ميغان

9 1 0
                                        

الفصل التاسع عشر
( ميغان )
الخميس، 20 تموز/يوليو 2013


في المساء
إنني جالسة على الأريكة في غرفة المعيشة لديه، وفي يدي كأس من النبيذ. لا يزال البيت في حالة فوضى. أتساءل إن كان يعيش على
هذا النحو دائماً... مثل صبيٍّ مراهق! ثم أفكر في أن حياته قد تكون كذلك فعلاً لأنه فقد أسرته عندما كان مراهقاً. أشعر بالحزن عليه.
يعود من المطبخ ويجلس إلى جانبي... قريباً مني إلى حد مريح. لو استطعت لأتيت إلى هنا كل يوم، ساعة أو ساعتين فقط. سوف
أجلس هنا وأشرب النبيذ وأحس بيده تلامس يدي.
لكني لا أستطيع! ثمة غاية من هذا. وهو يريدني أن أصل إليها.
يقول لي: «طيب يا ميغان! هل تحسّين أنك مستعدة الآن؟... هل أنت مستعدة لإكمال ما حدثتني عنه من قبل؟».
أميل إلى الخلف قليلاً، في اتجاهه... أستند إلى جسده الدافئ. يسمح لي بذلك. أغمض عيني فلا تستغرق عودتي زمناً طويلاً... عودتي
إلى ذلك الحمام. هذا غريب لأني أمضيت وقتاً طويلاً في محاولة عدم التفكير في الأمر، عدم التفكير في تلك الأيام، وفي تلك الأشياء،
لكني قادرة الآن على إغماض عيني فأعود إلى ذلك كله... على الفور تقريباً... مثل الإغفاء... مثلما يكون الأمر في منتصف الحلم.
كانت ظلمة، وكان الجو بارداً. لست في الحمّام الآن. «لا أعرف ما حدث بالضبط. أذكر أنني استيقظت، وأذكر أنني أدركت أن شيئاً سيئاً
قد حدث. ثم كان أول ما عرفته بعد ذلك هو أن ماك موجود في البيت. إنه يناديني. أستطيع سماع صوته يناديني من الأسفل، يصيح
باسمي، لكني لم أستطع الحركة. كنت جالسة على أرض الحمّام؛ وكانت بين ذراعي. لا يزال المطر مستمراً، وهنالك فرقعة تصدر من
عوارض السقف. برد شديد. صعد ماك السلم وهو مستمر في مناداتي ـ وصل إلى الباب، ثم أشعل الضوء. أستطيع الإحساس بهذا الضوء
الآن، بالضوء الذي أحرق عينيّ... صار كل شيء أبيض لامعاً، مرعباً».
«أذكر أني صرخت طالبة منه إطفاء الضوء. لم أرد أن أرى، لم أرد النظر إليها وهي في تلك الحال. لست أدري، لست أدري ما حدث عند
ذلك. كان يصرخ عليّ؛ يزعق في وجهي. ناولته إياها، ثم جريت. جريت خارجة من البيت، تحت المطر... جريت حتى الشاطئ. لا أذكر
ما حدث بعد هذا. مرّ وقت طويل قبل أن يأتي بحثاً عني. كان المطر مستمراً. أظن أنني كنت بين الكثبان. فكرت أن أرمي نفسي في
الماء، لكني كنت مذعورة إلى حد منعني من ذلك. جاء يبحث عني أخيراً. وأخذني إلى البيت».
«دفنّاهــا فــي الصــباح. لففتــها بواحــدة مــن مــلاءات الســرير. حفــر مــاك القبــر. دفنّاهـا عنـد حافـة الأرض، بـالقرب مـن سـكة القطـار غـير
المستخدَمة. وضعنا حجارة فوق القبر لتكون علامة تشير إليه. لم نتكلم عن ذلك، ولم نتكلم عن أي شيء. لم ينظر أحدنا إلى الآخر.
خرج ماك تلك الليلة. قال إن عليه أن يقابل أحداً. ظننت أنه يمكن أن يكون ذاهباً إلى الشرطة. لم أعرف ما أفعل. انتظرت عودته فقط،
انتظرت مجيء أحد ما. لم يعد ماك بعد ذلك. لم يعد أبداً».
أجلس في غرفة المعيشة الدافئة في بيت كمال. جسده الدافئ إلى جانبي... وأنا أرتجف. أقول له: «لا أزال أحس بهذا! تلك الليلة، لا
أزال أستطيع الإحساس بها. إنها الشيء الذي يخيفني، الشيء الذي يبقيني مستيقظة: إحساسي بأنني وحيدة في ذلك البيت. كنت
مذعورة كثيراً... مذعورة إلى درجة منعتني من النوم. كنت أدور في تلك الغرف المظلمة فأسمعها تبكي وأشم رائحة جلدها. كنت أرى
أشياء. كنت أستيقظ في الليل واثقة من أن في البيت شخصاً آخر ـ أو شيئاً آخر ـ موجوداً معي... موجوداً في البيت معي. ظننت أنني
جننت. ظننت أنني مُوشكة على الموت. فكرت في أن أظل هناك، وفي أن أحداً سيأتي ذات يوم فيجدني. هكذا... لن أكون قد تركتها...
على الأقل». أنحني لآخذ منديلاً من العلبة على الطاولة لأمسح أنفي. تنزلق يد كمال على ظهري، إلى أسفله، وتظل هناك.
«وفي النهاية، لم تكن لديّ شجاعة تكفي للبقاء في البيت. أظن أنني انتظرت عشرة أيام، ثم لم يبق شيء آكله ... لا علبة فاصولياء، لا
شيء. حزمتُ حوائجي، ورحلت».
«هل رأيت ماك بعد ذلك؟».
«لا، أبداً! رأيته آخر مرة في تلك الليلة. لم يقبّلني، بل لم يودّعني وداعاً حقيقياً. قال فقط إن عليه أن يخرج قليلاً». أرفع كتفي... «هذا ما
جرى».
«هل حاولتِ الاتصال به؟».
أهزّ رأسي: «لا! كنت خائفة كثيراً، في البداية. لم أعرف ماذا يمكن أن يفعل إذا استطعت التواصل معه. ثم إنني لم أكن أعرف شيئاً عن
مكان وجوده ـ ولم يكن لديه هاتف محمول. فقدت اتصالي بالأشخاص الذين يعرفهم. كان أصحابه أشبه بالبدو الرحّل، من مختلف
الأشكال. هيبيون، ورحّالة متجوّلون. منذ أشهر قليلة، بعد حديثنا عنه، حاولت البحث عنه في غوغل. لكن لم أستطع العثور عليه. هذا
غريب...».
«ما هو؟».
«في الأيام الأولى، كنت أراه طيلة الوقت. في الشارع مثلاً؛ أو أرى رجلاً في البار فأكون واثقة من أنه هو... ويتسارع خفقان قلبي...
أخاف. كنت أسمع صوته بين الناس. لكن هذا توقف منذ زمن بعيد. والآن ـ أظن أنه ميت».
«ولماذا تظنين هذا؟»
«لست أدري. إنه، فقط... فقط أحسّ أنه ميت».
يعتدل كمال في جلسته ويزيح جسمه مبتعداً عني قليلاً، بلطف. يستدير فيواجهني.
«أظن أن هذا من فعل خيالك فقط، على الأرجح، يا ميغان. من الطبيعي أن تظنّي أنكِ ترين أشخاصاً شغلوا مساحة كبيرة من حياتك،
بعد مفارقتهم. في الأيام الأولى، كنت ألمح إخوتي هنا وهناك، طيلة الوقت. أما إحساسك بأنه ميت، فقد يكون مجرد نتيجة طبيعية
لغيابه عن حياتك كل هذا الوقت. أقصد أنه لم يعد يبدو حقيقياً بالنسبة لك، بمعنى من المعاني».
إنه يعود إلى وضعية المعالج النفسي الآن؛ لم نعد مجرَّد صديقَيْن جالسَيْن على الأريكة. أود أن أمدّ يدي إليه لأشده إليّ من جديد؛ لكني
لا أريد أن أتعدّى أي حدود. أفكر في المرة الأخيرة، عندما قبلته قبل أن أذهب ـ تلك النظرة على وجهه... التوق، والإحباط، والغضب.
«لا أدري إن كنت الآن، بعد أن تحدثنا عن هذا الأمر، وبعد أن أخبرتني بقصتك، إن كان مفيداً لك أن تحاولي التواصل مع ماك. يمكن أن
يوفّر هذا نهاية أو ختاماً لذلك الفصل في ماضيك». كنت أعرف أنه سيطرح هذا الاقتراح. أقول له: «لا أستطيع! لا أستطيع!»
«فكِّري في الأمر للحظة فقط».
«لا أستطيع! ماذا لو أنه لا يزال يكرهني؟ ماذا لو أدى ذلك إلى استرجاع الأمر كله؛ أو إذا جعله يذهب إلى الشرطة؟»... ماذا لو. لا
أستطيع قول هذا بصوت مسموع، لا أستطيع حتى أن أهمس به. ماذا لو أخبر سكوت بحقيقتي؟
يهزّ كمال رأسه: «لعله لا يكرهك أصلاً يا ميغان. لعله لم يكرهك أبداً. لعله خائف، هو أيضاً. لعله يشعر بالذنب. أفهم مما قلته لي إنه ليس
شخصاً يتصرف بمسؤولية. لقد أخذ فتاة صغيرة جداً، فتاة في غاية الهشاشة، ثم تركها وحدها عندما كانت في حاجة إلى مساندته.
ربما يدرك أنكما تتحملان مسؤولية مشتركة عما حدث. بل لعل هذا هو ما جعله يهرب».
لا أعرف إن كان يصدِّق هذا حقاً... أو أنه يحاول فقط أن يجعلني في حالة أفضل. لكني أعرف أن هذا غير صحيح. لا أستطيع لومه هو
وتبرئة نفسي. عليَّ أنا أن أتحمل هذه المسؤولية.
يقول كمال: «لا أريد الضغط عليك لتفعلي شيئاً لا تريدين فعله. أريد منك فقط أن تفكري في احتمال أن يكون تواصلك مع ماك مفيداً، لا
أقول هذا لأنني أرى أنك مدينة له بأي شيء. هل تدركين هذا؟ أظن أنه هو المدين لك. أفهم إحساسك بالذنب، أفهم هذا. لكنه هجرك،
تخلّى عنك. كنت وحيدة، خائفة، مذعورة، حزينة. تركك وحدك في ذلك البيت. ليس غريباً ألا تستطيعين النوم. فكرة النوم نفسها
تخيفك طبعاً: تخافين أن تغفي فيحدث لك شيء مخيف. والشخص الوحيد الذي كان عليه أن يساعدك تركك وحيدة».
في تلك اللحظات، عندما يقول لي كمال هذا الأشياء، لا أراها سيئة أبداً. عندما تنزلق الكلمات على لسانه، مغوية، دافئة، معسولة، أكاد
أستطيع تصديقها، تقريباً. بل أكاد أصدق أيضاً أن هناك سبيلاً لأن أترك هذه الأمور خلف ظهري، أن أدعها ترتاح، وأن أذهب إلى سكوت
وأعيش حياتي مثلما يفعل الناس الطبيعيون... أعيش من غير أن ألتفت لأنظر خلفي، ومن غير انتظار يائس لقدوم شيء أفضل. أهذا ما
يفعله الناس الطبيعيون؟».
يسألني: «هل ستفكرين في الأمر؟»... يلمس كفّي عندما يقول هذه الكلمات. ابتسم له ابتسامة مشرقة وأقول إنني سأفكر. بل ربما أعني
ذلك حقاً، لست أدري! يسير معي حتى الباب واضعاً ذراعه على كتفي. أود أن أستدير لأقبِّله ثانية، لكنني لا أفعل.
أسأله بدلاً من ذلك: «هل ستكون هذه آخر مرة أراك؟» فيومئ برأسه... «ألا نستطيع... ؟».
«لا يا ميغان! لا نستطيع. علينا أن نفعل ما هو صحيح».
أرفع رأسي مبتسمة له. أقول: «أنا لست شديدة البراعة في ذلك... لم أكن بارعة في فعل الأشياء الصحيحة طيلة حياتي».
«تستطيعين أن تكوني كذلك. سوف تكونين كذلك. عودي إلى البيت الآن. اذهبي إلى زوجك».
أقف على الرصيف أمام بيته زمناً طويلاً بعد أن يغلق الباب. أحس أنني صرت أخف، أكثر حرية... لكن، أكثر حزناً أيضاً. وعلى نحو
مفاجئ... لا أريد الآن إلا العودة إلى سكوت.
أستدير لأمضي صوب المحطة عندما يأتي رجل راكضٌ على الرصيف، واضعاً سماعات على أذنيه، خافضاً رأسه. إنه مندفع صوبي...
أتراجع إلى الخلف محاولة الابتعاد عن طريقه. أنزلق على حافة الرصيف وأقع. لا يعتذر الرجل مني؛ بل إنه لا يلتفت إلي. صدمتي
كبيرة... لا أستطيع الصراخ. أنهض على قدمَيَّ ثم أقف هناك مستندة إلى إحدى السيارات الواقفة، محاولة التقاط أنفاسي. كل ذلك
السلام الذي أحسسته في بيت كمال... تحطّم الآن فجأة.
لم أدرك إلا بعد وصولي إلى البيت أنني جرحت يدي خلال سقوطي. لا بد أنني مسحت فمي بها في لحظة ما. شفتاي ملطختان بالدم.

فتاة القطارحيث تعيش القصص. اكتشف الآن