميل ثم المشي في الشارع لأجعل الرجال يلتفتون
وينظرون إليّ.
أفتقد عملي، لكنني أفتقد أيضاً ما كان يعنيه ذلك العمل لي في آخر أيام وظيفتي المربحة... عندما التقيت توم. أفتقد كوني عشيقة
رجل متزوج في ذلك الوقت.
كنت مستمتعة بهذا؛ بل أحببته في حقيقة الأمر. لم أشعر بأي ذنب أبداً. كنت أتظاهر بأنني أشعر بالذنب. كان عليَّ أن أتظاهر عندما
أكون مع صديقاتي المتزوجات... اللواتي يعشن رعباً من الخادمة أو من الموظفة الجميلة المَرِحة في المكتب، تلك التي تستطيع الكلام
عن كرة القدم وتمضي نصف حياتها في صالات التدريب الرياضية. كان عليَّ أن أقول لصديقاتي إن لديَّ شعوراً فظيعاً تجاه ذلك، وإنني
آسفة حقاً من أجل زوجته، وإنني لم أقصد أن يحدث شيء من هذا... لقد وقعنا في الحب، فماذا نستطيع أن نفعل؟
لكن الحقيقة هي أنني لم أحسّ بأيّ تعاطف مع ريتشل، ولا بأيّ أسف عليها، حتى قبل اكتشافي أنها تشرب وأنها صعبة مزعجة، وأنها
تجعل حياته بائسة. ما كانت ريتشل حقيقية بالنسبة لي على أي حال. وكنت مستمتعة كثيراً. أمر مثير أن أكون المرأة الأخرى... لا معنى
لإنكار هذا: أنت هي التي لا يستطيع الامتناع عن خيانة زوجته من أجلها... رغم حبه لها. أنت ساحرة إلى هذا الحد، لا سبيل إلى
مقاومتك.
كنت أحاول بيع بيت في ذلك الوقت. البيع رقم 24 في شارع غرانهام. كان الأمر صعباً لأن آخر مشترٍ مهتم بذلك البيت لم يستطع
الحصول على قرض. كان ذلك شيئاً متعلقاً بسجله الائتماني. وهكذا، رتَّبنا أمر الحصول على تقييم محايد لنتأكد من أن كل شيء على
ما يرام. كان صاحب البيت الذي يريد بيعه قد انتقل منه. وكان البيت خالياً. وهكذا كان عليَّ الوجود هناك حتى أفتح الباب للشخص
الذي سيُجري التقييم المحايد.
كان واضحاً لحظة فتحت الباب له أن الأمر سيحدث. لم أفعل شيئاً من هذا النوع قبل ذلك، بل لم أحلم بفعله أصلاً. لكن، كان هنالك
شيء في طريقة نظره إليّ، في ابتسامته. لم نستطع منع أنفسنا ـ فعلناها هناك، في المطبخ، على طاولة المطبخ. كان أمراً مجنوناً، لكننا
كنا مجنونَيْن أيضاً. هذا ما كان يقوله لي دائماً: لا تتوقعي مني أن أكون عاقلاً يا آنّا. لا تتوقعي مني أن أكون عاقلاً معك أنتِ.
أحمل إيفي فنخرج إلى الحديقة معاً. إنها تدفع عربتها الصغيرة جيئة وذهاباً، وتضحك من نفسها عندما تفعل ذلك... صارت نوبة غضبها
هذا الصباح أمراً منسياً. كلما ابتسمت لي أحسّ أن قلبي موشك على الانفجار. مهما كنت أفتقد العمل، فسوف أفتقد ابتسامتها أكثر منه.
لن يحدث ذلك أصلاً. لا يمكن أبداً بعد الآن أن أتركها مع أحد غيري يعتني بها... مهما كان مؤهلاً، مهما كان مشهوداً له. لن أتركها مع أحد
أبداً بعد الآن... لن أتركها مع أحد بعد ميغان.
في المساء
كتب لي توم رسالة نصّية قال فيها إنه سيعود متأخراً بعض الشيء هذا المساء لأن عليه دعوة أحد العملاء إلى الشراب. وكنت أستعد
مع إيفي للخروج في نزهتنا المسائية. كنا في غرفة النوم، غرفة نومي أنا وتوم؛ وكنت أغيّر لها ملابسها. كان الضياء رائعاً. ألقٌ برتقالي
غنيّ يملأ البيت كله ويتحوّل فجأة إلى لون أزرق رمادي عندما تحتجب الشمس خلف غمامة. كانت الستائر نصف مغلقة حتى لا تصبح
الغرفة شديدة الحرارة. وهكذا مضيت لأفتحها فرأيت ريتشل واقفة في الناحية الأخرى من الشارع. كانت تنظر إلى بيتنا. لكنها مشت
من فورها متجهة صوب المحطة.
إنني جالسة على السرير... يهزّني الغضب... تنغرس أظافري في راحَتيْ يدَيّ. إيفي ترفس الهواء بقدمَيها؛ لكني غاضبة كثيراً... لا أريد
حملها لأنني أخاف أن أسحقها.
قال لي توم إنه سيتولى الأمر. قال لي إنه اتصل بها يوم الأحد، وإنهما تحدثا، وإنها اعترفت بأن نوعاً من الصداقة نشأ بينها وبين
سكوت هيبويل، لكنها لا تعتزم رؤيته بعد الآن ولن تعود إلى التجوال في المنطقة. قال توم إنها وعدته بذلك، وإنه يصدّقها. قال أيضاً
إنها كانت منطقية... لم يظهر عليها أي أثر للشراب، ولم تكن هستيرية أيضاً. لم تطلق أي تهديدات، ولم تتوسل إليه حتى يعود إليها. قال
لي إنه يظنّها في تحسّن.
أتنفس تنفساً عميقاً عدة مرات، ثم أرفع إيفي إلى حِجري وأضعها مستلقية على ظهرها فوق ساقَيّ، ثم أمسك يديها بيدَيّ.
«أظن أن الكيل قد طفح الآن؛ ألا تظنين هذا يا حلوتي؟».
المشكلة هي أن الأمر مرهق إلى حد كبير: أقول في نفسي كل مرة إن الأمور في تحسن، وإننا انتهينا أخيراً من مشكلة ريتشل، لكني
أعود لأرى تلك المشكلة أمامي من جديد. أشعر أحياناً أنها لن تبتعد عني أبداً.
هنالك بذرة فاسدة مزروعة عميقاً في داخلي. عندما يقول لي توم إن كل شيء بخير، إن كل شيء على ما يرام، وإنها لن تزعجنا بعد
الآن... ثم أراها تعود إلى إزعاجنا، لا أستطيع منع نفسي من التساؤل عما إذا كان يحاول التخلص منها حقاً، أو أن جزءاً منه... جزءاً
عميقاً منه... مرتاح لحقيقة أنها لا تستطيع الابتعاد والتخلي عنه.
أهبط إلى الأسفل، ثم أبحث في دروج المطبخ عن البطاقة التي تركتها المحققة رايلي. أطلب رقمها سريعاً قبل أن يتاح لي وقت لأغير
رأيي.
الأربعاء، 14 آب/أغسطس 2013
في الصباح
نحن في السرير. يداه على ردفَيَّ، وأنفاسه حارة على رقبتي. جلده مبلل بالعرق، ملتصق بجلدي. يقول لي: «لم نعد نفعل هذا كثيراً».
«أعرف».
«علينا أن نخصص وقتاً أكبر لأنفسنا».
«هذا صحيح».
يقول لي: «أشتاق إليك. أشتاق إلى ما نفعله الآن. أريد المزيد من هذا».
أستدير ثم أقبِّله على شفتيه. عينايّ مغمضتان بإحكام... أحاول كبْت إحساسي بالذنب لأنني ذهبت إلى الشرطة من وراء ظهره.
يغمغم قائلاً: «أظن أن علينا أن نذهب إلى مكان ما. نحن الاثنان فقط. أن نبتعد قليلاً».
ومع من نترك إيفي؟... أود أن أسأله هذا. أنتركها مع والديك اللذين لا تكلمهما؟ أو مع أمي التي صارت ضعيفة إلى حد يجعلها غير قادرة
حتىعلى الاعتناء بنفسها؟
لا أقول هذا. لا أقول أي شيء. فقط، أقبّله من جديد، قبلات أكثر عمقاً. تنزلق كفه حتى أعلى ساقي. يضغط عليها، يعصرها.
«ما رأيك؟ أين تحبين الذهاب؟ موريشيوس؟ بالي؟».
أضحك.
يقول لي مبتعداً قليلاً عني... ينظر في عيني: «إنني جاد. نحن نستحق هذا يا آنّا. أنت تستحقين هذا. كانت سنة صعبة، أليس كذلك؟».
«لكن...».
«لكن ماذا؟» يبتسم لي ابتسامته الرائعة... «سوف نجد حلاً من أجل إيفي... لا تقلقي».
«توم، النقود».
«سيكون الأمر على ما يرام».
«لكن...». لا أريد أن أقول هذا، لكن علي أن أقوله: «ليس لدينا المال الكافي حتى للتفكير في تغيير بيتنا، لكننا نملك المال الكافي للذهاب
في عطلة إلى موريشيوس أو بالي؟» ينفخ خديه، ثم يطلق الهواء ببطء منقلباً بعيداً عني. ما كان عليَّ قوْل هذا. يصدر صوت عن جهاز
المراقبة في غرفة إيفي: إنها تستيقظ.
يقول توم: «سوف آتي بها». ثم ينهض ويخرج من الغرفة.
على الإفطار، تفعل إيفي ما تفعله عادة. صار ذلك لعبة لها الآن. رفض الطعام، وهز رأسها رافعة ذقنها ضاغطةً شفتيها... تدفع بقبضتيها
الصحن الذي أمامها. ينفذ صبر توم سريعاً.
يقول لي: «ليس لديَّ وقت لهذا. عليك أن تقومي به أنت». ينهض واقفاً وهو يناولني الملعقة وتعبير الألم مرتسم على وجهه.
آخذ نفساً عميقاً.
لا بأس! إنه متعب. لديه عمل كثير. وهو منزعج لأنني لم أدخل عالم خيالاته عن العطلة هذا الصباح.
لكن لا... ليس الأمر على ما يرام لأنني متعَبة أنا أيضاً. أود أن نتحدث عن المال وعن وضعنا هنا. لن ينتهي الأمر بخروجه من الغرفة.
بالطبع، لا أقول له هذا؛ لكني بدلاً من ذلك أنكث عهداً قطعته على نفسي فأمضي مباشرة إلى ذكر ريتشل.
أقول: «كانت تتجول في المنطقة من جديد. هذا يعني أن ما قلته لها ذلك اليوم لم يكن ناجحاً».
يرميني بنظرة حادة: «ماذا تقصدين بأنها تتجول في المنطقة؟».
«رأيتها الليلة الماضية واقفة في الشارع قبالة البيت تماماً».
«هل كان معها أحد؟».
«لا! كانت وحيدة. لماذا تسأل عن ذلك؟».
يقول وقد صار وجهه داكناً مثلما يحدث دائماً عندما يغضب غضباً حقيقياً: «تبّاً! قلت لها ألا تقترب منا. لماذا لم تقولي لي شيئاً الليلة
الماضية؟».
«لم أرد إزعاجك...»، أقولها بنعومة، بصوت منخفض... ندمتُ لأنني ذكرت الأمر... «لم أكن أريدك أن تقلق».
«يا إلهي!». يقول هذا ثم يرمي فنجان القهوة في المجلى فيصدر صوتاً مرتفعاً. تخاف إيفي من هذا الصوت فتبدأ بالزعيق. هذا غير
مفيد. «لا أعرف ما يمكن أن أقول لك. صدقاً، لا أعرف. عندما تحدثت معها كانت على ما يرام. لقد استمعتُ لما قلت ثم وعدتني بألّا
تأتي إلى هنا بعد ذلك. كان مظهرها يبدو على ما يرام. كانت تبدو معافاة في الحقيقة ـ تبدو كأنها عادت إلى وضْعها الطبيعي».
«مظهرها! ... تبدو على ما يرام!»... أسأله هذا، وقبل أن يدير ظهره لي أستطيع أن أرى في وجهه أنه أدرك غلطته... «ظننتك قلت لي إنك
تحدثت معها بالهاتف، أليس كذلك؟».
يستنشق نفساً عميقاً ثم يطلق زفرة ثقيلة... ثم يستدير صوبي من غير أي تعبير على وجهه: «نعم، لا بأس... هذا ما قلته لك يا عزيزتي
لأنني كنت أعرف أنك ستنزعجين لأنني قابلتها. إنني أستسلم الآن ـ لقد كذبت عليك. أحياناً، يغامر المرء بأي شيء ليكسب راحته».
«هل تسخر مني؟».
يبتسم لي، ويهز رأسه عندما يخطو صوبي. لا تزال يداه مرفوعتين استسلاماً: «إنني آسف؛ إنني آسف. لقد أرادت أن نتحدث وجهاً
لوجه. ظننت أن ذلك سيكون أفضل فعلاً. إنني آسف، هل اتفقنا؟ لقد تحدثنا فقط. لقد ذهبنا إلى مقهى بائس في آشبوري وتحدثنا
عشرين دقيقة... أو نصف ساعة كحد أقصى. هل ترين الآن؟».
يحيطني بذراعيه ويجذبني إلى صدره. أحاول مقاومته، لكنه أقوى مني، ثم إن رائحته رائعة... وأنا لا أريد مشاجرة. أريد أن نكون في
صف واحد معاً. يغمغم من جديد... في شعري: «إنني آسف».
أقول له: «لا بأس».
أتركه يفلت بفعلته لأنني أتولّى الأمر بنفسي الآن. لقد تحدثت مع المحقِّقة رايلي مساء أمس. عرفت منذ لحظة بدء كلامنا أنني فعلت
الشيء الصحيح عندما اتصلت بها. عندما أخبرتها أنني شاهدت ريتشل خارجة من بيت سكوت هيبويل ‘عدة مرات’ (مبالغة بسيطة)،
بدت شديدة الاهتمام بذلك. أرادت أن تعرف التواريخ، وفي أي ساعة حدث ذلك (استطعت تزويدها بمعلومات عن مرتين اثنتين.
وتعمّدت الغموض في ما يتعلق بالمرات الأخرى). أرادت أن تعرف إن كانت بينهما علاقة قبل اختفاء ميغان هيبويل. وسألتني إن كنت
أظن أن بينهما علاقة جنسية الآن. كان عليَّ القول إن تلك الفكرة لم تخطر في بالي حقيقة، لا أستطيع أن أتخيله ذاهباً من ميغان إلى
ريتشل. وعلى أيّ حال إن جسد زوجته لم يبرد في قبرها بعد.
أخبرتها أيضاً عن حادثة إيفي. محاولة الاختطاف. قلت هذا لأذكّرها به إن كانت ناسية.
قلــت لــها: «إنــها غــير مسـتقرة علـى الإطـلاق. قـد تظنـين أننـي أبـالغ فـي ردة فعلـي، لكننـي لا أسـتطيع المغـامرة أبـداً عنـدما يتعلـق الأمـر
بأسرتي».
قالت لي: «لا، أبداً! أشكرك كثيراً لأنك اتصلت بي. إذا رأيت شيئاً آخر تظنين أنه يدعو إلى الشك، فأرجو أن تخبريني».
لا فكرة عندي عما ستفعله الشرطة في هذا الشأن. من الممكن أن تكتفي بتحذيرها من الاقتراب! على أي حال، سيكون هذا مفيداً إذا بدأ
بحث مسألة استصدار أمر بتقييد حركتها. لكني آمل... من أجل توم... ألا يصل الأمر إلى ذلك الحد.
بعد ذهاب توم إلى العمل، أخذت إيفي إلى الحديقة فلعبنا على الأراجيح وعلى الأحصنة الخشبية الهزازة الصغيرة. وعندما أعدتها إلى
عربتها سقطت نائمة على الفور تقريباً فكان هذا إيذاناً لي بالذهاب إلى التسوّق. سرنا عبر الشوارع الخلفية في اتجاه متجر سينز بري
الكبير. هذا طريق جانبي طويل بعض الشيء، لكنه هادئ وليس فيه سيارات كثيرة. إنه يمر بالبيت رقم 34 في شارع غرانهام.
لا يزال المرور بذلك البيت يثير عندي رعشة صغيرة، إلى الآن، فجأة، ترفرف فراشات كثيرة في أحشائي، وترتسم ابتسامة على شفتَيّ،
وتتورد وجنتاي. أتذكر كيف كنت أصعد الدرجات الأمامية مسرعة، آملة ألا يراني أحد من الجيران داخلة إلى ذلك البيت. ثم أجهّز نفسي
في الحمام... أضع عطراً، وأرتدي ذلك النوع من الملابس الداخلية التي لا تُلبَس إلا لكي تُخلع. ثم أتلقّى منه رسالة نصية إنه عند الباب.
ثم نمضي ساعة أو ساعتين في غرفة النوم، في الأعلى.
كان يقول لريتشل إنه مع أحد العملاء، أو إنه في لقاء مع الأصدقاء لتناول البيرة. وكنت أسأله: «ألا يقلقك احتمال أن تحاول ريتشل
التحقّق من ذلك؟»، فيهز رأسه مستبعداً تلك الفكرة. قال لي مبتسماً ذات مرة: «إنني ماهر في الكذب». وقال مرة أيضاً: «حتى إذا حاوَلَتُ
التحقّق فإن المشكلة مع ريتشل هي أنها لن تتذكر غداً ما حدث اليوم». عند ذلك فقط بدأت أدرك مدى سوء الوضع في نظره.
لكن التفكير في تلك الأحاديث يمسح الابتسامة عن وجهي. التفكير في توم الذي كان يضحك ضحكة تآمرية وهو يمرِّر أصابعه على
بطني ويبتسم لي قائلاً: «إنني ماهر في الكذب». إنه ماهر في الكذب، لديه موهبة طبيعية. رأيته يفعل هذا: يقنِع موظف الاستقبال في
الفندق بأننا زوجان في شهر العسل مثلاً، أو يتذرَّع بأن لديه حالة طارئة في البيت لكي يتجنب العمل ساعات إضافية. الجميع يفعل
هذا، الجميع يفعل هذا طبعاً، لكن... عندما يفعله توم، فإنك تصدّقه فعلاً.
أفكر في كذبته على الإفطار هذا الصباح، لكن المهم أنني أمسكت به كاذباً؛ وقد اعترف بذلك على الفور. ليس عندي أي شيء يقلقني.
إنه لا يقابل ريتشل من وراء ظهري! الفكرة سخيفة أصلاً. لعلها كانت جذّابة ذات يوم ـ كانت جذّابة فعلاً عندما قابلها أول مرة... فقد
رأيت صورها: عينان كبيرتان داكنتان، وتفاصيل جسد مثيرة ـ لكنها سمينة الآن. ثم إنه لن يعود إليها أبداً... ليس بعد كل الأشياء التي
فعلتها به، التي فعلَتْها بنا. كل تلك الإزعاجات والاتصالات الهاتفية آخر الليل، وقدومها إلى بيتنا، ورسائلها النصية.
أقف الآن في جناح المأكولات المعلَّبة. لا تزال إيفي نائمة في عربتها. أبدأ بالتفكير في تلك المكالمات الهاتفية، وفي تلك المرّة ـ أو لعلها
مرّات؟. عندما استيقظت فرأيت ضوءاً في الحمام، استطعت أن أسمع صوته خفيضاً لطيفاً، من خلف الباب المغلق. كان يهدّئ من
روعها. أعرف أن هذا ما كان يفعله. قال لي إنها تغضب أحياناً إلى درجة تجعلها تهدّده بأن تأتي إلى البيت، أو بأن تذهب إلى عمله، أو أن
ترمي بنفسها أمام القطار. لعله ماهر جداً في الكذب. لكني أعرف عندما يقول الحقيقة. لا يستطيع خداعي.
في المساء
أفكر في الأمر فأجد أنه خدعني بالفعل. أليس كذلك؟ عندما قال لي إنه تحدث مع ريتشل هاتفياً وإنه أحس من صوتها أنها بخير، بحالة
أفضل، سعيدة تقريباً... لم أشكّ في كلامه لحظة واحدة. ثم جاء إلى البيت ليلة الاثنين، وسألته عن نهاره فقال لي إنه كان في اجتماع
مرهق حقاً هذا الصباح. أصغيتُ إليه متعاطفةً من غير أن أشك لحظة في قصة ذلك الاجتماع، من غير أن أفكّر أبداً في أنه كان طيلة
ذلك الوقت في آشبوري مع زوجته السابقة.
هذا ما أفكر فيه وأنا أفرغ آلة غسل الأطباق... أفرغها بدقة وانتباه شديدَيْن لأن إيفي نائمة، ولأن قرقعة الأطباق والملاعق يمكن أن
توقظها. لقد خدعني فعلاً. أعرف أنه لا يكون صادقاً دائماً مئة بالمئة في كل شيء. أفكر في تلك القصة عن والديه ـ كيف أنه دعاهما إلى
زفافنا لكنهما رفضا الحضور لأنهما كانا غاضبَيْن منه لأنه ترك ريتشل. أرى هذا أمراً غريباً، دائماً، ففي المناسبتَيْن اللتين تحدثت فيهما مع
أمه بدت لي مسرورة بالحديث معي. كانت لطيفة، مهتمة بي، ومهتمة بإيفي.
قالت لي: «آمل حقاً أن نتمكن من رؤيتها قريباً». لكن توم استبعد الفكرة تماماً عندما أخبرته بكلام أمه.
يقول لي: «إنها تحاول جعلي أدعوهما إلى بيتنا... حتى تستطيع أن ترفض. إنها ألعاب القوة». لكنها لم تبدُ لي أنها امرأة تلعب ألعاب
القوة معي. لم أواصل الإلحاح على تلك النقطة. إن النفاذ إلى العلاقات داخل أسر الأشخاص الآخرين أمر شديد الصعوبة دائماً. ولا بد أن
لديه أسباباً تجعله يبقيهما بعيدَيْن عنا. أعرف أن لديه أسباباً. إن حمايتي وحماية إيفي في قلب هذه الأسباب.
لكن، لماذا أتساءل الآن إن كانت تلك الحكاية صحيحة؟ إنه هذا البيت، هذا الوضع، كل الأشياء التي تحدث هنا. يجعلني هذا أشك في
نفسي، أشك فينا. إذا لم أكن حذِرة منتبهة فسوف يدفعني هذا كله إلى الجنون. وسينتهي بي الأمر مثلها. مثل ريتشل.
أنا جالسة هنا فقط... أنتظر حتى يحين وقت إخراج الملابس من آلة التجفيف. أفكّر في تشغيل التلفزيون لأرى إن كنت أستطيع العثور
على حلقة من «فريندز» لم أشاهدها ثلاثمئة مرة. أفكر في القيام ببعض تمرينات اليوغا. وأفكر في القصة على الطاولة الصغيرة بجانب
سريري، القصة التي قرأت فيها اثنتي عشرة صفحة خلال الأسبوعين الماضيين. أفكر في حاسوب توم المحمول. إنه على الطاولة
الصغيرة في غرفة الجلوس.
عند ذلك، أفعل شيئاً لم أفكر يوماً في فعله. أمسك بزجاجة النبيذ الأحمر التي فتحناها الليلة الماضية على العشاء فأصبّ لنفسي كأساً.
ثم أحضر حاسوبه فأشغِّله وأبدأ محاولة اكتشاف كلمة السر.
إنني أفعل الأشياء التي كانت تفعلها هي: أشرب وحدي، وأتلصَّص عليه. إنها الأشياء التي كانت تفعلها، والتي كان يكرهها. لكن الأمور
تغيرت في الآونة الأخيرة ـ منذ هذا الصباح. إذا كان سيكذب علَيّ، فسوف أتلصص عليه بدوري. هذا عدل، أليس كذلك؟ أشعر أنني
أستحق بعض الإنصاف. وهكذا، أحاول العثور على كلمة السر. أجرب تركيبات مختلفة من الأسماء: اسمي واسمه، اسمه واسم إيفي،
اسمي واسم إيفي، ثلاثتنا معاً، أكتبها مرة إلى الأمام ومرة إلى الخلف، تواريخ ميلادنا في تركيبات مختلفة. تواريخ أخرى: عندما التقينا
أول مرة، عندما مارسنا الجنس أول مرة. الرقم 34 في شارع غرانهام؛ الرقم 23 ـ هذا البيت. أحاول التفكير في أشياء خارج ما هو
مألوف ـ يستخدم أكثر الرجال أسماء كرة القدم في كلمات السر لديهم، هكذا أظن... لكن توم لا يهوى كرة القدم. إنه يحب لعبة الكريكيت
كثيراً. فلأحاول إذًا أسماء فرق «بولكوت» و«بولتهام» و«آشز». لا أعرف أسماء أي فرق جديدة. أفرغ كأسي فأصب نصف كأس أخرى.
إنني مستمتعة بهذا حقاً... أحاول حل أحجية. أفكر في الفرق الموسيقية التي يحبها، في الأفلام التي تمتعه، وفي الممثلات اللواتي
يعجبنه. أكتب أيضاً «كلمة السر»، ثم أكتب «1234».
أسمع زعيقاً مخيفاً في الخارج. إنه قطار لندن يتوقف عند الإشارة. يشبه صوت أظافر تنزلق على لوح صلب. أشد على أسناني ثم آخذ
جرعة طويلة أخرى من النبيذ. وعند ذلك، أنتبه إلى الوقت ـ يا إلهي، إنها السابعة تقريباً. لا تزال إيفي نائمة. وسوف يصل توم إلى البيت
في أي لحظة. أفكر في أنه سيصل إلى البيت في أي لحظة فأسمع صوت المفتاح في باب البيت... يتوقّف قلبي.
أغلق الحاسوب سريعاً ثم أهبّ واقفة فيسقط الكرسي مُصْدراً صوتاً عالياً. تستيقظ إيفي وتبدأ الصراخ. أعيد الحاسوب إلى طاولته قبل
أن يصل توم إلى الغرفة. لكنه يصل فيدرك أن هناك شيئًا غير طبيعي. ينظر إليّ ثم يقول: «ماذا يجري؟» أقول له: «لا شيء، لا شيء. لقد
دفعت الكرسي فسقط من غير أن أقصد ذلك». يلتقط إيفي من سريرها فيحتضنها. وعند ذلك ألمح وجهي في المرآة المعلقة في الممر:
وجهاً شاحبًا، وشفتين عليهما بقع حمر قاتمة من أثر النبيذ.

أنت تقرأ
فتاة القطار
Aventuraتحكي الرواية عن ريتشل ، سيدة مطلقة فقدت وظيفتها بعدها تدخل في حالة كآبة. تستقل القطار يومياً في ذهابها للندن وعندما يتوقف القطار في احدى المحطات تلمح زوجين في أحد المنازل فيتشكل لديها رابط خاص بهما. غير انه في احد الأيام تكتشف خيانة الزوج لزوجها من...