آنّا

13 1 0
                                        

الفصل الرابع والعشرين
( آنّا )
السبت، 17 آب/أغسطس 2013
في المساء


أكره نفسي لأنني أبكي. حالة تثير الرثاء. لكني أحسّ نفسي مرهَقة، مستنزَفة، لأن الأسابيع القليلة الماضية كانت شديدة الوطأة علي.
جرت مشاجرة أخرى بيننا، أنا وتوم. كانت متعلقة بريتشل. أيمكن أن تحصل أي مشاجرة بيننا لسببٍ غير ذلك؟
أظن أن الأمر كان في طور الاختمار قبل ذلك. كنت أعذّب نفسي مفكّرة في تلك الرسالة، وفي حقيقة أنه كذب عليّ في ما يتعلق
بلقائهما. أقول لنفسي دائماً إن هذا أمر سخيف تماماً. لكني لا أستطيع مقاومة إحساسي بأن شيئاً ما يحدث بينهما. أفكر في الأمر كله،
مرة بعد مرة: بعد كل ما فعلَته ريتشل به ـ بعد كل ما فعلته بنا ـ كيف يمكن أن يحدث هذا؟ كيف يمكن له حتى أن يفكّر في أن يكون
معها من جديد؟ أقصد... عند النظر إلينا معاً، جنباً إلى جنب، فكيف يمكن لأيّ رجل في هذا العالم أن يفضّلها عليّ؟ هذا حتى من غير
الدخول في تفاصيل مشاكلها كلها!
لكني أقول في نفسي بعد ذلك إن هذا يحدث أحياناً. ألا يحدث هذا أحياناً؟ أشخاص يكون لك معهم ماضٍ مشترك فلا يتركونك... ومهما
تحاول تخليص نفسك، فإنك لا تستطيع ذلك... لا تستطيع التحرّر منهم. بل لعلك تكف عن محاولة ذلك بعد فترة.
جاءت ريتشل يوم الخميس. جاءت تدقّ الباب وتنادي توم. كنت في غاية الغضب؛ لكني لم أجرؤ على فتح الباب. عندما يكون معك
طفل، فإن هذا يجعلك هشّاً، يجعلك ضعيفاً. لو كنت وحدي لواجهتها. لو كنت وحدي لما كان عندي مشكلة في التخلّص منها. لكن... مع
وجود إيفي... لم أستطع المغامرة بذلك. لا فكرة عندي أبداً عما يمكن أن تفعله.
أعرف سبب قدومها. كانت غاضبة لأنني أبلغت الشرطة عنها. أراهن أنها أتت باكية إلى توم لتجعله يقول لي أن أتركها وشأنها. لقد تركت
رسالة ـ «علينا أن نتحدث. أرجو أن تتصل بي في أقرب وقت ممكن... الأمر مهم». (وضعت ثلاثة خطوط تحت كلمة «مهم») ـ. رميت هذه
الورقة في سلة المهملات. لكني بحثت عنها فيما بعد واستعدتها، ثم وضعتها في دُرجي الخاص إلى جانب السرير، إلى جانب نسخ
مطبوعة من رسائلها الإلكترونية المزعِجة وسجلّ أدوّن فيه كل ما يتعلق باتصالاتها والأوقات التي أراها فيها. إنه سِجِلّ الإزعاجات. إنه
دليلي... إذا احتجت إليه يوماً ما. اتصلت بالمحقّقة رايلي فتركت لها رسالة أقول فيها إن ريتشل جاءت من جديد. لكن رايلي لم تعاود
الاتصال بي حتى الآن.
كان عليَّ إخبار توم بتلك الرسالة. أعرف أن عليَّ إخباره. لكني ما كنت أريد أن ينزعج مني لأنني تحدثت مع الشرطة. وهكذا، وضعت
الرسالة في ذلك الدرج آملة أن تنساها ريتشل. لكنها لم تنسها... بالطبع. لقد اتصلت به الليلة. كان في غاية الغضب عندما أنهى المكالمة
معها.
قال لي بنبرة حادة: «ما قصة تلك الرسالة بحق الجحيم؟».
قلت له إنني رميتها. قلت: «لم أدرك أنك قد ترغب في قراءتها. ظننت أنك تريدها خارج حياتنا، بقدر ما أريد ذلك».
نظر إليَّ مستغرباً: «المسألة ليست هنا. وأنت تعرفين هذا. أريد أن تبتعد عنا ريتشل، أريد هذا بالطبع. ما لا أريده هو أن تبدئي بالاستماع
إلى اتصالاتي الهاتفية والتخلص من رسائلي. إنك...» وتنهّد.
«إنني ماذا؟».
«لا شيء. إنه فقط... إنه ذلك النوع من الأشياء التي كانت تفعلها ريتشل».
كان ذلك لكمة في أحشائي... ضربة تحت الحزام. يا للسُّخف... انفجرت دموعي وجريت أصعد السلم ودخلت الحمّام. انتظرت أن يأتي
لتــهدئتي، لتقبــيلي ومصــالحتي مثلمــا يفعــل دائمـاً. لكنـي سـمعت صـوته يصـيح بعـد نصـف سـاعة: «أنـا ذاهـب إلـى صـالة الرياضـة لمـدة
ساعتين». وقبل أستطيع الرد سمعت صوت إغلاق باب البيت.
والآن... أجد نفسي أتصرف مثلما كانت تفعل ريتشل تماماً: أجهِزُ على نصف زجاجة النبيذ الأحمر المتبقّية من عشاء الليلة الماضية،
وأتلصّص على حاسوبه. من الأسهل عليَّ أن أفهم سلوكها عندما تكون مشاعري مثلما هي الآن. لا شيء أكثر ألماً من الشك، لا شيء
يأكل المرء مثل داخله.
توصلت أخيراً إلى معرفة كلمة السر على حاسوبه: إنها بلنهايم! كلمة غبية مضجرة إلى هذا الحد ـ اسم الشارع الذي نعيش فيه. لم أجد
أي رسائل تدينه، أي صور وسخة أو رسائل عاطفية. أمضيتُ نصف ساعة أقرأ رسائل متعلقة بالعمل، رسائل تخدِّر الدماغ... بل تخدِّر ألم
الغيرة أيضاً. ثم أغلقت الحاسوب وأزحته جانباً. أشعر ببهجة حقيقية الآن... بفضل النبيذ، وبفضل المحتويات المضجِرة في حاسوب
توم. لقد طمأنت نفسي إلى أنني كنت مجرد امرأة سخيفة.
أصعد إلى الأعلى، إلى الحَمّام، لأنظف أسناني ـ لا أريده أن يعرف أنني عدت إلى شرب النبيذ من جديد ـ ثم أقرر أن أنزع ملاءات السرير
لأضع ملاءات نظيفة بدلاً منها، وأن أرشّ قليلاً من عطر آكوا دي بارما على الوسائد، وأن أرتدي اليوم ذلك السروال الداخلي من الحرير
الأسود الذي جاءني منه في عيد ميلادي السنة الماضية. وسوف أثيره عندما يعود إلى البيت.
عندما كنت أسحب الملاءات عن السرير كدت أتعثر بحقيبة سوداء موضوعة تحته. إنها حقيبته التي يأخذها معه إلى صالة الرياضة.
ذهب ونسيها هنا. لقد ذهب منذ ساعة، لكنه لم يعد من أجل الحقيبة. تنقبض معدتي. لعله قرر أن يصرف النظر عن الأمر وأن يذهب إلى
الحانة بدلاً من ذلك. أو لعل لديه مستلزمات رياضية احتياطية في خزانته الخاصة في الصالة. أو... لعله في السرير معها الآن، في هذه
اللحظة.
أشعر بالغثيان. أجثو على ركبتي وأقلب محتويات الحقيبة. أشياؤه كلها هنا، مغسولة جاهزة للاستخدام. أجد جهاز الآي بود أيضاً،
والحذاء الذي لا يستخدم غيره للجري. أجد شيئاً آخر أيضاً: هاتف محمول. هاتفاً لم أره أبداً من قبل.
أجلس على السرير. الهاتف في يدي. قلبي يخفق. سوف أشغّل الهاتف. لن أستطيع مقاومة هذا أبداً. لكني واثقة تماماً من أنني سأندم
على تشغيله، لأن وجود هذا الهاتف لا يمكن أن يعني إلا شيئاً سيئاً. لا يحتفظ المرء بهاتف محمول احتياطي موضوع في حقيبة
الرياضة إلا إذا كان يريد إخفاء شيء ما. هنالك صوت في رأسي يقول لي: أعيديه إلى مكانه... انسيه تماماً... لكني لا أستطيع. يضغط
إصبعي بشدة على مفتاح التشغيل. أنتظر ريثما تضاء الشاشة... ثم أنتظر... ثم أنتظر. إنه ميت. يسري الارتياح في جسدي كأنه
المورفين.
أحسست بالارتياح لأنني لا أستطيع أن أعرف الآن. لكني مرتاحة أيضاً لأن هاتف ببطارية فارغة يعني هاتفاً غير مستخدم، هاتفاً غير
مرغوب فيه، وليس هاتف رجل منغمس في علاقة عاطفية. لو كان كذلك، لأراده معه طيلة الوقت. لعله هاتف قديم له؛ ولعله قابع في
حقيبته الرياضية منذ شهور ولم يتسنَ له أن يرميه. بل قد لا يكون هاتفه أصلاً: لعله وجده في صالة الرياضة ووضعه في حقيبته
معتزماً تسليمه إلى موظف الاستقبال هناك، لكنه نسي الأمر بعد ذلك؟
أترك السرير والملاءة لا تزال نصف منزوعة عنه. أهبط إلى غرفة المعيشة. إن في طاولة القهوة درجين صغيرين مليئين بأشياء من تلك
التوافه المنزلية التي تتراكم مع مرور الزمن: لفافات من شريط بلاستيكي لاصق، ومآخذ كهربائية مختلفة يستخدمها المرء عندما يسافر
خارج البلاد، وأشرطة قياس، وعدة خياطة، وشواحن هواتف محمولة قديمة. إنها ثلاثة شواحن... آخذها كلها. أجرّبها، فيعمل الثاني
منها على الجهاز. أصله بالكهرباء وأضعه قرب سريري، عند جهتي أنا. الهاتف والشاحن مخفيان خلف الطاولة الصغيرة إلى جانب
السرير. ثم أنتظر.
تواريخ وساعات، في الأغلب. ليست تواريخ. إنها أيام. الساعة الثالثة يوم الاثنين؟ الرابعة والنصف يوم الجمعة. وأحياناً، مكالمات
مرفوضة. رسالة: لا أستطيع غداً. ليس في أيام الأربعاء. لا شيء آخر: لا اعتراف بالحب، ولا إيحاءات مفضوحة. إنها مجرد رسائل
نصية... خمس رسائل أو ست رسائل. وكلها من رقم محجوب. لم أجد أرقاماً في سجل الهاتف. كان قائمة المكالمات ممحوًّا أيضاً.
لست في حاجة إلى تواريخ... لأن الهاتف نفسه يسجّلها. تعود هذه اللقاءات إلى أشهر مضت. بل إلى سنة مضت تقريباً. عندما أدركت
هذا، عندما رأيت أن أول اتصال كان في أيلول/سبتمبر العام الماضي، أحسست غصة في حنجرتي. شهر أيلول! كان عمر إيفي ستة
أشهر آنذاك. وكنت لا أزال سمينة، مرهَقة، قبيحة، ممتنعة عن الجنس. لكني بدأت أضحك عند ذلك لأن هذا الأمر سخيف فعلاً... لا يمكن
أن يكون حقيقياً. كنا في غاية السعادة في أيلول... كنا غارقَيْن في الحب، وفي حب طفلتنا الجديدة. لا يمكن أبداً أن يعبث معها في
ذلك الوقت؛ لا يمكن أبداً... أبداً... أن يراها طيلة هذا الوقت. لو كان الأمر كذلك لعرفت. لا يمكن أن يكون هذا صحيحاً. هذا الهاتف ليس
له.
رغم هذا!... أتناول سجل الإزعاجات من على الطاولة إلى جانب سريري وأنظر في تلك المكالمات... أقارنها باللقاءات المتفق عليها في
الهاتف. بعضها متطابق. وبعضها متأخّر يوماً أو اثنين، أو مبكر يوماً أو اثنين. وبعضها مختلف تماماً.
هل يمكن حقاً أنه يراها كل هذا الوقت ويقول لي إنها تضايقه وتزعجه بينما يرسمان الخطط ليلتقيا، ليتسللا خلسة من خلف ظهري؟
لكن، لماذا تتصل به عبر الهاتف الأرضي إذا كانت تستطيع الاتصال بهذا الهاتف؟ لا معنى لهذا. لا معنى له إلا إذا كانت تريديني أن
أعرف. إلا إذا كانت تحاول إثارة مشكلات بيننا.
مضت الآن على غياب توم ساعتان. وسوف يعود قريباً، أينما كان. أرتّب السرير، وأضع السجل والهاتف في الدرج إلى جانب السرير، ثم
أهبط إلى المطبخ وأصبّ لنفسي كأساً أخيرة من النبيذ فأشربها سريعاً. أستطيع الاتصال بها. وأستطيع مواجهتها أيضاً. لكن، ماذا أقول
لها؟ ليست لديَّ نقطة تفوّق أخلاقي أستند إليها. ثم إنني لست واثقة من قدرتي على احتمال هذا، على احتمال رؤية سرورها عندما
تخبرني أنني كنت غبية طيلة هذا الوقت. ستقول: إن كان قد فعل هذا معك، فسوف يفعله بك أيضاً.
أسمع خطوات على الرصيف خارج المنزل فأعرف أنه هو. أعرف مشيته. أسكب ما بقي من كأس النبيذ في المجلى، ثم أقف هناك
مستندة إلى طاولة المطبخ. أسمع ضربات قلبي في أذني.
يقول عندما يراني: «مرحباً». يبدو وديعاً، مترنّحاً بعض الشيء.
«هل صاروا يقدمون البيرة في صالة الرياضة الآن؟»
يبتسم ويقول: «نسيت حقيبتي. فذهبت إلى الحانة».
مثلما ظننت تماماً... أو مثلما توقَّع أن أظن!
يقتــرب منــي قلــيلاً ويسـألني: «مـاذا كنـت تفعلـين؟»... علـى شـفتيه ابتسـامة... «يبـدو عليـك الإحسـاس بالـذنب». يلـفّ وسـطي بـذراعيه
ويشدني نحوه. أستطيع أن أشم رائحة البيرة في أنفاسه... «هل كنت تفعلين شيئاً سيئاً؟».
«توم...».
«شششش». يقولها ثم يقبّلني على فمي ويبدأ فك أزرار بنطلوني. ويديرني. لا أريد هذا؛ لكني لا أعرف كيف أقول لا. أغمض عيني
وأحاول عدم التفكير فيه معها. أحاول أن أفكر في أيامنا الأولى عندما كنا نسرع إلى ذلك البيت الفارغ في شارع غرانهام... مبهورَيْ
الأنفاس، متشوّقَيْن، جائعين.
الأحد، 18 آب/أغسطس 2013
في الصباح الباكر
أستيقظ مذعورة. لا يزال الظلام مخيماً. يخيل لي أنني أستطيع سماع بكاء إيفي. لكني أذهب إليها لأتفقدها فأراها نائمة نوماً عميقاً.
أرى قبضتيها ممسكتَيْن بالبطانية إمساكاً مُحْكَماً. أعود إلى السرير، لكني لا أستطيع العودة إلى النوم. ذلك الهاتف في الدرج إلى جواري
هو كل ما أستطيع التفكير فيه. ألتفت صوب توم فأراه مستلقياً ماداً يده إلى جانبه، وأرى رأسه مرتداً إلى أسفل. أعرف من إيقاع تنفسه
أنه نائم تماماً. أنزلق من السرير، وأفتح الدرج، وآخذ الهاتف.
أهبط إلى المطبخ، وأقلب الهاتف في يدي مرة بعد مرة... أهيئ نفسي. أريد أن أعرف؛ لكني لا أريد أن أعرف. أريد أن أتأكد، لكني أريد
أن أكون مخطئة... أريد هذا إلى حد اليأس. أشغّل الهاتف. أضغط ضغطة طويلة على الرقم «واحد» فأسمع الرسالة الترحيبية من البريد
الصوتي. أسمع البريد الصوتي يخبرني بعدم وجود رسائل، وبعدم وجود رسائل محفوظة. يسألني أيضاً: أأريد تغيير رسالة التحية؟
أنهي المكالمة. لكن خوفاً يداهمني فجأة، خوفًا غير منطقي على الإطلاق. أخاف أن يرنّ الهاتف وأن يسمعه توم في الأعلى. وهكذا أفتح
الباب الزجاجي المنزلق وأخطو إلى الخارج.
العشب رطب تحت قدمَيّ؛ والهواء لطيف البرودة مثقَلٌ بعبير المطر والأزهار. أسمع قطاراً في البعيد... هدير بطيء. إنه بعيد جداً. أسير
حتى أكاد أصل إلى السياج قبل أن أشغّل البريد الصوتي من جديد: هل أريد تغيير رسالة التحية؟ نعم، أريد تغييرها. يصدر عن الهاتف
طنين قصير، ثم لحظة صمت، ثم أسمع صوتها. صوتها هي... لا صوته. مرحباً، هذه أنا، اترك رسالة من فضلك.
توقَّف قلبي عن الخفقان.
هذا ليس هاتفه. إنه هاتفها هي.
أعيد الرسالة من جديد.
مرحباً، هذه أنا، اترك رسالة من فضلك.
إنه صوتها هي... صوتها!
لا أستطيع أن أتحرك. لا أستطيع أن أتنفس. أعيد الرسالة مرة بعد مرة. حنجرتي منقبضة. أحس أنني على وشك الإغماء. ثم... أرى
المصباح يُضاء في الطابق العلوي.

فتاة القطارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن