الفصل السابع والعشرين
( آنّا )
الأحد، 18 آب/أغسطس 2013
في الصباح
فجأة، لسبب ما، بدا لي الأمر كله مضحِكاً كثيراً. ريتشل المسكينة السمينة واقفة في حديقتي، محمرّة، متعرّقة، تقول لي إن علينا أن
نذهب. علينا، نحن الثلاثة، أن نذهب!
«وأين نذهب؟»، أسألها عندما أتوقف عن الضحك، لكنها تنظر إليّ فقط، من غير تعبير، من غير كلمات تقولها. أقول لها: «لن أذهب معك
إلى أي مكان». تتلوَّى إيفي في حضني متذمّرة فأضعها على الأرض. لا أزال أحس جلدي حارّاً، متألماً، حيث فركت نفسي في الحمام هذا
الصباح. وأشعر بلذعة في فمي، وخدي، ولساني.
تسألني: «متى يعود؟».
«لن يعود سريعاً... هكذا أظن».
في الحقيقة، لا فكرة عندي عن موعد عودته. بعض الأحيان، يمضي أياماً كاملة في تسلّق الجبال. أو... يقول لي إنه يمضي أياماً كاملة
في تسلق الجبال. لكني لا أعرف الآن. أعرف أنه أخذ معه حقيبته الرياضية. لن يطول الأمر قبل أن يكتشف أن الهاتف لم يعد موجوداً
فيها.
كنت أفكر في أخذ إيفي والذهاب إلى بيت أختي بعض الوقت. لكن ذلك الهاتف يقلقني. ماذا لو عثر عليه أحد هناك؟ هنالك عمَّال على
هذا المقطع من خط القطار في هذه الفترة. قد يجده أحدهم فيسلّمه للشرطة. إنه يحمل بصمات أصابعي.
ثم فكرت أن استعادته قد لا تكون أمراً صعباً. لكن يجب أن أنتظر هبوط الليل، حتى لا يراني أحد.
أدرك أن ريتشل مستمرّة في الكلام. إنها تطرح عليّ أسئلة. لم أكن مصغية إليها. أحسّ تعباً شديداً.
«آنّا!»... تقول لي مقتربة مني... تلك العينان الثاقبتان تفتشان في أعماق عيني... «هل قابلت أحداً منهم في يوم من الأيام؟».
«قابلت من؟».
«هل رأيت أصدقاءه من الجيش؟ هل عرّفك فعلاً إلى أيّ واحدٍ منهم؟»... أهزّ رأسي نفياً... «ألا تظنين أن هذا أمر غريب؟».
يفاجئني ذلك. الأمر الغريب فعلاً هو ظهورها في حديقتي منذ الصباح الباكر، يوم الأحد.
أقول لها: «لا، ليس غريباً. إنهم جزء من حياة أخرى. حياة أخرى له هو. مثل حالتك أنت. مثلما كان يجب أن تكوني. لكن الظاهر أننا لا
نستطيع أن نتخلّص منكِ»... تجفل ريتشل مجروحة... «ماذا تفعلين هنا يا ريتشل؟»
تقول لي: «تعرفين سبب وجودي هنا. تعرفين أن شيئاً... أن شيئاً يحدث». يظهر على وجهها تعبير صادق... كما لو أنها قلقة عليّ. قد
يكون هذا مؤثراً في ظروف أخرى!
أقول لها: «هل ترغبين في فنجان من القهوة؟» فتومئ برأسها.
أعدّ القهوة، ونجلس جنباً إلى جنب في مدخل البيت في صمت يكاد يوحي بأنه ودّي. أسألها: «إلى أي شيء تلمّحين؟ أتقولين إن
أصدقاء توم من الجيش لا وجود لهم؟ أتقولين إنه يختلق هذا؟ أتقولين إنه خرج مع امرأة أخرى في حقيقة الأمر؟».
تقول ريتشل: «لا أعرف».
«ريتشل؟»... تنظر إليّ عند ذلك فأرى في عينيها أنها خائفة. «هل لديك شيء تريدين إخباري به؟».
تسألني: «هل قابلت أسرة توم، ولو مرة واحدة؟... والديه؟».
«لا! إنهما لا يكلماننا. كفوا عن الكلام معه عندما تركك من أجلي».
تهزّ ريتشل رأسها. تقول: «هذا غير صحيح. لم أقابلهما أنا أيضاً. بل إنهما لا يعرفاني... فلماذا يهتمان وينزعجان إذا تركني؟».
ظلام في رأسي... في مؤخّرة جمجمتي تماماً. أحاول كبت هذا الظلام منذ أن سمعت صوتها في تلك الرسالة الترحيبية على الهاتف؛
لكنه يكبر الآن، ويتسع.
أقول: «لا أصدّقك. لماذا يمكن أن يكذب عليَّ توم في هذا الأمر؟».
«لأنه يكذب في كل شيء».
أنهض واقفة، ثم أبتعد عنها. أشعر بانزعاج منها لأنها قالت هذا. أشعر بانزعاج من نفسي لأنني أظن بأنني أصدّقها. أظن بأنني عرفت
دائماً أن توم كاذب. كل ما في الأمر هو أن أكاذيبه كانت تناسبني في الماضي.
أقول لها: «إنه كاذب ماهر. مضى وقت طويل من غير أن تشعري بأي شيء، أليس كذلك؟ كل تلك الشهور... كنا نلتقي، يضاجع أحدنا
الآخر حتى الموت في ذلك البيت في شارع غرانهام... ولم يكن عندك شكّ في شيء».
تبتلع ريقها وتعض على شفتها بقوة. تقول لي: «ميغان. ماذا عن ميغان؟».
«إنني أعرف. كانت بينهما علاقة». تبدو هذه الكلمات غريبة على أذني عندما أنطقها أول مرة جهاراً. لقد خانني. لقد خانني. أقول لها: «لا
بد أن هذا يزعجك؛ لكنها ذهبت الآن. ما عاد للأمر أهمية، أليس كذلك؟».
تستمر في مخاطبتي: «آنّا...».
تغدو الظلمة أكبر. إنها تملأ رأسي كله... تشوّش نظري. أمسك بيد إيفي وأشدّها متحركة صوب الداخل. لكنها تحتج احتجاجاً صاخباً.
«آنّا...».
أقول لها: «كانت بينهما علاقة. هذا هو الأمر كله. لا شيء آخر. لا يعني هذا بالضرورة أنه...».
«... أنه قتلها؟».
«لا تقولي ذلك!» ... أجد نفسي أقول هذه الكلمات لها... «لا تقولي هذه الكلمات أمام طفلتي».
أقدم لإيفي وجبة قبل الظهر فتأكل من غير تذمّر للمرة الأولى منذ أسابيع... كأنها تعرف أن لدي أموراً أخرى تشغلني الآن. أعبدها لأنها
فعلت ذلك. أشعر أنني أكثر هدوءاً مما كنت عندما نعود إلى الخارج رغم أن ريتشل لا تزال هناك واقفة عند نهاية الحديقة قرب السياج،
واقفة تراقب قطاراً مارّاً. وبعد برهة، عندما انتبهت أننا عدنا إلى الخارج، مشت في اتجاهي.
أقول لها: «أنت تحبّين القطارات، أليس كذلك؟ أنا أكرهها. أمقتها مقتاً شديداً».
تبتسم لي نصف ابتسامة. ألاحظ أن لها غمّازة عميقة على خدها الأيسر. لم أرَها من قبل. أظن أنني لم أرها مبتسمة إلا مرات قليلة... لم
أرَها مبتسمة أبداً.
تقول لي: «هذه كذبة أخرى من كذباته. قال لي إنك أحببت هذا البيت، إنك أحببت كل شيء فيه، حتى القطارات. قال لي إنك لا تحلمين
بالعثور على مكان آخر جديد، وإنك كنت شديدة الرغبة في الانتقال إلى هذا البيت للعيش هنا معه رغم أنني عشت فيه قبلك».
أهز رأسي: «ولماذا يقول لك ذلك بحق الجحيم؟ هذا كلام فارغ. كنت أحاول دائماً أن أجعله يبيع البيت منذ سنتين».
ترفع كتفيها: «لأنه يكذب يا آنّا. لأنه يكذب طيلة الوقت».
تزهــر الظلمــة. أشـد إيفـي فأجلِسـها فـي حضـني. تجلـس راضـية تمـاماً. لقـد نعسـت فـي أشـعّة الشـمس. أقـول لريتشـل: «إذًا... هـل كـانت
المكالمات الهاتفية كلها...». الآن فقط بدأ الأمر يبدو منطقياً لي... «ألم تكن كلها منك؟ أقصد... أعرف أنك كنت المتصلة بعض المرات،
لكن في بعض المرات الأخرى...».
«هل تقصدين أنها كانت مكالمات من ميغان؟ نعم، أظن هذا».
أمر غريب لأنني أعرف الآن أنني كنت طيلة ذلك الوقت أكره امرأة غير التي يجب أن أكرهها، لكني أعرف مع ذلك أن هذا لا يقلل من
مَقتي لريتشل. قد يكون هذا لأنني أراها هنا، على هذه الحال، هادئة، مهتمة، صاحية... أراها مثلما كانت ذات يوم، فيزداد نفوري منها
لأنني بدأت أرى ما كان يراه فيها بالتأكيد. أرى شيئاً لا بد أنه أحبه.
ألقي نظرة إلى ساعتي. تجاوزت الحادية عشرة. أظن أن توم قد خرج نحو الساعة الثامنة. بل لعله خرج قبل ذلك. لا بد أنه عرف بأمر
الهاتف الآن. يجب أن يكون قد عرف ذلك منذ فترة. لعله يظن أنه سقط من حقيبته. أو لعله يظن أنه سقط تحت السرير، في الأعلى.
أسألها: «منذ متى تعرفين؟... بتلك العلاقة».
تقول: «لم أعرف إلا اليوم. أقصد القول إنني لا أعرف ما كان يجري. كل ما أعرفه...». أحمد الله على أنها سكتت لأنني لست واثقة من
قدرتي على تحمّل كلامها عن خيانة زوجي. لا أستطيع احتمال فكرة أننا، أنا وهي ـ أنا وريتشل السمينة الحزينة ـ في مركب واحد الآن.
تسألني: «أتظنين أنه كان له؟ ذلك الجنين، أتظنين أنه كان له؟».
أنظر إليها لكني لا أراها حقيقة، لا أرى شيئاً إلا الظلمة، لا أسمع شيئاً إلا زئيراً في أذنَيّ، شيئاً مثل صخب البحر أو مثل طائرة تمر فوق
رأسي.
«ماذا قلت؟».
«قلت... إنني آسفة». وجهها محمرّ، مرتبك... «ما كان يجب أن... لقد كانت حاملاً عندما ماتت. كانت ميغان حاملاً. إنني آسفة».
لكنها ليست آسفة أبداً. أنا واثقة من هذا. ثم إني لا أريد أن أسقط محطَّمة أمامها. أنظر إلى إيفي، فأحس حزناً لم أحسّ مثله من قبل
يغمرني كأنه موجة، يسحقني ويقطع أنفاسي. شقيق إيفي... شقيقة إيفي... ماتت! تجلس ريتشل إلى جانبي. وتضع ذراعها حول
كتفي.
تقول مرة أخرى: «إنني آسفة». فأودّ أن أضربها. أحسّ بقشعريرة عندما يلمس جلدها جلدي. أود أن أدفعها بعيداً عني، أود أن صرخ
عليها، لكني لا أستطيع. تتركني أبكي برهة. ثم تقول بصوت واضح مصمم: «آنّا، أظن أن علينا أن نذهب. أظن أن عليك أن تحزمي بعض
حوائجك وحوائج إيفي. ثم علينا أن نذهب. تستطيعين أن تأتي إلى بيتي الآن. إلى أن... إلى أن نجد مخرَجاً من هذا كله».
أجفّف عيني، وأبتعد عنها: «لن أتركه يا ريتشل؟ لقد أقام علاقة غرامية، وهو... هذه ليست المرة الأولى، أليس كذلك؟»... أبدأ بالضحك
فتضحك إيفي أيضاً.
تتنهد ريتشل وتنهض واقفة: «تعرفين أن الأمر ليس مقتصراً على تلك العلاقة يا آنّا. أعرف أنك تدركين هذا».
أقول لها: «نحن لا نعرف شيئاً». أقول هذا بما يشبه الهمس.
تقول: «لقد صعَدَتْ إلى السيارة معه في تلك الليلة. رأيتها. لم أكن أتذكر هذا ـ ظننت في البداية أنك كنتِ أنت. لكني تذكرت بعد ذلك.
أتذكر الآن».
«لا». تضغط إيفي بيدها الصغيرة الدَّبِقة على فمي.
«علينا أن نخبر الشرطة يا آنّا»... تتقدم خطوة صوبي... «أرجوك! لا تستطيعين البقاء هنا معه».
إنني أرتجف... رغم سطوع الشمس. أحاول التفكير في آخر مرة أتت فيها ميغان إلى البيت، وفي التعبير الذي ظهر على وجهه عندما
قالت إنها لم تعد قادرة على العمل من أجلنا بعد ذلك. أحاول التذكّر: هل بدا مسروراً أم منزعجاً؟ ومن غير استدعاء، تظهر صورة
مختلفة في رأسي: واحدة من أولى مرات مجيئها إلى بيتنا لتعتني بإيفي. كان من المفترض أن أخرج لرؤية صديقاتي؛ لكني متعبة
كثيراً فبقيت في الأعلى لأنام. لا بد أن توم عاد إلى البيت بينما كنت نائمة هناك، لأنهما كانا معاً عندما هبطت. كانت مستندة إلى طاولة
المطبخ. وكان واقفاً قريباً منها، قريباً جداً منها. أقرب مما يجب. وكانت إيفي في كرسيّها المرتفع. كانت تبكي، وما كان أحد منهما ينظر
إليها.
أحس ببرد شديد. هل فهمت يومها أنه يريدها؟ كانت ميغان جميلة شقراء ـ كانت مثلي. إذًا... نعم.. أرجّح أنني أدركت أنه يريدها، مثلما
أعرف عندما أسير في شارع يسير فيه رجال متزوّجون مع زوجاتهم إلى جانبهم، ومع أطفالهم ممسكين بأيديهم... أعرف أنهم ينظرون
إليّ، وأعرف أنهم يريدونني. لعلّي كنت مدركة. لقد أرادها، وقد أخذها. لكن ليس القتل... لا يمكن أن يكون قد فعل ذلك.
ليس توم من يفعل ذلك. عاشق، وزوج مرّتين. أب أيضاً. أب جيّد. يقدّم من غير تذمّر.
قلت أذكّرها: «لقد أحببته». ثم أضفت: «وأنت لا تزالين تحبينه، أليس كذلك؟».
تهز رأسها، لكني لا أرى ما يقنعني.
«بل تحبينه. وأنت تعرفين... تعرفين أن هذا ليس أمراً مستحيلاً». أقف وأجرُّ إيفي معي، ثم أقترب منها: «لا يمكن أن يكون قد فعلها يا
ريتشل. تعرفين أنه لا يمكن أن يفعل هذا. لا تستطيعين أن تحبي رجلاً يمكن أن يفعل هذا، أليس كذلك؟».
تقول: «لكني أحببته. كلتانا أحبَّته». تجري دموع على خدَّيْها. تمسح دموعها. وفي أثناء ذلك يتغير تعبير وجهها... يفقد لونه. إنها لا تنظر
إليّ، بل تنظر من فوق كتفي. وعندما أستدير متابعةً نظرتها، أراه في نافذة المطبخ... يراقبنا.

أنت تقرأ
فتاة القطار
Adventureتحكي الرواية عن ريتشل ، سيدة مطلقة فقدت وظيفتها بعدها تدخل في حالة كآبة. تستقل القطار يومياً في ذهابها للندن وعندما يتوقف القطار في احدى المحطات تلمح زوجين في أحد المنازل فيتشكل لديها رابط خاص بهما. غير انه في احد الأيام تكتشف خيانة الزوج لزوجها من...