الفصل الأول

3K 81 16
                                    

(الفصل الأول)

ترعرع عودُها بين جدران منزل كبير البُنيانِ، لكنه بارد في احتوائه، ديكوره رفيع الذوق، لكنه كباقي الأشياء التي ما إن تراها لعدد من المرات تصبح في نظرك عادية! تهتم لأمورها مربيةٌ لطيفة، تحاول أن تملأ جُل وقت نهارها الذي تقضيه مع الصغيرة بين اللعب وإطعامها ونظافتها وتعليمها بعض الدروس المدرسية إضافة لدروس حياتية ودينية بسيطة، تعوِّض ما لديها من حنان وحرمان أمومي مع تلك الصغيرة التي رحلت والدتُها عن العالم منذُ ولدتها، ووالدها المشغول طوال الوقت بشركته وعملائه والمال الداخل والخارج، ناهيك عن السفر والصفقات: حياة روتينية، تدور بين العمل والعمل ولا مكان للصغيرة بين اهتماماته، يظن أنه بإحضاره مربية حنون تهتم بصغيرته كأمها سيعوضها عن احتياجها له، يعتقد أنه بهذه الطريقة يهبها اهتمامًا بالغًا منه، وماذا يريد الأبناء من أهليهم سوى تجمع صغير دافئ يمرحون فيه ويضحكون، يخرجون ويتنزهون، يشعرون بالتآلف فيما بينهم وأنهم محور الكون لدى آبائهم، وليذهب كل شيء للجحيم مقابل بقاء الابن بين أحضان عائلته؟

استفاقت من شرودها على صوت الصغيرة تقول في غضب طفولي:
- خالتي منال، ده دورِك.

اعتذرتْ لها في لُطفٍ عن شرودها، كما اعتادت أن تعلمها دومًا الخصال الحميدة عن طريق التعامل بينهما، بدأت تتابع اللعب مع الصغيرة حتى تثاءبت، حملتها في حنان إلى فراشها، وآوت تغني لها أغنيتها المعتادة:
- حُلوتي ستنام.. بهدوءٍ وسلام
ستحلق وتطير.. فوق أجنحة الحمام
نحو سماءٍ جميلة.. نحو سماءٍ ونجوم
حلقي فوق الغيوم...

بقيتْ على حالها من التلحين بالكلمات حتى انتظمت أنفاس الصغيرة، ابتعدت بهدوء وهي تمشط خصلاتها البنية المموجة من نهايتها بأناملها، تتابع براءة ملامحها في حب حقيقي، هذه الطفلة تجذب الرائي لها دون أدنى مجهود، بشرتها السمراء تسر الناظرين، وأعينها الدائرية البنية تحبِّبُك في النظر لها طيلة الوقت، أنفها الدقيق للغاية يجعلك تبتسم على جمال صُنعِ الله، صغيرة لطيفة وهادئة لأبعد حد، تفتقر للاهتمام والرعاية الجيدة من أهل بيتها، الغريبة هي من تهتم بها، أمر غاية في السخرية!

انتبهتْ من أفكارها على صوت إطارات سيارة سيد المنزل بالخارج، غادرت الغرفة بعد أن حملت حقيبتها استعدادًا للمغادرة، تقابلت معه وزوجته عند الباب، ليسألها دون أن يقف:
- أنفال نامت؟

- آه يا بشمهندس، من شوية.
لم يأتِها ردٌ منه، فعادت بنظراتها للسيدة رزان التي وقفت أمامها وهي تعبث داخل حقيبتها، أخرجت بضع ورقات من المال، قدمتها لها وهي تضيف:
- ده أجر الشهر المتأخر، آسفة إني نسيته.

تحرجت منال من إبداء الاعتذار لها، فتلعثمت تجيبها أنه لا مشكلة، أخذت المال من يدها دون أن ترفع عينيها لها، لتتحرك رزان بعدها للداخل دون أي إضافة، بينما خرجت منال وهي في حالة من الحيرة لأمر تلك السيدة، أحيانًا تراها قاسية الملامح، وأخرى لينة هادئة، شخصيتها مركبة وغريبة و.. مريبة!
زفرت طاردة عنها التفكير والحيرة، أغلقت الباب خلفها قاصدة السائق الذي ينتظرها كعادة كل يوم في نفس الموعد، يُقلِلها إلى بيتها حيث عش الزوجية الدافئ الذي يحتويها وزوجها البسيط، عامل النظافة الذي يسكن قلبها فيغنيها عن زاد الدنيا.

بينما تتقلب الصغيرة على فراشها بين الحين والحين محتضنة دُميتها التي تمثل جسد "شلبي سلوفان" صاحب الكارتون الشهير "شركة المرعبين المحدودة"، يمر بها الوقت حتى تستيقظ مع بزوغ الصبح، تتحرك بحماس طاردة عنها أي ذرة كسل، تفتح شرفتها لتنير الغرفة وتهويها كما علمتها الخالة منال، ثم تغتسل وتقف على طرف سجادة الصلاة قائلة بنبرة طفولية:
- اللهم إني نويت صلاة الضحى.

تنهي قولها وهي ترفع كفيها مكبرة، ثم تبدأ في ترتيل سورة الفاتحة في نمنمة هادئة، غافلة عن تلك الواقفة عند عتبة غرفتها تتابع حركاتها البسيطة من شق الباب الصغير الذي تبرز منه عيناها، قبل أن تغلق الباب خلفها متنهدة وهي تتذكر قول زوجها بالأمس عن ارتياحه لمنال التي تهتم بابنته وتعوضها الكثير، كما أنها تحمل عنه عبئًا كبيرًا لا قدرة له عليه ولا على تحمل ذنبه. زفرت شهيقًا متوترًا وهي تسمع صوت اصطكاك إطارات السيارة بالخارج، رفعت معصمها المزين بساعتها الفضية اللامعة، والتي تتناسب مع ثيابها الرسمية التي تذهب بها للعمل، إنها تشير للتاسعة تمامًا، كما عهدت منال: منضبطة في مواعيدها دومًا.

خرجت حاملة حقيبتها في يدها، لم تلقِ أي كلمة على منال التي افتعلت ابتسامة هادئة وهي تنوي تقديم تحية الصباح، لكنها ابتلعتها حينما مرَّت السيدة رزان دون حتى أن تنظر تجاهها، نفت برأسها في قلة حيلة، واتخذت وجهتها لغرفة الصغيرة التي استقبلتها بتهليل ومرح وهي تخبرها تفصيليًا كيف أدت صلاة الضحى، ليعود اليوم لترتيبه الروتيني المعتاد، والعجيب أن أنفال لا تمل هذا الروتين، ما دامت الخالة منال بجانبها فكل شيء بخير ما يرام.

------*------*------

يعلن هاتفه عن اتصال يعلم صاحبته جيدًا، لكنه ليس بمزاج جيد لسماع ما ستلقيه على مسمعه وقلبه من توبيخ مصحوب ببعض شهقات البكاء، قرر عدم الرد حاليًا، ولربما هاتفها في المساء، لكنها لم تسمح له بذلك، عاودت الاتصال من جديد، فاضطر للرد، صاحت فيه:
- طبعًا مش عايز تكلمني.. ما هو أنا كلامي ما بقاش يعجبك فبقيت تاخد الأمور من قصيرها وما تردش عليا.
زفر بعض الهواء في إرهاق، ثم رد متسائلا عن صحتها، أجابت بنبرة حزينة:
- مش بخير يا مصطفى، ومش هبقى بخير طول ما أنت حالك كده.
- ماله حالي يا أمي بس!
- مش عاجبني يا مصطفى، هو أنا يعني كنت قلت لك تتجوز عشان مراتك تقعد جنبك في الشغل والبيت! عايزة عيل يخاوي البت، عيل يشيل اسمك واسم العيلة، ولا أنا مكتوب عليا الغلب طول عمري، مرة لما الست عائشة تخطف قلب ابني وتعزله عن بيته وسطينا، ومرة لما تموت وابني ينعزل أكتر عني! عيشة ولا ميتة عازلاك، وده تاعبني يا مصطفى.
قلبه يؤلمه لدرجة الصراخ، لكنه تماسك وهو يرد مستنكرًا:
- الخلفة دي بتاعة ربنا يا أمي، اتجوزت زي ما أنتِ عايزة، لكن مش عشان أنتِ عايزة خلفة هخلف، دي بقا اللي بتاعة ربنا مش بتاعتي.
- و أنت ناقصك إيه يعني، راجل وزي الفل أهو، ولا تكونش مراتك معيوبة ومش عايز تقول!
رفع رأسه للأعلى والضيق يعتمل كل خلاياه، رد محاولًا أن يبقى على هدوئه:
- معيوبة إيه بس يا أمي! ما أنتِ عارفة إنها كانت مخلفة قبل كده!
- اللاه.. أمال مالكم كده! تلت سنين أهو جواز لا عيل ولا تيل! مخبي عني إيه يا مصطفى!
صمت قليلًا كأنه الآن فقط انتبه للسنوات التي مرت بسرعة غير محسوبة! هل حقًا تزوج منذ ثلاث سنوات! وإلى الآن لم ينجب منها! ما حالتها الآن وهي تراه غير مكترث حتى لمعرفة سبب الخلل في علاقتهما! بالتأكيد هذا سبب عدم تغير سلوكها الجدي في العمل والبيت، لكن ليكون صادقًا فهذه الجدية تُريحه، وتحمل عنه عبء الالتزام بحقها عليه، لم يبخل عليها بما تمليه عليهما الطبيعة، ولم يحرمها قربه، لكن كل هذه الأشياء تتم كواجب على كليهما لا أكثر! وهذا ويا للعجب يريحه! بداخله امرأة أخرى، احتلت قلبه حية وأسرت روحه ميته، لا يريد خيانتها بالنظر لغيرها بعاطفة لا تخص سواها.

انتبه من أفكاره على صوت أمه تناديه من الجانب الآخر، رد ينهي الاتصال في ضيق حقيقي:
- عندي اجتماع يا أمي، بعدين نتكلم.
أنهى معها ومال إلى مكتبه في إرهاق دون أن ينتبه لتلك الواقفة عند الباب، وقد استمعت لمكالمته، عادت أدراجها إلى دورة المياه، أغلقت على نفسها وانخرطت في البكاء بنشيج وتعب، يبدو أن ما يؤرقها طيلة هذه السنوات سيصبح كابوسها بدءًا من الآن، وإن لم تجد حلًا فستكون النهاية وشيكة.

رتبت ثيابها، وأخرجت علبة مستحضرات التجميل خاصتها، رتبت مظهرها وخرجت متجهة حيث مكتب مصطفى، وبعد الكثير من الحديث عن العمل، تحدثت في توتر بدا جليًا في نبرتها وحركتها الغير مستقرة:
- عايزة.. عايزة نروح لدكتور.
- أنتِ تعبانة؟ فيه إيه!
قالها باهتمام، لو أن ما بينهما لا تعرفه هي جيدًا لظنت اهتمامه هذا حبًا، نفضت رأسها وهي تجيبه:
- لا أبدًا.. بس عايزة أتطمن وأعرف يعني.. ال..
دارت بعينيها في المكان، ففهم مصطفى ما تود قوله، أشار برأسه بعد تنهيدة منه وقد علم أنها سمعت مكالمته مع والدته:
- بعد الشغل نروح يا رزان، ولو إن الموضوع ده مش شاغلني وشايف إنه...
قاطعته وهي ترفع عينيها إليه وقد بدا الإرهاق عليهما:
- عشان أنفال.
شعر بالضيق من نفسه ومن كل شيء، لم يسمح لذاته بالتفكير في شيء آخر، أخذها وغادر الشركة إلى طبيب نسائي أشارت عليه به لمعرفتها به مسبقًا.. طلب ما طلب من تحاليل وفحوصات، وأخبرهما أن يأتيانه في وقت لاحق حالما تظهر نتائجهما.. وقد مر يومان على حالة سقطت فيها رزان دون إرادة منها، حالة لو فُسِّرت لجعلت العالم يبكي قهرًا على حالتها.. فهي المكلومة، وهي الضحية.. وهي الجانية أيضًا!

------*------*------

- نعم؟ أنت مجنون!
صرخ بها مصطفى والعجب والاستنكار يملآن تعابير وجهه، وقد كان على وشك الانفعال أكثر لولا تدخل رزان التي أمسكت بيده تهدئ من أمره، ثم تحدثت إلى الطبيب:
- مش معقول اللي حضرتك بتقوله ده يا دكتور، في غلط في التحاليل، مصطفى عنده بنت أصلا.

- يا فندم أنا في إيدي تحليلين، واحد لحضرتك بيوضح إن ما فيش أي مانع عند حضرتك للخلفة، والتحليل التاني بيؤكد وجود عقم عند البشمهندس مصطفى. أنا آسف لده لكن ما أقدرش أجامل في مهنتي، دي أمانة.
هاجت تعابير مصطفى وهو يضرب المكتب بقبضته في غلظة، وخرجت عن حنجرته نبرة مزمجرة توحي بقربه على الجنون، أخذ يصيح فيه:
- يا دكتور اعقل كلامك بتقول لك عندي بنت، بنتي عندها عشر سنين، ازاي عندي عُقم! هتيجي البنت من تلقيح هوائي مثلًا!

- الزم حدودك يا بشمهندس، ووطي صوتك من فضلك، حضرتك في عيادتي الشخصية، وليك كامل الحرية تروح لغيري، لكن ما تشككش في أمانتي لو سمحت.
هدر بها الطبيب وهو يقف قبالة مصطفى، لتقف رزان جاذبة يد مصطفى متجهة للخارج وهي تغمغم بكلمات الاعتذار إلى الطبيب، وصلا إلى السيارة ليركلها بكل غضب يحمله بداخله، يكاد يقتلع خصلاته من منابتها وكلمات الطبيب ترن داخل أذنه، حاولت رزان تهدئة ثورته، لكن نيران قلبه وروحه كانت أقوى، دفع يدها عنه وهو يستقل السيارة، جاورته فانطلق بها إلى المنزل دون أي كلمة، وقف وأمرها بالنزول، حاولت التحدث لكنه صرخ فيها أن تستجيب، فما كان منها إلا أن ترجلت سريعًا، وقبل أن يُغلق الباب جيدًا كان قد عاد أدراجه بسيارته وغادر.

ضربت يديها معًا وهي تتنهد في قلة حيلة، ثم ولجت للداخل غير مدركة شيئًا عن تلك البراكين الثائرة داخل صدره، وصل لشاطئ بحر الإسكندرية الهائج كصدره، ترك السيارة دون أن يفكر في إغلاقها، وقف أمام البحر كأنه يحاول إخماد نيران قلبه بزرقة المياه، لكن عقله لا يرحمه من تصوير أسوء وأكحل الذكريات لديه، أمعقول أن ما أغلق أذنه عن سماعه يكون الحقيقة؟ أم تراه كان أحمقًا مغفلًا للدرجة التي جعلته يركض خلف قلبه مغلقًا عقله عن كل صورة واضحة تبرز حقيقة كون حياته السابقة كلها ما كانت غير خدعة!

الذكريات تتسرب عن عقله دفعة واحدة، ونيران قلبه التي ما ثارت إلا لأجلها تثور من جديد بسببها، حية عذبته، وميتة آلمته، ألم تعرف في حياتها غير إيلامه؟ ألا يوجد بهذا العالم من يشعر بحجم الكون الداكن الساكن داخل تجاويف صدره، الأعباء أثقلته، والآلام أودت بزهو حياته لرماد ركام غير نافع، يُهمل من تزوجها لأجل الشكل الاجتماعي من أجل الحفاظ على نبضاته لمن رحلت، وفاءً لوعده لها ألا يحب سواها، يهمل ابنته لأنها كانت سببًا في موتها، موتها!! ابنته! لقد ثبُت منذ قليل فقط أنه لا يُنجب، هل نسي بهذه السرعة سبب اشتعال نيرانه الحالية؟! أما زال يفكر في القلب اللعين الذي وقَّع فرمانًا بحياته ومماته على اسم واحد فقط يغزو كل خلاياه "عائشة"، آه من عائشة ومن عذابها الذي لا ينضب!

كل الأفكار السوداء جابت عقله، لكن مضغته اللينة لها ما تزال تضرب صدره في قسوة، ترى أيملك حلًا آخر غير تصديق الطبيب؟ بلى. رد العقل الذي جعله يركض لطبيب آخر، وذات التحاليل طلبها الطبيب منه، عاد للشاطئ يؤانس غربته عن العالم، ينتظر اتصال الطبيب الذي أخبره أن الأمر سيتم في غضون يوم أو يومين على الأكثر، لا يهم، يوم أو يومين فترة كافية لجعله يُحسن الظن فيها حتى آخر لحظة.

رنين هاتفه المتواصل أخرجه من عزلته، وللمرة التي نسي عددها يجدها رزان، أغمض عينيه في تعب وهو يؤنب نفسه على ما يفعله بها، أجاب بعد تردد، فاندفعت بلوعة تسأل عنه وعن مكانه، وما إن أعلمها بمكان مكوثه حتى ذهبت إليه، كانت الساعة تشير للتاسعة مساءً حينها، أخبرها أنه ذهب لطبيب آخر، وقد كان يراقب تعابيرها الهادئة تمامًا، إنها مسالمة لأبعد حد، في الواقع أن من يفقد ما فقدته هي يحق له أن يُسلم راية الحياة كلها دون أن يهتم لشيء، ابتسم لها فدمعت أعينها، قربها إليه معتذرًا بعناق صامت، فما كان منها إلا الاستسلام الهادئ، أرادت لعدد من المرات أن تتحدث لكنها تتراجع في كل مرة.

أقام بها هذه الليلة في فندق قريب، لم يستطع العودة للمنزل ورؤية أنفال، لا يعرف ماذا يمكنه أن يفعل لو رآها، في حالته التائهة هذه، لا يضمن لذاته رد فعل. مر اليوم التالي فالتالي، الهاتف يعلن عن اتصال انتظره بكل أرق وإرهاق، أجاب بعد أن ابتلع ريقًا به غصة مؤلمة تخشى من أن يكون الدمار هو القادم، استقل سيارته إلى عيادة الطبيب الذي طلب رؤيته، استمع لكلماته الروتينية المملة بكل صبر، ليصفعه الطبيب بتأكيده على عقمه الطبيعي وعدم قدرته على الإنجاب، لقد فعلتها به عائشة!

------*------*------

تجوب الصغيرة حديقة المنزل الواسعة بحثًا عن مربيتها اللطيفة التي اختبأت منها وطالبتها بالبحث عنها، حتى إذا ما وجدتها ستسمح لها بنزول المسبح لنصف ساعة، أخذت أنفال تدور حول الشجر، وتنظر أسفل المقاعد، ثم تعود لتدور حول الشجر، لكنها توقفت عن البحث ما إن سمعت صوت سيارة والدها الذي عاد باكرًا على غير العادة، كطفلة مبتهجة لشيء كهذا ركضت تجاهه، لكن الوجه الذي رأته عليه جعلها تقف حيث هي دون حراك، كان يتحرك تجاهها بسرعة قوية، قدماه تدعس حشيش الأرضية بكل قسوة، تعابير وجهه لا تُفسر على الإطلاق، بينما زوجته تركض من خلفه متعثرة بسبب كعب حذائها، تحاول إيقافه عن فعل شيء ما لا تُدرِكه صغيرة مثلها، حتى هدير رزان التي تطالبه ألا يؤذي الصغيرة لم تستطع فهمه.

خرجت منال من مخبئها متعجبة للوضع الذي استطاعت أن تفهم بعض ملامحه، فركضت تجاه الطفلة كي تُبعدها عن بطش أبيها غير المعروف سببه أو نتائجه، وبالفعل انتشلت الصغيرة عن الأرض إلى أحضانها تزامنًا مع وصول مصطفى إليهما، أراد أن ينتزع الفتاة لكن تشبث منال بها حال أولًا دون مراده، ثم ما لبث أن أراد تكرير فعلته مع إطلاقه لسبة بذيئة حتى حالت رزان بينه وبينهما، نطقت في فزع آمرة منال أن تختفي بالصغيرة من هنا، وبالفعل ركضت منال إلى الداخل وأمارات الفزع تتملك من كل خلاياها، بينما الصغيرة ترتجف فوق ذراعها من الخوف، لم تعهد والدها على هذه الصورة الثائرة قبلًا، ومن دون إرادة منها انهالت عبراتها تشي بمدى الخوف الذي تلبسها، أخذت منال تحاول بثها الأمان دون جدوى، اقترحت عليها قراءة القصص دون استجابة من الطفلة، شأنها شأن من تلقى صفعة مفاجأة فتسببت بطنين في الأذن لدقائق حجب عنها السمع وأودى بعينيها لبحور التشوش، جذبتها منال لأحضانها وأخذت تبكي من فرط مشاعرها المتوجعة على مظهر الفتاة المرتعب، أخذت تردد أن حسبي الله في كل أب وأم لا يدركون حجم العطية التي وهبهم الله إياها، فيُفزِعون أبناءهم بهذا الشكل الموجع للقلب والروح، بقيت الفتاة على حالها بين أحضان مربيتها حتى انتظمت أنفاسها، سطحتها منال فوق الفراش، أحذت تمسد خصلاتها بحنان وهي تدعو الله أن يأتي بالعواقب سليمة.

دقائق مرت وهي تتأمل وجه الفتاة مع دعواتها الصامتة حتى سمعت صوت الباب يُفتح بهدوء، دخلت السيدة رزان لتقف منال باستقبالها وأعينها تفيض بالسؤال عن سبب حالة السيد مصطفى وصوته وألفاظه، زفرت رزان هواءً يخنقها، ثم توجهت بعينيها للصغيرة النائمة في ثبات، تحدثت دون أن ترفع عينيها عنها:
- مش عارفة أقول إيه يا منال.. بس...

استنشقت كمًا كبيرًا من الهواء في محاولة منها لتجميع كلماتها المناسبة، حولت نظراتها إلى منال قبل أن تطلق قنبلتها في وجهها:
- اكتشفنا إن أنفال مش بنت مصطفى.

شهقة فزع قبل أن تكون صدمة خرجت عن حنجرة منال التي كتمت فمها بيديها وهي تعود خطوة للخلف في ترنح، أخذت تنفي بعدم تصديق وهي تحاول التحدث، لكن أي كلمات قد تُقال في موقف كهذا؟ لمن تُنسب الصغيرة؟ وما مصيرها بعد ما اكتُشِف من أمرها؟ يا إلهِ! يقع بها الكبار ولا يحمل الذنب غير الصغار الذين لا ذنب لهم في هذه الدنيا غير أنهم أبناءً لمن لا يستحقون نعمة البنوة.

استفاقت من حالتها هذه على صوت رزان:
- مصطفى راكبه الجنون، اتصلت بنعيم صاحبه عشان ياخده بعيد عن البيت، خفت يعمل حاجة في البنت.

هربت دمعة من عينيها لحقتها بأنامل مرتجفة وهي تتابع في قلق:
- مش عارفة نعيم هيقدر يبعده عن هنا قد إيه، وما نضمنش هيعمل إيه مع البنت لما يرجع...

- هاخدها عندي.
نطقت بها منال دون تفكير، فما كان من رزان إلا الرفض القاطع وهي تبرر:
- أنتِ أول حد هييجي على باله لو دور على البنت يا منال.

ابتلعت منال ريقها ودمعة قهر فرت من عينيها، تابعت رزان مقترحة:
- أظن جدها أبو والدتها أحق بيها، هيحميها من جنون مصطفى، هي حفيدته على كل حال.

- بس...

- ما فيش حل تاني، دلوقتي أنتِ هتهتمي بيها في بيت جدها زي هنا بالظبط، حضري بس حاجتها لحد ما أتواصل معاه.
غادرت رزان تاركة منال في محيطات الحيرة التي ازدادت واحدة، الفتاة لا تنتمي لأبيها، ورزان مريبة في حديثها، بدت مرتعبة على الفتاة عندما قدمت مع زوجها ورأت الشر منه، ثم ظهرت شفقتها على حال الفتاة ما إن دخلت الغرفة، ما لبثت أن طُبع على تقاسيمها جدية المحاولة في إبعاد الفتاة عن مكان قد يتواجد فيه زوجها كي لا ينالها من خطأ أمها عقاب لا يُنسب لها، فجأة تغيرت نبرتها وملامحها للصرامة وهي تأمرها بما يجب عليها فعله، هل عليها أن تترك مشكلة الفتاة الآن وتتجه لمشكلة السيدة رزان!

أنهت ضجة أفكارها وهي ترتب أغراض الصغيرة في سرعة وعناية. لم يمر الكثير من الوقت حتى عادت السيدة رزان وهي تقول بأسى:
- فكرة مرواحها عند جدها بقت شبه مستحيلة.

- يعني إيه!! إيه اللي حصل؟!
أغمضت عينيها فبدا عليها الإرهاق جليًا، هذه السيدة تعاني ضغوطًا غير طبيعية، وربما تمر بأزمة نفسية مع ذاتها. تحدثت رزان أخيرًا بعدما لوحت فكرة أمام عقلها:
- شقتي القديمة.. هوديكم فيها، ولحد ما أوصل لحل مناسب هتفضلي معاها. الموضوع ده فيه منه مشكلة بالنسبة لك؟
- ااا.. ج... جوزي ااا...

قالتها منال بتقطع وتوتر، فما كان من رزان إلا أن قاطعتها بإشارة من يدها وهي تومئ برأسها علامة الفهم، ثم غمغمت ببعض الكلمات التي لم تفهمها منال، تحدثت وهي تقدم لها الهاتف:
- اتصلي بيه وعرفيه بأي سبب إنك هتباتي هنا النهار ده أو أي حاجة لحد ما نحل الموضوع ده.

نظرت منال للهاتف والاستنكار يطل من عينيها، ردت بشبح ابتسامة:
- أنا ما بكذبش لأي سبب، خاصة على جوزي.

طالت نظرة رزان لها، لن تنكر لمحة إعجاب بشخصية منال، لكن التهديد الذي يلوح في محيطها أكبر من أن تعترف بهذا الإعجاب، نفخت في ضيق، وقررت اللعب بالكارت الأخير، فقالت بهدوء تام:
- يبقى ما بقاش فيه غير إننا نستنى مصطفى ييجي ونشوف هيعمل إيه.

انتفض قلب منال داخلها، وسريعًا ما أخذت الهاتف من رزان وهي تضغط بعض الأرقام العشوائية، رفعت الهاتف تنتظر رد زوجها الذي لم يتأخر صوته، قالت:
- دي أنا يا محمد، منال، فيه مشكلة تخص أنفال بنت بشمهندس مصطفى، ينفع أبقى معاها الليلة من فضلك؟

- هتباتي بره البيت يا منال؟! ده أنتِ عمرك ما عملتيها عند أهلك!
- غصب عني والله، لو مش مضطرة ما كنتش كلمتك.

- طب هو خير؟ آجي لك طيب؟
كأنه ألقى لها طوق النجاة، ردت سريعًا:
- خليك معايا لحظة بعد إذنك.

التفتت إلى السيدة رزان، وقالت بعد أن أبعدت الهاتف قليلًا:
- ينفع ييجي لي على العنوان طيب؟ نبقى معاها احنا الاتنين.

أشارت رزان بيدها والملل قد تمكن منها، أومأت منال سريعًا ثم عاودت الرد على زوجها بعد أن سألت السيدة عن العنوان بالضبط، وقد أخبرها أنه سيكون عندها في الحال.

أغلقت معه، ثم نظرت للسيدة رزان وأومأت موافقة، لتبدأ من هنا حيوات جديدة تمامًا لهم جميعًا.

------*------*------

يتبع....

أنفالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن