ميغان

9 1 0
                                    

الفصل الثامن والعشرين
( ميغان )
الجمعة، 12 تموز/يوليو 2013


في الصباح
إنها مسيطرة على سلوكي. أو لعله هو من يسيطر على سلوكي. شيء في داخلي يقول لي إنها هي. أو لعله قلبي يخبرني أنها هي. لست
أدري. إنني أشعر بها، مثلما شعرت منذ زمن... متكوّرة... بذرة في مهدها... لكن هذه البذرة تبتسم. تنتظر لحظتها. لا أستطيع أن أكرهها.
ولا أستطيع التخلص منها. لا أستطيع. كنت أظن أنني قادرة على التخلص منها؛ كنت أظن أنني سأكون متلهفة إلى إزالتها. لكني، عندما
أفكر بها، لا أستطيع أن أرى شيئاً غير وجه ليبي، عينيها الداكنتين. أكاد أشم رائحة جلدها. أستطيع أن أشعر ببرودتها الشديدة عند
النهاية. لا أستطيع التخلص منها. لا أريد التخلص منها. أريد أن أحبها.
لا أستطيع أن أكرهها، لكنها تخيفني. أخاف مما يمكن أن تسببه لي، أو مما يمكن أن أفعله بها. إنه هو... ذلك الخوف الذي أيقظني بعيد
الخامسة هذا الصباح. استيقظت غارقة في العرق رغم النوافذ المفتوحة ورغم حقيقة أنني كنت وحدي. ذهب سكوت من أجل مؤتمر
في مكان ما في هارتفوردشاير أو إسكس أو... في مكان ما. سيعود الليلة.
ماذا دهاني؟ ما مشكلتي؟ لماذا أكون توّاقة إلى الوحدة عندما يكون هنا ثم لا أستطيع احتمال وحدتي عندما يغيب؟ لا أستطيع احتمال
هذا الصمت. عليَّ أن أتكلم بصوت مسموع حتى يزول الصمت. كنت أفكر في فراشي هذا الصباح، أقول في نفسي: ماذا لو حدث ذلك
من جديد؟ ماذا سيحدث عندما أكون وحدي معها؟ ماذا سيحدث إذا رفض إيوائي، إذا رفض إيواءنا؟ ماذا يمكن أن يحدث لو فطن إلى
أنها ليست ابنته؟
قد تكون ابنته، بالطبع! لست أدري. لكني أحسّ فقط أنها ليست ابنته. أحس ذلك مثلما أحس أنها بنت وليست صبياً. لكن، حتى إذا لم
تكن ابنته، فكيف يمكن أن يعرف هذا؟ لن يعرف هذا. لا يستطيع أن يعرفه. هذا غباء مني. سيكون في غاية السعادة. سيكون مجنوناً
لشدة فرحه عندما أخبره. لن يخطر في باله أبداً أنها يمكن ألّا تكون ابنته. سيكون إخباره أمراً قاسياً. سيحطِّم قلبه. لا أريد أن أجرحه.
لم أرد أبداً أن أجرحه.
لا أستطيع تغيير طبيعتي، لا أستطيع التحكّم فيها.
«تستطيعين التحكم بما تفعلين، رغم ذلك». هذا ما يقوله كمال.
اتصلت بكمال بعد السادسة مباشرة. كان الصمت قد هزمني... بدأ الذعر يتملّكني. فكرت في الاتصال بتارا ـ كنت أعرف أنها ستأتي إليّ
على الفور. لكني لم أرَ أنني أستطيع احتمال هذا. سوف تكون شديدة التعلق بي، وستبالغ في حمايتي. كان كمال الشخص الوحيد الذي
يمكن أن أفكّر في الكلام معه. اتصلت به في بيته. قلت له إنني في مشكلة، وإنني لا أعرف ما أفعل، وإنني مذعورة. جاء كمال سريعاً.
ليس من غير أي أسئلة، لكن، تقريباً، من غير أسئلة. لعلي جعلت الوضع يبدو أسوأ مما هو عليه في الحقيقة. ولعله خاف أن أفعل شيئاً
غبياً، أن أرتكب حماقة.
إننا في المطبخ. لا يزال الوقت مبكراً... تجاوزت السابعة والنصف قليلاً. عليه أن يذهب سريعاً إذا أراد اللحاق بموعده الأول لهذا اليوم.
أنظر إليه جالساً قبالتي، إلى طاولة المطبخ، عاقداً كفَّيه بأناقة أمامه. عيناه العميقتان مثل عينَيْ ظبي تنظران في عينَيّ، فأشعر بالحب.
نعم، أشعر بالحب. إنه جيد جداً معي رغم تصرفاتي البائسة.
صفح عن كل ما جرى من قبل، تماماً مثلما كنت آمل أن يفعل. أزاح كل شيء جانباً... كل خطاياي. قال لي إن ذلك سوف يستمر،
ويستمر، إن لم أسامح نفسي؛ ولن أتمكن أبداً من الكف عن الهرب. وأنا لا أستطيع الهرب أكثر من ذلك، لا أستطيع الهرب بعد الآن، أليس
كذلك؟ ليس بعد وجودها.
أقول له: «إنني خائفة! ماذا لو أخطأت من جديد؟ ماذا لو كان عندي خلل ما؟ ماذا لو جرت الأمور بشكل سيىء مع سكوت؟ ماذا إن
انتهى بي الأمر إلى أن أكون وحدي من جديد؟ لا أعرف إن كنت قادرة على هذا؛ أخاف كثيراً أن أكون وحدي من جديد ـ أقصد... وحدي
مع طفل...».
ينحني صوبي ويضع يده فوق يدي: «لن تفعلي أي شيء خاطئ. لن تفعلي. لم تعودي طفلة ضائعة حزينة على أخيها. أنت شخص
مختلف تماماً الآن. صرتِ أقوى. صرت كبيرة الآن. لا شيء يحملك على الخوف من أن تكوني وحيدة من جديد. ليس هذا أسوأ الأشياء،
أليس كذلك؟».
لا أقول شيئاً، لكني لا أستطيع إلا أن أفكر في أنه قد يكون أسوأ الأشياء فعلاً لأنني قادرة، عندما أغمض عينَيّ، على استعادة الإحساس
الذي يأتيني عندما أكون عند حافة النوم فيردّني إلى اليقظة. إحساس بأنني وحدي في بيت مظلم... أصغي إلى صرخاتها وأنتظر سماع
خطوات ماك على الأرض الخشبية في الأسفل عارفة أنني لن أسمعها أبداً.
«لا يمكنني أن أقول لك ما يجب فعله في ما يتعلق بسكوت. أقصد علاقتكِ به... تعرفين أنني عبَّرت عن مخاوفي؛ لكن عليك أن تقرري
بنفسك. عليك أن تقرري إن كنت واثقة به، وإن كنت تريدين أن يعتني بك وبطفلك. يجب أن يكون هذا القرار قرارك أنتِ. لكني أرى أنك
قادرة على الثقة بنفسك يا ميغان. يمكنك الثقة بأنك ستفعلين ما هو صواب».
وفي الخارج، على المرج، يجلب لي فنجاناً من القهوة. أضع الفنجان على الأرض ثم ألفّه بذراعَيَّ وأجذبه ليقترب مني. ومن خلفنا، يهدر
قطار متباطئاً عند الإشارة. ضجة القطار تشبه حاجزاً أو جداراً يغلّفنا، يعزلنا، يحيط بنا. أحس أننا صرنا وحدنا حقاً. يحطيني بذراعيه
ويقبّلني.
أقول: «شكراً لك! شكراً لأنك أتيت. شكراً لأنك هنا».
يبتسم لي، ويبتعد عني قليلاً، ثم يمرِّر إبهامه على وجنتي: «سوف تكون أمورك بخير يا ميغان».
«أما كان ممكناً فقط... أن أهرب معك؟ أنت وأنا... أما كان يمكننا أن نهرب معاً؟».
يضحك: «لست في حاجة إلي. ولست في حاجة إلى مواصلة الهرب. سوف تكونين بخير. ستكونين بخير، أنت والطفل».
السبت، 13 تموز/يوليو 2013
في الصباح
أعرف ما عليَّ فعْله. فكرت فيه طيلة نهار أمس. فكرت فيه طيلة الليل أيضاً. لم أكد أنم هذه الليلة. عاد سكوت مرهَقاً، مستنزَفاً، منحرف
المزاج. ما كان يريد إلّا الأكل، والمضاجعة، والنوم. لا وقت لأي شيء آخر. بالتأكيد، لم يكن الوقت مناسباً للحديث عن هذا.
أستلقي مستيقظة معظم الليل وهو إلى جانبي، حارّاً، كثير التقلب. وأتخذ قراري. سوف أفعل الشيء الصحيح. سوف أفعل كل شيء
بشكل صحيح. إذا فعلت كل شيء بشكل صحيح، فلا يمكن أن يسير أي شيء على غير ما يرام. وحتى إذا حدث ذلك، فلا يمكن أن
أكون أنا المخطئة. سوف أحب هذا الطفل، هذه الطفلة، وسوف أربيها عارفة أنني أفعل ما هو صحيح منذ البداية. لا بأس... ربما ليس
منذ البداية تماماً، لكن منذ تلك اللحظة التي عرفت فيها أنها آتية. هذا هو الشيء الصحيح... ما أنا مدينة به لهذه الطفلة، وما أنا مدينة
به لليبي. إنني مدينة لها، وعليَّ أن أقوم بكل شيء على نحو مختلف هذه المرة.
أظل راقدة هناك، وأفكر في ما قاله ذلك المعلم، وفي كل الأشياء التي كنتها: طفلة، مراهقة متمرّدة، هاربة، عاهرة، عاشقة، أمّاً سيئة،
زوجة سيئة. لست واثقة إن كنت أستطيع أن أجعل من نفسي زوجة جيدة؛ أمّاً أن أكون أماً جيدة... فهذا ما لا بد لي من محاولته.
سوف يكون الأمر صعباً. قد يكون أصعب شيء اضطر إلى فعله في حياتي كلها. لكني سأقول الحقيقة. لا مزيد من الأكاذيب، ولا مزيد
من الاختباء، ولا مزيد من الهرب، ولا مزيد من الهراء. سوف أضع كل شيء مكشوفاً أمام الأنظار... وسوف نرى. إذا عجز سكوت عن
حبي عند ذلك، فليكن ما يكون.
في المساء
يدي على صدره. أحاول دفعه عنّي بأشد ما أستطيع، لكني غير قادرة على التنفس، وهو أكثر قوة مني بكثير. ذراعه ضاغطة على
حنجرتي. أحس نبض الدم في صدغي. تتشوّش عيناي. أحاول الصراخ. ظهري إلى الجدار. أنتزع ملء قبضتي من قميصه فيتركني.
يستدير مبتعداً عني فأنزلق مستندة إلى الجدار حتى أصير على أرض المطبخ.
أسعل وأبصق ودموعي تجري على وجهي. إنه واقف على مسافة خطوات مني. وعندما يستدير صوبي، ترتفع يدي غريزياً، ترتفع إلى
حنجرتي لأحميها. أرى إحساسه بالعار، أرى خجله على وجهه، فأود أن أقول له إنني بخير. إنني بخير. أفتح فمي لكن الكلمات لا تأتي؛ لا
شيء إلا مزيد من السعال. ألمٌ لا يصدق. إنه يقول لي شيئاً لكني لا أستطيع سماع شيء... كما لو أننا تحت الماء... صوت مكتوم يصلني
في موجات متداخلة مشوَّشة. لا أستطيع فهْم شيء مما يقول.
أظنه يقول لي إنه آسف.
أتحامل على نفسي فأقف ثم أتجاوزه مندفعة صوب السلم، وأصعد ثم أغلق باب غرفة النوم خلفي، ثم أقفله. أجلس على السرير
وأنتظر مصغية أن أسمع خطواته. لكنه لا يأتي. أنهض على قدمَيَّ فأخرج حقيبة السفر الصغيرة من تحت السرير، ثم أمضي إلى الخزانة
لأجلب بعض الملابس فألمح صورتي في المرآة. أرفع يدي إلى وجهي: تبدو يدي بيضاء إلى حد مخيف بالمقارنة مع وجهي المحمَرّ
وشفتَيَّ القرمزيتين وعينَيَّ المحتقنتيْن دماً.
جزء مني كان مصدوماً لأنه لم يرفع أبداً يده عليّ بهذا الشكل من قبل. لكن، كان هناك جزء آخر مني يتوقع هذا. كنت أعرف، في مكان
ما، في داخلي، أن هذا احتمال وارد، وأننا ذاهبان إلى تلك النقطة. إنها النقطة التي أقوده صوبها. وبطيئاً، بدأت أخرِجُ الأشياء من
الأدراج ـ ملابس داخلية، وزوج من القمصان؛ ثم وضعت ذلك كله في الحقيبة.
لم أخبره بشيء بعد. لم أكد أبدأ الكلام. أردت أن أخبره عن الأشياء السيئة أولاً قبل أن نصل إلى الأخبار الحسنة. ما كنت قادرة على
إخباره عن الطفلة لأقول له بعد ذلك إن هناك احتمالًا أن تكون طفلة شخص آخر. سيكون هذا شديد القسوة.
كنا جالسين أمام مدخل البيت. كان يحدثني عن العمل، ثم انتبه إلى أنني غير مصغية.
سألني: «هل أضجرك بهذا الكلام؟».
«لا!... طيب، ربما قليلاً». لم يضحك... «إنني شاردة الذهن الآن لأن هناك ما أريد إخبارك به. لدي بعض الأشياء التي يجب أن أقولها لك.
لن تحب بعض هذه الأشياء في حقيقة الأمر، لكن...».
«ما الشيء الذي تعرفين أنه لن يعجبني؟» كان يجب أن أدرك عند ذلك أن الوقت لم يكن مناسباً. كان مزاجه سيئاً. استبد به الشك على
الفور وراح ينظر في وجهي، يفتش عما أريد قوله. كان يجب أن أدرك عند ذلك أنها فكرة سيئة جداً. أظن أنني أدركت، لكن وقت
التراجع كان قد فات عند ذلك. ثم إنني كنت قد اتخذت قراري: أن أفعل ما هو صحيح.
جلست إلى جانبه على تلك الحافّة أمام البيت ودسست يدي في يده.
سألني من جديد: «ما الشيء الذي لن يعجبني؟». لكنه لم يفلِت يدي.
قلت له إنني أحبه فأحسست عضلات جسمه تتوتر كلها... كأنه أدرك ما سيأتي، كأنه يستعد لسماعه. يحدث هذا معكم، ألا يحدث...
عندما يقول لكم أحد إنه يحبكم، عندما يقولها بتلك الطريقة. أحبك، نعم أحبك، لكن... لكن.
قلت له إنني ارتكبت بعض الأخطاء، فأفلت يدي. نهض واقفاً وسار بضعة أمتار في اتجاه سكة القطار قبل أن يستدير لينظر إلي. سألني:
«أي نوع من الأخطاء؟». كانت نبرة صوته عادية، لكني سمعت في ذلك الصوت مقدار ما يبذله من جهد حتى يتحدث بتلك النبرة.
قلت: «تعال واجلس معي، أرجوك!».
هز رأسه قائلاً: «أي نوع من الأخطاء يا ميغان؟» قالها بصوت أقوى هذه المرة.
«كان هناك... انتهى الأمر الآن. كان هناك... شخص آخر». كانت عيناي تنظران إلى الأرض... لم أستطع النظر إليه.
قال شيئاً بصوت خافت جداً، شيء كأنه بصقة، لكني لم أستطع سماعه. رفعت رأسي عند ذلك ونظرت إليه، لكنه كان قد استدار صوب
سكة القطار من جديد واضعاً كفيه على صدغيه. نهضت ومضيت إليه. وقفت إلى جانبه ووضعت يدي على وركيه لكنه قفز مبتعداً عني.
استدار ليدخل إلى البيت. وقال من غير أن ينظر صوبي: «لا تلمسيني يا عاهرة».
كان عليَّ أن أتركه يذهب عند ذلك. كان عليَّ أن أمنحه وقتاً حتى يستوعب الأمر؛ لكني لم أفعل. أردت أن أتجاوز الأخبار السيئة
لأستطيع الوصول إلى الخبر الجيد. لحقت به إلى البيت.
«سكوت، من فضلك، استمع إليَّ فقط! ليس الأمر فظيعاً مثلما تظن. لقد انتهى كله الآن. انتهى تماماً. استمع إلي من فضلك... أرجوك...».
أمسك بصورتنا معاً، الصورة التي كان يحبّها كثيراً... الصورة التي صنعت لها إطاراً حتى أقدّمها هدية له في ذكرى زواجنا الثانية. رماها
على رأسي بكل قوته. وعندما تحطمت خلفي على الجدار، هجم علي فأمسك بأعلى ذراعي ثم قذفني عبر الغرفة، رماني صوب الجدار
المقابل. اصطدم رأسي بالجدار وارتدّ عنه مثلما ترتد كرة. انحنى فوقي بعد ذلك واضعاً ذراعه فوق حنجرتي، وراح يضغط أكثر فأكثر
من غير أن يقول شيئاً. أغمض عينيه حتى لا يرى اختناقي.
فور انتهائي من حزم حقيبتي، بدأت إفراغها من جديد معيدة كل شيء إلى مكانه. لن يسمح لي بالذهاب إذا حاولت الخروج حاملة
حقيبتي. يجب أن أذهب خاوية اليدين، من غير شيء إلا حقيبة اليد والهاتف. ثم غيرت رأيي من جديد وبدأت أعيد الأشياء كلها إلى
الحقيبة. لست أدري أين أذهب، لكني أعرف أنني لا أستطيع البقاء هنا. أغمضُ عينيَّ فأحس بكفَّيه على حنجرتي.
أعرف قراري ـ لا هروب بعد الآن، ولا اختباء بعد الآن ـ لكني لا أستطيع البقاء هنا الليلة. أسمع صوت خطوات على السلم... خطوات
بطيئة، رصاصية. يقتضيه الوصول إلى الطابق العلوي زمناً طويلاً ـ إنه يصعد السلم قفزاً عادة، لكنه اليوم رجلٌ صاعدٌ إلى خشبة الإعدام.
لكني لا أعرف إن كان هو المحكوم أو الجلاد.
«ميغان!»... لم يحاول فتح الباب. «ميغان... آسف لأنني آلمتك. آسف كثيراً لأنني آلمتك». أستطيع سماع الدموع في صوته. لكن هذا
يغضبني... يجعلني أود أن أطير إليه فأخمش وجهه. إياك أن تجرؤ على البكاء. إياك أن تجرؤ بعد ما فعلته بي. إنني حانقة عليه؛ أود أن
أصرخ عليه وأقول له أن يبتعد عن ذلك الباب، أن يبتعد عني. لكني أعضّ على لساني لأنني لست غبية. إن لديه سبباً للغضب. وعليَّ أن
أفكر بعقلي... عليَّ أن أفكر تفكيراً واضحاً. إنني أفكر من أجل شخصين الآن. منحتني هذه المواجهة قوة، وجعلتني أكثر تصميماً.
أستطيع سماعه خارج الباب يرجو غفراني، لكني لا أستطيع التفكير في ذلك الآن. في هذه اللحظة... عندي أشياء أخرى يجب أن أقوم
بها.
في عمق خزانتي، في آخرها تماماً، في أسفل ثلاث علب أحذية كُتبت محتويات كل منها على بطاقة، توجد علبة رمادية اللون مكتوب
عليها «الحذاء الأحمر ذو الكعب العالي». وفي تلك العلبة هاتف محمول قديم، هاتف بخط مسبق الدفع اشتريته منذ سنوات ثم تركته
هنا ريثما أحتاج إليه. لم أستخدمه منذ زمن بعيد، لكني في حاجة إليه الآن. سوف أكون صادقة. سأجعل كل شيء مكشوفاً، مرئياً. لا
أكاذيب بعد الآن، ولا اختباء بعد الآن. حان الوقت لكي يواجه الأب مسؤولياته.
أجلس على السرير وأشغّل الهاتف راجية ألا تكون بطاريته فارغة. تضيء الشاشة فأحس بالإثارة تسري في دمي، تدوّخني، تجعلني
أحس بشيئ يشبه الغثيان، وتجعلني أحلّق عالياً كأنني ثملة. لقد بدأت أشعر بالمتعة... متعة انتظار ما سيحدث عندما أكشف عن كل
شيء، عندما أواجهه ـ أواجههم جميعاً بما نحن عليه في الحقيقة، وإلى أين نحن متجهون. مع نهاية هذا اليوم، سيعرف كل واحد
موقعه.
أطلب رقمه. ومثلما توقعت، ينتقل الهاتف مباشرة إلى البريد الصوتي. أغلق الخط، ثم أكتب إليه رسالة: يجب أن أتحدث معك. هذا أمر
مستعجل. اتصل بي. ثم أجلس في مكاني وأنتظر.
أنظر إلى قائمة المكالمات. استخدمت هذا الهاتف آخر مرة في شهر نيسان. مكالمات كثيرة، كلها من غير إجابة... آواخر آذار/مارس
أوائــل نيسـان/أبريل. اتصـلت، واتصـلت، واتصـلت، واتصـلت، لكنـه تجـاهلني بـل إنـه لـم يسـتجب حتـى لتـهديداتي: سـأذهب إلـى بيتـك،
وسأتكلم مع زوجتك. لكن، رغم ذلك، أظن أنه سيصغي إليَّ الآن. سوف أجعله يصغي إليَّ الآن.
عندما بدأنا هذا كله، كان الأمر مجرد لعبة. كان مجرد تسلية. كنت أراه من وقت لآخر. كان قد زار معرضي الفني قبل ذلك، وابتسم لي
وغازلني. كان ذلك أمراً لا ضرر فيه. رجال كثيرون كانوا يأتون إلى المعرض، فيبتسمون ويغازلون. لكني أغلقت المعرض بعد ذلك.
وصرت هنا في البيت طيلة الوقت، ضجِرة، غير مستقرة. أردت شيئاً آخر، شيئاً مختلفاً. وعند ذلك صادفته في الشارع ذات يوم، وكان
سكوت غائباً، فبدأنا الحديث ثم دعوته إلى فنجان قهوة. نظر إلي عند ذلك بطريقة أدركت منها بالضبط ما كان يدور في ذهنه... وهكذا
حدث الأمر. ثم حدث مرة أخرى؛ ولم أكن أقصد أبداً أن يؤدي ذلك بنا إلى مكان ما... لم أرِدْ أن يؤدي بنا إلى مكان ما. كل ما في الأمر هو
أنني وجدت متعة في الإحساس بأنني مرغوبة. إنني أحب الإحساس بالسيطرة. كان الأمر بسيطاً إلى هذه الدرجة، كان حماقة إلى هذه
الدرجة. ما كنت أريده أن يترك زوجته. رغبت فقط أن يريد تركها... رغبتُ أن يريدني أنا إلى تلك الدرجة.
لا أذكر متى بدأت أصدّق أن الأمر يمكن أن يكون أكثر من ذلك، أن العلاقة بيننا يجب أن تكون أكثر من ذلك، وأننا يناسب كل منا الآخر.
لكني أحسست، لحظة بدأت التفكير بهذه الطريقة، أنه بدأ يبتعد عني. توقفت رسائله؛ وكف عن الإجابة على مكالماتي؛ وأنا... لم أتلقَّ
في حياتي كلها صَدّاً بهذا الشكل... أبداً. كرهت ذلك. وقتها اختلف الأمر، صار شيئاً آخر: صار وسواساً. أستطيع رؤية ذلك الآن. فكرت
في النهاية أنني أستطيع أن أتجاوز هذا كله... مع شيء من الألم، لكن من غير أذى حقيقي. لكن الأمر ما عاد بتلك البساطة.
لا يزال سكوت واقفاً عند الباب. لا أستطيع سماعه. لكني أحس به. أدخل الحَمام وأطلب الرقم من جديد. أسمع البريد الصوتي فأغلق
الخط، ثم أطلب الرقم من جديد، ثم أطلبه من جديد. أترك له رسالة مسجَّلة، هامسة: «عليك أن ترد على اتصالي وإلا فسوف آتي إلى
بيتك. أعني ما أقول هذه المرة. يجب أن أتحدث معك. لا تستطيع تجاهلي».
أظل واقفة في الحمّام بعض الوقت. الهاتف على حافة المغسلة. أريده أن يرن. تظل الشاشة رمادية فارغة، معاندة، أمشّط شعري،
وأنظف أسناني، وأضع بعض مساحيق التجميل. لون وجهي يعود إلى طبيعته. لا تزال عيناي محمرَّتين، ولا تزال حنجرتي تؤلمني، لكني
أبدو على ما يرام. أبدأ العَدّ. إذا لم يرن الهاتف قبل أن أصل إلى الخمسين فسوف أذهب إليه وأقرع بابه. لكن الهاتف لا يرن.
أضع الهاتف في جيب الجينز، ثم أمضي سريعاً عبر الغرفة وأفتح الباب. أجد سكوت جالساً على الأرض، محتضناً ركبتيه بذراعيه،
منكّساً رأسه. لا يرفع رأسه لينظر إليّ، فأتجاوزه وأبدأ الجري إلى الأسفل وأنفاسي عالقة في حلقي. أخشى أن يمسك بي من الخلف، وأن
يدفعني. أسمعه ينهض واقفاً ويناديني: «ميغان! أين أنت ذاهبة؟ هل أنت ذاهبة إليه؟».
أستدير عندما أبلغ أسفل السلم: «إنه غير موجود، هل فهمت؟ الأمر انتهى».
«انتظري من فضلك يا ميغان. لا تذهبي، أرجوك». لا أريد سماع توسّله، ولا أريد الإصغاء إلى ذلك النحيب في صوته. لا أريد سماع رثاء
الذات في صوته... ليس عندما تؤلمني حنجرتي حتى الآن كأن أحداً صبَّ حمضاً فيها.
أقول بصوت جاف: «لا تلحق بي. إذا لحقت بي فلن أعود ثانية. هل تفهمني؟ إذا استدرت ووجدتك خلفي، فستكون تلك آخر مرة ترى
وجهي».
أستطيع سماعه هاتفاً باسمي عندما صفقت الباب من خلفي.
أنتظر بضع لحظات في الخارج، على الرصيف، لأتأكد من أنه لم يلحق بي. ثم أمشي، مسرعة في البداية، ثم أبطأ، ثم أبطأ، مجتازة شارع
بلنهايم. أصل إلى الرقم 23. وعندها أفقد أعصابي. لست مستعدة لهذا المشهد بعد. إنني في حاجة إلى دقيقة واحدة حتى أستجمع
شتات نفسي. إنني في حاجة إلى بضع دقائق. أتابع السير مجتازة ذلك البيت، وأجتاز النفق والمحطة. أظل ماشية حتى أبلغ الحديقة،
ثم أطلب رقمه من جديد.
أقول له إنني في الحديقة، وإنني أنتظره هناك. أقول له إنه إذا لم يأتِ فقد قضي الأمر... إنني آتية إلى بيته. أقول له إنها فرصته
الأخيرة.
إنه مساء لطيف. الساعة بعد السابعة بقليل؛ لكن الجَوّ لا يزال دافئاً، والضياء لا يزال موجوداً. لا تزال مجموعة من الأطفال تلعب على
الأراجيح. يقف أهاليهم جانباً، يتحدثون متحمِّسين. يبدو هذا كله أنيساً، طبيعياً... وبينما أنظر إليهم يأتيني إحساس مزعج... يأتيني ما
يقول لي إننا، سكوت وأنا، لن نجلب طفلتنا لتلعب هنا. أنظر فلا أستطيع رؤيتنا هنا، سعيدَيْن هانئَيْن مثل هؤلاء الناس. ليس الآن. ليس
بعد ما فعلت.
كنت مقتنعة كل الاقتناع هذا الصباح بأن جعل كل شيء مكشوفاً هو السبيل الأمثل. ليس السبيل الأمثل فحسب، بل السبيل الوحيد. لا
كذب بعد الآن، لا اختباء بعد الآن. ثم، بعد ذلك، عندما آلمني، لم يجعلني ذلك إلا واثقة أكثر. وأما الآن... وأنا جالسة هنا وحدي، الآن بعد
أن لم يعد سكوت غاضباً، بل محطَّم القلب، لست أظن أبداً أن ما فعلته كان صحيحاً. لم أكن قوية، بل متهوّرة. لا يمكن معرفة الضرر
الذي سبّبه تهوّري.
لعل الشجاعة التي تلزمني لا علاقة لها بقول الحقيقة، بل لعلها تقتضي أن أذهب. ليس الأمر عدم ارتياح فحسب، ليس قلقاً فحسب ـ إنه
أكثر من ذلك. من أجلها ومن أجلي... هذا هو وقت الذهاب، وقت الابتعاد عنهما معاً، وقت الابتعاد عن الأمر كله. لعل الهرب والاختباء هو
ما يتعيَّن علي فعله.
أنهض واقفة وأمشي، أدور حول الحديقة مرة واحدة. يريد نصفي أن يرن الهاتف، ويخاف نصفي الآخر رنينه. لكني أجد نفسي مسرورةً
آخر الأمر عندما يظل الهاتف صامتاً. سأعتبر هذا إشارة. أنطلق في طريقة العودة... إلى البيت.
رأيته عندما عبرت المحطة. رأيته سائراً مسرعاً، خارجاً من النفق بخطوات واسعة. رأيت كتفيه متهدّلتَين وقبضتيه مشدودتَيْن. وقبل
أن أتمكن من منع نفسي... أناديه.
يستدير ليواجهني: «ميغان! ماذا أنت...». في وجهه غضب عارم؛ لكنه يشير لي بالاقتراب.
وعندما أصير قريبة منه يقول لي: «هيا! لا نستطيع التحدث في هذا المكان. السيارة واقفة هناك».
«أريد فقط أن...».
يقول بحدَّة: «لا نستطيع التكلم هنا. هيا بنا!». يشدّني من يدي، ثم يقول بشيء من اللطف: «سنذهب بالسيارة إلى مكان هادئ... هل
اتفقنا؟ سنذهب إلى مكان هادئ نستطيع الحديث فيه».
عندما أصعد إلى السيارة، ألتفت لأنظر من فوق كتفي... إلى الخلف... من حيث جاء. النفق مظلم؛ لكني أحس أنني أستطيع رؤية شخص
هناك، في الظل، شخص ينظر إلينا.

فتاة القطارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن