(الفصل الثامن عشر)
اجتمعت الأسرة في جلسة هادئة غاية في السِّلم والهدوء، مواضيع مختلفة يتبادلون الأحاديث عنها، ورأي عمر دائمًا في الصواب، يفكر في كل كلمة قبل أن يلفظ بها، ويدقق بالتفاصيل البسيطة فيما يُقال، إنه مُصغٍ جيد جدًا، وكذلك متحدث لبِق رزين الكلمة والرأي. هكذا كانت تدقق أنفال في كل ما ينطقه وطريقة حديثه عن أي أمر يتم فتحه، مما أضفى لديها ثقة أكبر في اختيارها له، رجل كهذا لا يُعيبه شيء إلى الآن من وجهة نظرها إلا من بعض التجاوزات التي يمكن غض الطرف عنها حاليًا، فكتب الكتاب قريب، وهذه الحواجز جميعها ستُزال.
خرجت أَهِلَّة التي لم تكن تشاركهم جلستهم من البداية، لكن أمرًا غريبًا بدا عليها، كأنها أكثر جمالًا! ركزت أنفال في تفاصيل وجهها فوجدتها قد أبرزتها بعناية ودون أن تُبالغ فيما استخدمت من مستحضرات تجميلية، من يراها لا يظنها تجملت بشيء، لكن من يجالسها لأربع وعشرين ساعة بالتأكيد سيلاحظ، حاولت أنفال صرف النظر عن طريقة أَهِلَّة في التحدث مع عمر، وكأنها تلعب على وترٍ يجذب الرجال لمحاولة فتح حوارات مكثفة معها، كانت تنتقي عباراتها جيدًا، تختار الأمور التي ترد عليها والأمور التي تصمت فيها جاعلة الجالس أمامها يتوق لمعرفة رأيها فيما طُرِح، وهذا ما لاحظته على عُمر من نظراته، لا تعلم لماذا شعرت بالغيرة المفاجئة، لكنها سريعًا انتبهت للموقف، وكيف أن هذه أختها وهذا خطيبها، ولا شيء قد يدعو للغيرة فيما يحدث الآن، فلا هي تتجاوز في حديثها بالمزاح مثلًا ولا هو يوجه حديثه فقط لها، وإن كانت أَهِلَّة قد اهتمت بإبراز بعض جمالها فهذا المعهود عنها، فهي تحب المستحضرات التجميلية، وتهتم كثيرًا ببشرتها وأنوثتها. وإن أرادت هي كأنفال أن تملأ عين خطيبها والذي سيصبح لها زوجًا خلال فترة وجيزة فما عليها إلا أن تشغل قلبه بها عن طريق الرزانة والحكمة في التصرفات وإبراز أنوثتها التي عاشت لسنوات عمرها تُخفيها لمن سيستحقها فقط، وقد اختارت بنفسها عمرًا ليكون المرء الوحيد القادر على الشعور بما لديها من رقة أنثوية طبيعية، وعقل نيِّر بالعلم، وقلب مليء بالرضا بما قسمه الله له وكتبه عليه، لا بُد وأن تجعله يثق كونه يملأ قلبها وعينها وحياتها، وأنه وحده مالك مفاتيحه؛ فالرجل لا أحب على قلبه من أن يشعر كون أنثاه دومًا بحاجته، وأنها دونه ضعيفة وبه قوية، فهنا يكون لُب الرجولة الحقة لديهم.
انتبهت مما وقعت فيه على صوت عمر يسأل عما أصابها وسبب شرودها، نفت مبتسمة وهي تقول في هدوء تام:
- أنا تمام، بس جت في بالي فكرة عمل جديد فبفكر فيها.
ها هو الخطأ الأول الذي سقطت فيه، أما وجدت ردًا غير أن تُشعِره باللامبالاة لما يُدار حولها من حديث وجب عليها المشاركة فيه لكون الجالس أمامها الآن لا يخصه من كل الجالسين إلاها؟! انتبهت لتغير تعابير عمر الذي لم يأخذ دقيقتين بعد هذا الحدث إلا واستأذن مغادرًا، خرجت معه إلى البوابة الكبيرة، وقبل أن يغادرها قالت تحاول تبرير ما حدث منها:
- أنا ما قصدتش أسرح وانتوا بتتكلموا بجد، بس كل ما في الأمر إني...
- ما فيش داعي للتبرير يا أنفال، ده أمر عادي بيحصل مع أي حد.
ابتسمت لما قاله، ما دام متفهمًا فهذا أمر مريح للغاية، بادلها بسمتها ثم غادر دون أن تدرك هي أن ما لا يعلق عليه بالسوء لا يعني إلا أنه يقع بنفس الأمر، وكما تخطى هو فعلتها فعليها أن تتخطى فعلته وإن تكررت...
ولجت بيتها وراحتها تجاهه تزداد، يملك من الصفات الحسنة ما يجعلها تُغمض عينها عن أي مساوئ له، فليس من أبناء آدم كاملين، بل إن كلهم خطاؤون، وما دامت قادرة على التعايش مع مساوئه التي لم تكتشفها بعد فكل الأمور ستكون بخير، وستسير الحياة على نهج من الهدوء قويم.
------*------*------
جلس شاردًا في البعيد، عقله يُعيد عليه ما سمعه من زوجة عمه، وقلبه يطيح به في بحور الاشتياق واللوعة على أمه، تساؤلاته كلها تدور حول مكانها الآن، وحالتها، وإن كانت ما زالت تذكره، وكيف سيبحث عنها وأين، كلها أسئلة أتعبته هذه الدقائق. قطع عليه كل هذا جلوس يزيد أمامه ينهج بتعب كأنه أتى من بيته ركضًا، سأل بقلق عما به آدم، فأجاب الأخير بكل هدوء، لكنه هدوء مريب:
- لو حد أذاك أذية ما تتنسيش، تعمل معاه إيه؟
تعجب يزيد السؤال، وتعجب أكثر لحالة آدم الذي يبدو هادئًا، لكن من يجلس قربه يستشعر هالة ثورة بركانية داخله، أجاب:
- على حسب نوع الأذية، فيه أذى أنا كيزيد أعفو عنه وأكتفي بهجران الشخص ده وإني أرجعه مكانه، وفيه أذى صعب السماح فيه، وصعب تبرد ناري منه إلا لو شفت الزمن بييجي عليهم زي ما عملوا معايا، مش شماتة.. بس ثقة في تدابير ربنا.
كانت إجابته مثالية، مثالية للغاية، لكنها غير متفقة مع ميول الانتقام التي نشبت بروح آدم ولا مجال للتراجع أو التهاون فيها، تحدث يزيد من جديد يحاول استشفاف ما قد حدث مع آدم الذي تبدل حاله لشخص غير الذي يعرفه، هالة الغموض حوله ازدادت، وقد كان يتقبل هذا الغموض في البداية ويتركه وشأن راحته، فإن كانت راحته في البوح باح، وإن لم تكن فليكن بخير، وهذا كل ما كان يهمه كصاحب له، أما الآن فغموضه قد وصل ذروة الغضب، والغضب أعمى، يدفع صاحبه نحو هاوية سحيقة، يُطيح بإنسانيته، ويحرق مودته، ويُضيع وقاره فارضًا هيبة الخوف منه:
- حصل حاجة يا آدم؟ مالك يا صاحبي؟!
- فيه مشكلة لو قضيت الليلتين دول عندك؟ محتاج أبعد عن البيت شوية.
قالها آدم يردم على إجابة سؤال يزيد الذي احترم رغبة آدم وهو يرد بترحيب صادق:
- عيب عليك يا صاحبي، أصلا البيت بيتنا سوا مش بيتي لوحدي، ولا نسيت.
ابتسم آدم ابتسامة باهتة اختفت بنفس سرعة ظهورها، أشار للنادل طالبًا قهوتهما، ثم تحركا بعدها مباشرة لبيت يزيد الذي اعتراه قلق كبير على صاحبه، الأمر غير متعلق بقرار جده الذي فرض عليه الزواج من ابنة عمه، فمهما كان هو رجل، ويمكنه ببساطة أن يُثبت عدم كفاءة علاقته بابنة عمه ويرحل عنها، أم تراه يخشى على مشاعرها التي تكنها له؟! أمعقول أن هذا ما يُقيِّد آدم؟! ولمَ لا! إنه مرهف الحس وإن لم يُبدِ ذلك.
قُضيت الليلتان اللتان تسبقان يوم حفل الخطبة، هذا الصباح مفعم بالحركة داخل البيت الذي يضم العائلة، ومفعم بالنوم والخمول داخل بيت يضم صاحبين، أحدهما ينام أكثر مما يستيقظ، والآخر يذهب ويعود ليجد صاحبه ما زال نائمًا، وكل الحديث الذي دار بينهما خلال هذين اليومين يخص تطورات أمر عيادة يزيد النفسية التي هي على وشك الإنجاز.
أيقظ يزيد صاحبه وهو يصيح فيه بعدم رضا:
- قوم يا بني أنت، عندك ليلة النهار دا، قوم يا عم ورانا حاجات كتير.
تململ آدم في فراشه، ليس كسلًا، وإنما ترقبًا ولذة لما سيحدث هذه الليلة، يشعر أنه سعيد جدا اليوم، سعادته تخطت حدود العقل، فقد قفز عن الفراش إلى ظهر يزيد وهو يصيح مازحًا:
- فيه حد يصحى حد كده؟ ما حدش علمك الرقة؟!
ارتفع حاجبي يزيد وهو يدفع آدم عن ظهره صائحًا في غيظ:
- رقة! ليه حد قال لك إني مراتك!
ضحك آدم وهو يثبت قدميه على الأرض، رفع ذراعيه لخلف رأسه ناظرًا للسقف في شغف تعجب له يزيد، اقترب من آدم واضعًا يده على جبينه يقيس درجة حرارته، ثم سأل رافعًا إحدى حاجبيه:
- أنت كويس؟
كان سؤاله جديًا رغم أن طريقته مازحة، دفع آدم يده وهو يرد:
- ومش هكون كويس ليه؟ فين الأكل، أنا جعاااان.
قالها وهو يضغط وجنتي يزيد الذي رمش سريعًا وهو يبعد يده عن وجهه، ثم استدار للمطبخ وهو يقول مغمغمًا:
- ربنا يكملك بعقلك يا بني.
ضحك آدم من خلفه قبل أن يسحب منشفة نظيفة ويتجه لدورة المياه، نظر لوجهه الذي نمت لحيته قليلًا، وشاربه كذلك، ما الضير لو حاول تغيير شكله قليلًا بحلاقة جديدة؟ حسنًا وليذهب لشراء عطر جديد غير الذي اعتاده، وكذلك سيرتدي قميصًا من لون فاتح على عكس عادة قمصانه الداكنة في لونها، سيرتدي حذاءً رياضيًا أيضًا من لون فاتح بدلًا من الأحذية الرسمية التي اعتادها مع الجامعة، قصة شعره! لم يجرب ولا مرة أن يصفف خصلاته بطريقة تساير الموضة!
ابتسم لانعكاسه في المرآة، ودبت فيه الحياة بصورة غريبة، كأنه ليس هو، كأنه كان ضائعًا ووجد ذاته أخيرًا، لن يكون غير الذي يريد أن يكونه، وهذا قراره الأخير.
خرج من دورة المياه وهو يصيح في يزيد الذي ما زال يجهز الطعام بالمطبخ:
- أنا طالع يا اسطا شوية وجاي.
قال جملته وغادر دون انتظار رد يزيد الذي سأل عن وجهته، لكن لم يأتِه رد، نفى بقلة حيلة من وضع آدم الغريب، لكن سريعًا ما انتقل تفكيره لما سيفعله هذه الليلة، آدم بالتأكيد لن يكون بهذا الشغف في ليلة خطبته ممن لا يريدها زوجة! لعله وجد عقله! لعله كذلك.
بينما وضع آدم يديه في جيبه وسار يُصدر صوت صفير من بين شفتيه، مر على جار يزيد، الذي يليه مباشرة، ابتسم وهو يلقي عليه السلام، فتبسم له الحاج محمود وهو يدعوه للجلوس معه، أكد آدم أنه سيقضي أمرًا مهمًا ثم وفي طريق عودته سينال شرف الجلوس والتعرف إليه.. وبالفعل غادر آدم، لكن قبل أن يصل للبيت التالي لبيت الحاج محمود لمحها.. فتاة تبدو في مقتبل العمر، ترتدي من الثياب ما لا يصف ولا يشف، حجابها لخصرها ويتعداه، تقف مع فتاة ربما تماثلها العمر، لكنها ليست على ذات القدر من الالتزام بالثياب، تلك الملتزمة المغطاة من رأسها لأخمص أقدامها هي أمنية كل رجل، كل رجل بحق وليس شبه رجل يبيع جمال نسوته بلا ثمن بتعريتهم وتزيينهم للرائين، لم ينتبه لكونه قد وقف ناظرًا تجاهها فترة من الزمن، لكنه استعاد وعيه وعقله سريعًا حينما رآها تتحرك مع الفتاة الأخرى، ثم خفض بصره وتهيأ قاصدًا طريقه مرة أخرى في شرود، جلب ما أراد من ثياب وأدوات حلاقة وعطر، ثم عاد في نيته بيت صاحبه، لكنه رأى الحاج محمود ما يزال جالسًا عند عتبة بيته، فتذكر وعده له بمجالسته، ذهب إليه ملقيًا السلام، فاستقبله الحاج بحفاوة وود كأنه على معرفة به منذ زمن، سكب له بعض القهوة، وبدآ يتعرفان لبعضهما، قال الحاج محمود مبتسمًا بنية داخل قلبه خيرًا:
- الواحد بيحس بالونس كده لما يكون له جيران كويسين، هنا في المنطقة ما ليش غير عمك علاء، صاحب البيت اللي قبلي على طول، ده راجل في حاله وعلى قد حاله، عنده من البنات تلاتة، واحدة منهم خطوبتها الأسبوع الجاي، ودي زي بنتي تمام، هنعمل لها ليلة هنا بين البيتين بأمر الله، وإن شاء الله تشرفنا يا بني.
جال بعقل آدم أن ربما من رآها اليوم هي نفسها التي على وشك أن ترتبط برجل سيكون بيتها، ويا لحظه ونصيبه من تكون هي نصيبه! يقول ذلك وكأنه يعرفها حق المعرفة، حكم سطحي من مجرد مظهر رآها عليه، وإن صدق الحدس مرة، فلن يصدق كل مرة.
انتبه من شروده على صوت هاتفه، إنه يزيد، أغلق دون رد عليه، ثم استأذن الجار أن يذهب الآن لكون صاحبه بانتظاره، وودع الجار على وعد بأن يأتيه في وقت لاحق.
عاد للبيت، وضع أغراضه على أول مقعد قابله، ثم صاح باسم يزيد وهو يضيف كونه جائع للغاية، خرج يزيد يقول بغضب مفتعل:
- ما لسه بدري يا بيه، في حد يطلع كده!
- اللاه! مش أنا لما قلت لك اتعلم الرقة قلت لي إنك مش مراتي! جاي دلوقتي عايزني أديك خبر بخطواتي ليه ها! هو أنت مراتي!
قالها آدم مازحًا بغرض إغاظة يزيد الذي ابتسم استخفافًا بقول آدم وهو يضع الأطباق فوق طاولة صغيرة دون الاهتمام له، ضحك آدم وهو يتقدم منه ممسكًا بعنقه أسفل ذراعه مضيفًا:
- خلاص يا حبيبتي خلاص ما تزعليش، بعد كده هقول لك على كل مشاويري.
دفعه يزيد وهو يضحك على لهجة آدم وطريقته، هذا الشاب فقد عقله بالفعل، لم يكن يوما على هذه الحال! لم يبدِ تعجبه، اكتفى فقط بمشاركة آدم لحظات الجنون في القول والرد دون التطرق لأي مما فكر آدم في إخفائه عنه.
ولج آدم لدورة المياه، جذب أدوات الحلاقة وقام بتصفية وجهه إلا من شاربه ولحية الذقن وما يصل بينهما من جانبي الشفاه، أتى على خصلات شعره وقام بتخفيفها من الجانبين، ثم أخذ حمامه العطري وخرج، نظر له يزيد بأعين متسعة، أخرج صفيرًا من بين شفتيه ينم عن إعجاب بالمظهر الجديد الذي بدا عليه آدم، بينما غمز له الأخير ودخل للغرفة، وضع العطر الجديد، وارتدى ما اختار من ثياب، وتأنق كليًا حتى وقف أمام المرآة يطالع هيأته.. هذا ليس بآدم، بل هو شاب قرر عيش مرحلته، وسيسعى دومًا ليكون كما يريد أن يكون.
ما بال هذه النظرة في عينيه! لا يمكن أبدا الحكم عليها بنظرة سعادة، ولا يمكن أيضًا رؤيتها كنظرة حزينة، هذه نظرة التيه.. أجل.. لا تفسير آخر لحالة آدم العجيبة اليوم.. هكذا كان تفكير يزيد الذي يقف على باب الغرفة يطالع صاحبه، تحدث بنبرة مازحة:
- والله اللي يشوفك يقول عريس يا أخي.
ضحك آدم وهو يدور حول نفسه، ثم قال:
- اجهز يلا بقا، هنطلع عشان نجيب ورد للعروسة، التفاصيل.
قال كلمته الأخيرة وهو يغمز بعينه ليزيد يُذكره أنه صاحب الفضل في تنبيهه لأمر التفاصيل التي تهم الفتيات، ابتسم يزيد ابتسامة باهتة بعض الشيء، لكنه أخفاها سريعًا وهو يتحرك لارتداء ثيابه والمغادرة مع صاحبه الذي ستُتَوَّج له اليوم فتاة لم يختر قلبه إلاها، لكنه أقسم على نفسه ألا يفكر فيها وألا يطرأ اسمها على عقله أو قلبه احترامًا لعقدة تسمى الصداقة تجمعه بصاحب لن تهديه الحياة إياه كل يوم.
------*------*------يتبع...
أنت تقرأ
أنفال
Beletrieمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...