(الفصل الخامس)
دخل مصطفى لغرفة المكتب، ألقى ما بيده من مفاتيح بإهمال، وألقى بجسده فوق المقعد، دقيقة وأختها ثم اعتدل جاذبًا مذكراته، بعض من البوح الجديد يُلِح عليه كي يُفضيه، فلربما أمسك بطرف خيط لفعلة عائشة، لربما دعاه القلم للنيل ممن خانته معه، لكن كيف سينتقم من شخص لا يعرف له أصلًا.. بدأ الكتابة:
"أصبح الإعياء يُلازم عائشة، تنام لوقت طويل جدًا، والشكوى من آلام عظامها ومعدتها لا تكف، والطبيب لا يقول إلا أن الأمر طبيعي نتيجة الحمل، قررت أن أترك العمل قليلًا لأهتم بها، فما وجدت إلا أمي فوق رأسي تخبرني أنها ستحل محلي، وثقت بها، سلمتها عائشة وما في بطنها وبدأت أتابع العمل دون أن أغفل عن الاطمئنان عليها بين الحين والحين، حتى أتت تلك الليلة المشئومة: عدت من العمل تتسابق قدماي على المسير إليها، وقبل أن تطأ قدمي الغرفة تقابلت مع أمي التي كانت ملامحها لا تُفسَّر، سألت إن كانت عائشة بخير، فأصدرت صوتًا من بين شفتيها ينم عن السخط، ثم غمغمت ببعض الحديث الذي لم أسمعه، سألت عن سبب ما هي فيه فبدأت تتهرب من الرد، وأخيرًا تركتني حيث أنا وذهبت كأنها تهرب من شيء ما، طالني القلق على عائشة، ولجت إليها فرأيتها نائمة وأنفاسها منتظمة، قررت النوم بدوري، لكن أمر أمي لم يسمح لي بذلك، شعرت أني مقصر في حقها، فهي ببيتي وترعى زوجتي، ومن دون كل ذلك لها حق عليّ ليس بيسير.
نزلت درجات السلم إلى الغرفة التي تسكنها أمي، وجدت بابها موصدًا إلا من فتحة بسيطة، كنت على وشك أن أطرق الباب، لكن توقفت يدي وأنا أسمع صوتها تقول:
- أقول له ازاي بس يا بني! أنت مش شايفه متعلق بيها ازاي!
تأكدت أنها تتحدث في الهاتف لما صمتت لدقيقة، ثم عاودت الرد:
- أنا مش هسكت، هي فاكرة إنها لما تخطفه بسهولة كده أنا هسكت؟ دي حفرت قبرها بإيدها.
عمن تتحدث أمي! لم أكن أعلم حينها، لكن القلق والشك أخذا مبلغهما مني، أنهت المكالمة بقولها:
- شوف حل يا بني، أنت الوحيد اللي ممكن يسمع له.
وبهذا انتهى الحديث بينها وبين ذاك المجهول الذي اكتشفت في اليوم التالي أنه نعيم! لم أواجه أمي بشيء هذه الليلة، ذهبت أتخبط في حيرتي وأسئلتي، حتى حل الصبح واستيقظت على يد عائشة تمسد جبهتي، ابتسمت لها ناسيًا كل متاعب الليلة السابقة، أخذت قبلة من بين عينيها وأنا أسأل عن حالها، طمأنت قلبي، ثم تجهزنا ونزلنا من أجل تناول الطعام بصحبة أمي التي كانت تناظر عائشة بنظرات لم أستطع فهمها في ذلك الوقت، ثم ويا للعجب وجدتهم يخبروني أن نعيم بانتظاري في غرفة المكتب، تعجبت من مجيئه المبكر، وغادرت حيث ينتظرني تاركًا أمي وعائشة دون الالتفات؛ فسُمُّ إحداهن قد يطال الأخرى فيؤذيني أنا.
ولجت حيث ينتظرني نعيم، وقد راعني شكله المرهق ونظرته المتوترة، سألت دون أي مقدمات عن سبب حالته، رد بما جعل أوردتي تنتفخ بالدماء:
- ابن عمها اللي قلت لك قبل كده عنه، كان هنا في بيتك يا مصطفى. والدتك شافتهم بعينيها.. بس...
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أنهال عليه ضربًا وأنا أصيح فيه:
- اخرس، دي أشرف منك، أنت فاكر إنكم هتغفلوني؟ فاكرني مش واخد بالي من بداية جوازي بيها وانتوا بتحاولوا ازاي تبعدوني عنها!
صممت آذاني عن أي حقيقة، اخترت أن أخسر صديقي الأقرب والأحد للمرة الثانية على ألا أصدق عن حبيبة فؤادي كلمة تُعيبها، فما بالهم إن تحدثوا في شرفها! غادر نعيم دون أن يرد لي ضربي له، دون أي حديث، فقط نظرة! نظرة شلت كل أركاني، لكن لا.. لن أسقط في فخه وأمي، لقد سمعتها بالأمس، لم يكن إلا مخطط بينهما كي ينتزعوها ومولودها مني، سحقًا.. لماذا لا يأتي خنجر الغدر إلا من الأقربين! هكذا تساءل قلبي الدامي من فعلتهم.
دخلت أمي غرفة المكتب، رمقتني بنظرة طويلة تركت شرخًا بقلبي وروحي، لم أستطع النطق بحرف لها، لن أنسى في النهاية أنها أمي.
خرجت دون أي حديث، عادت لبيتها، وهنا تأكدت من شكي فيهما، مجيء أمي لم يكن لتقديم خدمة لعائشة، بل لتدبر لها مكيدة، العجيب أن الأداة التي استخدمتها أمي لطعني لم تكن إلا صديقي! كل هذا كان تفكيري حينها...
بدأت أُساير الحياة، أراقب عائشة وبطنها تنتفخ، أراقبها ووزنها بين ازدياد ونقصان، أراقبها وهي تأكل أكلات غريبة في أوقات أغرب، أراقبها وهي تصرخ بشغف كلما ضرب المولود رحمها، أراقبها وهي تجعلني أسقط في حبها أكثر وأكثر.. في تلك الفترة زارنا بعض من أبناء عمومتها، كانت معاملتها معهم كعادة كل مرة يجتمعون فيها، لا أعين تتلصص، ولا حديثًا جانبيًا يُقام، ولا نظرات من عائشة زائغة، بل كانت عائشة التي عرفتها وأحببتها، كانت هذه المرة الأولى التي أقرر مراقبتها فيها، وبكل صدق فقد ندمت، شعرت أن شيطان أمي ونعيم حركني لأهدم بيتي بالشك الذي سعيا ليطالني تجاه من اتخذتها لنفسي حياة، وبعد هذا اليوم قررت أن أودع كل لسان ينطق في حقها بما لا يُعجبني... حتى أتى يوم ولادتها، هذا اليوم الذي أتت فيه أنفال لتُبهج روحي، ثم ما لبست أن انتشلت عائشة روحي بفقدانها الروح، من حينها وأنا أشعر بخلو حياتي من كل شيء قد يكون ذا معنى، حتى الصغيرة التي تركتها لي أمانة، لم أرعها كما يجب، بل وكَّلتُ حملها على من اختبرتها بنفسي وتأكدت من صلاحها كأم قبل أن تكون مجرد مربية.. ودارت بي حياة العمل، فأصبح هو وحده شاغل حياتي.
أظن أن القدر لا يأتي بأحداثه هباءً! فإهمالي لأنفال طيلة سنوات عمرها العشر لم يكن بمحض صدفة، بل بترتيب القدر الذي كشف لي أنها ليست من صُلبي، ليست منتمية لي، لربما لو تقربت منها لتعلقت بها، وإن اكتشفت الحقيقة كانت لتكون حالتي أسوء، أن أعاني خيانة عائشة أهون من أن أعاني خيانتها من جهة وكره فتاة لا ذنب لها إلا أنها ابنة حبيبتي من جهة أخرى..
ست سنوات وأنفال لا يصدح صوتها في المنزل يا عائشة، أتدرين السبب الآن؟ أتشعرين بما جعلتيني أُقاسيه وحدي! ليتك هنا لأصفعك بظلام حياتي من بعد ما صُفِعتُ بقول الطبيب أني عقيم..."
تمكن التعب منه، لم يستطع كتابة المزيد، ترك القلم، وقرر النوم لإشعار آخر. ولج من باب غرفته، لكنه تيبس حيث هو حينما رآها أمامه، تقف أمام المرآة بفستان قصير، تضع بعض اللمسات الأخيرة من مستحضرات التجميل، رائحة الغرفة كانت على غير العادة منعشة، تجعل مِن شخص كاره للحياة مُقبِلًا عليها بشغف، بقيت أعينه معلقة عليها، بينما اعتدلت هي في توتر وارتباك، حاولت الثبات حتى اقتربت منه، ابتسمت في وجهه ابتسامة جعلته يشعر أنه في حلم.. حلم جميل! عائشة أمامه الآن، تُناديه كي يشاركها الحياة، تبتسم له بأعينها الناعسة فتجعله يُدمن النظر إليهما.
سحبته رزان من يده وهي تتحدث بنبرة هادئة مغايرة تمامًا لتلك النبرة العملية:
- جهزت لك الحمام والعشا.
أومأ وأعينه تزوغ عليها، يراها بحنين قلبه عائشة، وبصحوة عقله رزان، ابتلع ريقًا جافًا، ثم ولج لدورة المياه، وقف أمام المرآة يطالع وجهه، شعر أنه انقسم لشخصين، واحد يدعوه أن يدفن الماضي مع أصحابه ويبدأ بداية جديدة مع امرأة يبدو أنها يئست الحياة فقررت أن تبارزها، والآخر يُذكره بوعد قلبه لعائشة، فجأة احمرت عيناه، وشاط عقله، وتأججت نيران قلبه، خلع عنه ثيابه، دثَّر جسده بالماء عله يُنهي تلك الضجة، يفرك جلده كأنه يعاقب ذاته على ما اقترف قلبه، خرج بعد أن أعياه عقله الصاخب، وجدها قِبالته، وقد ارتدت مئزرًا طويلًا أخفى عن عينيه ما لم يُطبع في ذاكرته من هيأتها، جلسا يتناولان الطعام في صمت، قطعته رزان مقترحة:
- إيه رأيك نسافر نغير جو الشغل يومين يا مصطفى؟
توقف عن مضغ الطعام، رفع عينيه لها مضيقًا بين حاجبيه، العجب يملأ وجهه، لكنه غير قادر على النطق، تابعت هي:
- الروتين قاتل كل اللمعان اللي في حياتنا، احنا مرينا بظروف صعبة، لكن.. لكن مش هنفضل فيها العمر كله، خلينا نحاول نشد بعض لشط هادي يا مصطفى.
قالتها وهي تُمسك بيده، رفع نظراته إليها، حديث الطبيب يضرب عقله "حضرتك عندك عقم"، صوت نعيم يقتحم سمعه وهو يزأر فيه "إيه رأيك لو تحط نار قلبك منها على جنب دلوقتي وتفكر شوية في كرامتك ورجولتك اللي اتمرمغوا في التراب بسبب الزفت قلبك اللي ما سمعليش زمان؟"، صوت لعب أنفال بالبيت يُطيح بكل هؤلاء، صوت رزان من بينهم يصفع عقله "خلينا نبدأ من جديد، بس المرة دي لنفسنا"، صوت الطبيب يتدخل "حضرتك عندك عقم"، صوت نعيم ينصح "شوف حياتك واهتم بالست اللي بتنطفي يوم عن يوم جنبك دي."، صوت رزان يرجوه "كفاية اللي ضاع من عمرنا"، صوت الطبيب يزلزله "حضرتك عندك عقم"... انتفض من محله، ولم يدفع ثمن هذا الضجيج والصخب بعقله إلا تلك المسكينة التي غرقت في نوم عميق بعد وقت لم يكُن بالهيِّن أبدًا عليها.
نظر إليها وإلى ما آلت إليه حالتها، شعر بشفقة تجاهها، تلك المرأة لا ذنب لها في أي مما يحدث بحياته، لكن لا أحد دفع ثمن كل هذا غيرها هي، لقد تعانف معها لدرجة أنه لا يعلم إن كانت نائمة أم فقدت الوعي! لكن ضجيجه هدأ، وبعض نيران روحه خمدت، حتى أن الهدوء عاد يستقر بأنفاسه.
استسلم بدوره لسلطان النوم.. وعقله لم يستطع حتى التفكير في طريقة لائقة كي يعتذر منها على ما بدر منه هذه الليلة.
------*------*------
أخذت تقطع غرفتها جيئة وذهابًا، لأول مرة تكون على هذا النحو من التوتر، لأول مرة تخشى مقابلة أحدهم، تقدم لها بدل الفرد عشرًا وزيادة، ولم تكن في هذه الحال أبدًا، تحدث إليها أبوها صبيحة الأمس أن شابًا من بلدة قريبة منهم قد أرسل في طلب مقابلة يُتاح له فيها التعرف إليها، وما كاد المساء يحل حتى أخبرها أنه آتٍ مساء اليوم التالي، مر يومان فقط على إخبار عمتها لها بذلك، لمَ العجلة! ظنت أن الأمر سيستغرق بعض الوقت وليس بهذه السرعة... انتبهت من أفكارها وتوترها وهي تغمغم بين نفسها:
- إيه الفرق دلوقتي ولا بعدين! وليه متوترة كده زي ما يكون أول مرة! إيه شغل المراهقة ده!
ولجت أختها أهِلَّة للغرفة، نظرت لحالها وضربت كفًا بكف، ثم جلست إلى الفراش الذي تشاركها إياه، تحدثت:
- مش خير اللهم اجعله خير!
- خير أنتِ؟ نعم؟
قالتها أنفال بنبرة عدائية، فضحكت أهِلَّة بقلة حيلة، ثم تابعت:
- شكلنا هنقول مبروك الليلة، ها؟
غمزت في آخر قولها مما جعل الخجل يتسرب لأنفال التي ابتلعت ريقها وهي تحاول التغطية على الموضوع بأكمله:
- حاولي تغيري من كلمة مبروك دي وخليها مبارك أصح وأدق.
رفعت أهِلَّة حاجبيها وهي تسأل بسخرية حاولت مداراتها:
- وإيه الفرق بقا يا ست الشيخة؟
- يسمع منك ربنا، هو أنا أطول أكون شيخة! ما علينا.. كلمة "مبارك" جاية من الفعل "بارك".. وذُكِرت في القرآن الكريم في آية بتقول عن عيسى عليه السلام "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ".. وكمان في آية تانية عن القرآن الكريم بتقول "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ".. وآية تالتة بتقول "وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ".. غير ما فيه حديث عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: "الحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلاَ مُوَدَّعٍ، وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا"... كل ده بمعنى البركة.. لكن كلمة "مبروك" جاية من الفعل "برك".. ودي بالمعنى البلدي كده زي كلمة نخ.. اللي هو بنقول مثلا "برك الجمل" يعني قعد مكانه كده.. هي الكلمة ما فهاش مشكلة في العموم يعني طالما الناس فاهمة المقصود بيها وطالما النية بالبركة وكده.. بس احنا مش هنغلب لما نصحح كلامنا يعني.
- كل دي محاضرة عشان سألت سؤال بريء؟! يا شيخة يا ريتني ما سألت.. انشالله ما اتجوزتِ ولا باركنا لك حتى، ده إيه الغلب ده يا ربي!
أنهت أهِلَّة قولها وغادرت الغرفة، بينما أغمضت أنفال عينيها بقلة حيلة على أختها وأسلوبها الفظ الدائم في الرد.
مر الوقت ما بين محاولة لتشتيت النفس عن موعد المساء، وبين تأدية الواجبات الخاصة بالبيت من جهة وكتاباتها من جهة أخرى، حتى طالبتها أمها بتبديل ثيابها بما ستُقابل به القادم، ولأول مرة تهتم بكَيِّ خمارها، وانتقاء أقرب فساتينها لقلبها، مسدت معدتها بتوتر يزداد كلما اقترب الموعد، وكأن الموعد موعد التقاء حبيب مُغترب وها قد عاد أخيرًا! كانت أختاها تناظرانها باستغراب، وفيما بينهما غمغمت أهِلَّة وهي تُصارح أفنان بما يجول في عقلها من شكوك تجاه أنفال:
- هو ليه حاسة زي ما يكون المرة دي مختلفة عن كل مرة؟! تفتكري أنفال تعرف الشاب اللي جاي النهار ده؟!
أعارتها أفنان كل الاهتمام، ثم ألقت نظرة على أنفال التي تعدل من ضبط خمارها، وعادت لأهِلَّة بشيء من الشك:
- معقول! وتكون بترفض كل السنين دي عشان مستنياه؟! بس هتعرفه منين يا به؟!
- مش ابن عمتك يا ختي اللي جايبه؟ وبعدين ما هو ابن عمتك أهو.. ملتزم وحلو ومتعلم وكل حاجة.. اشمعنا ما تقدملهاش ورشحها لصاحبه؟
قالتها أهِلَّة باقتناع تام، مما استدعى أفنان لمتابعة القول:
- إلا لو كان السيد ابن عمتنا فعلا عارف إن بينها وبين الشاب صاحبه ده حاجة!
- شُفتِ! ما طلعتش سهلة ست أنفال.
- هه.. وعاملة لنا فيها شيخة وهذا حلال وذاك حرام.
ضحكتا مما جعل صوت ضحكتهما يعلو، فالتفتت أنفال تجاههما وهي تقول:
- يا رب بس ما تكونوش بتضحكوا كده تنمر على حد.. حاكم أنا عارفاكوا.
قلبت أهِلَّة عينيها وهي تغمغم:
- الخمار طويل أوي على فكرة.. مبيخ شكل الفستان.
نظرت أنفال لثيابها بتردد، لكن سرعان ما حسِمته وهي تقول بثبات:
- ده لِبسي، ودي طريقتي إذا كان عاجب.
- على فكرة ده واحد جاي يخطبك، حطي كريم تفتيح، وكحلي عينك، وحطي زبدة كاكاو من الحمرة شوية دي، خلي ملامحك تظهر شوية، وقصري الخمار سيكا يعني مش حوار؛ عشان الفستان يظهر بس مش حاجة.
قالتها أفنان مما أثار حفيظة أنفال التي جلست إلى الفراش مقابلهما، تحدثت بعد أن سحبت أنفاسًا عميقة أخرجتها ببطء مع كلماتها:
- أنا بخرج بالطريقة دي من البيت، كنت بروح جامعتي كده، وبروح لأصحابي كده، وبروح زيارات للعيلة كده، وبقعد كده قدام أي غريب.. والشخص اللي جاي ده مش استثناء، المفروض بتطلعي للشخص اللي ييجي يتقدم لك بكامل لبسك اللي بتخرجي بيه بره، اللبس الشرعي بتاع أي مسلمة، ما يظهرش منك غير إديكِ ووشك، وحتى لو بقى خطيبك كمان.. برضو تقعدي قدامه بنفس اللبس ده كده.. باستثناء إنك ممكن تبدلي بس فساتين الخروج لعبايات بيت فضفاضة برضو ما بتلمعش أوڨر ولا شفافة. الخاطب غريب مش صاحب بيت ولا محرم ليكِ عشان تحللي له المحرم على غيره.
- ترارارا.
قالتها أهِلَّة وهي ترفع يديها كأنها تنهي معزوفة، ثم تابعت والملل يسيطر على كل خلاياها:
- محاضرتين في نفس اليوم.. كده كتشير أوي يا لمبي والله!
نفت أنفال بقلة حيلة، لكن قبل أن ترد أتى صوت الباب الطارق بالخارج، وصوت والدها يرحب بابن عمتها وصاحبه، عاد التوتر من جديد، معدتها عادت تؤلمها، تشعر بدوار خفيف، هذا الحدث غير طبيعي بالمرة! دقائق مرت وهي تزرع الغرفة جيئة وذهابًا، تراجع في عقلها ما تود سؤاله عنه وما تود معرفته عن حياته الاجتماعية وغيرها، في حين أن أفنان عادت تقول لأهِلَّة:
- مش باين إنها تعرفه ولا حاجة يا ستي.. ظلمناها على الفاضي.
لوحت أهِلَّة بيدها علامة اللامبالاة، وأخرجت هاتفها من أسفل الوسادة وبدأت بالعبث فيه تاركة أفنان التي تراقب حركة أنفال المتوترة، بداخلها ندم من فعلٍ ما أقبلت عليه قديمًا، ويدغدغها شعور بتجربة هذا العفاف الذي تكون عليه أنفال دومًا، لكن جزء خفيٌّ فيها يُرهق قلبها التواق لدرب الاستقامة، لا تدري تحديدًا ما هو.. لكن لربما كان الحل قريبًا.. ربما.
انتبهن جميعًا على صوت الأم تنادي ابنتها كي تُقدم الضيافة، هنا وأصبحت كل أعصاب أنفال أدراج الرياح، خرجت خلف أمها تحمل الضيافة، ألقت بالسلام على الجلوس، وتحركت مباشرة إلى حيث يجلس ابن عمتها وصديقه، وضعت ما تحمل بينهما قبل أن ترحب بابن عمتها وتسأل عن حاله، حمد الله وبادلها السؤال عن الحال فقدمت الحمد، رحبت بصديقه بحركة من رأسها دون النظر تجاهه، جلست إلى جوار أبيها وهي تفرك يديها بتوتر بالغ، تحدث أبوها يقدمها للشاب:
- دي بقا أنفال يا عُمر يا بني، كانت طالبة مجتهدة جدًا وبتحب الدراسة، كاتبة إلكترونية كمان، بتكتب في مجالات مختلفة بس هدفها الأول ديني.
أومأ عُمر مبتسمًا كأنه يؤكد على معلوماته عنها، ثم تحدث بصوت رخيم هادئ بالكاد يُسمع:
- نموذج مشرف يا عمي، ربنا يبارك فيها.
ابتسم له الوالد في رضا، ثم أضاف وهو يوجه حديثه للسيد ابن أخته:
- تعال يا سيد يا بني نقعد في البرندا شوية ونسيب لهم مساحة يقدروا يتكلموا فيها.
أومأ السيد وهو يتحرك سريعًا بجوار عمه، جلسا أمام البيت مباشرة على بُعد من أنفال وعمر، لكنه مكان يُتيح لهم رؤية ما يدور بالداخل. تحركت أنفال لتجلس على مقربة منه، ثم تنحنحت وهي تسأله باهتمام محاولة كبت توترها:
- حضرتك درست إيه؟
- أنا بفضل الله أنهيت دراسة علوم إعاقة، وخلصت جيش من سنة، عمري ٢٨ سنة، كنت خاطب مرة قبل كده من ست شهور لكن ما حصلش نصيب، عندي علي أخويا اللي بعدي على طول متزوج من سنة، وعثمان أكبر مني متزوج وعنده مودة ومعجزة توأم، وليا حفصة أختي لسه في دراسات إسلامية، وفاطمة آخر سنة ثانوية أزهرية، وزينب مخلصة دراسات إسلامية من سنتين وحاليًا مخطوبة لابن عمتي، والدي متوفي من خمس سنين، والدتي عايشة معانا بنفس البيت، يعني بيت العيلة بمعنى أدق يعني، كل واحد من اخواتي له شقته، والشقة اللي تحت هي البيت الكبير اللي بنتجمع فيه بشكل يومي كلنا، لحد المغرب كده كل واحد بيطلع شقته.
صمت يفكر في شيء آخر ربما نسيه ليوافيها به، لكنه لم يجد، فسأل مستفهمًا:
- وأنتِ بقا؟
ابتلعت لعابها وهي تقدم نفسها من جديد:
- أنفال، ٢٥ سنة، دراسات عليا علم نفس، ما حصلش واتخطبت قبل كده، كاتبة إلكترونية بشق طريقي في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشباب والبنات يعني، ليا أختين: أفنان مخلصة دبلوم تجاري من تلت سنين، وأهِلة في تانية فني صناعي السنة دي، وليا أخويا أحمد في تالتة اعدادي، أسرة مع بعضنا ويعتبر بيتنا هو بيت العيلة، يعني الأقارب وكده لما بيحبوا يغيروا جو بييجوا علينا، وكل جمعة بيتجمعوا عندنا هنا.
صمتت تفكر فيما يمكنها إضافته من تعريف عن نفسها، فلم تجد ما تضيفه، فسألت على استحياء:
- حافظ قد إيه في القرآن؟
ابتسم لسؤالها الذي كان شبه واثق من أنها ستسأله؛ فهو قد تابع صفحتها الشخصية على الفيس بوك قُبيل مجيئه إليها، وعلم كم تهفو لارتداء النقاب، وأنها ترجو من ربها زوجًا حافظًا لكتابه عاملًا به، علم عنها الكثير دون أن يدري أحدًا، حتى هي، أجاب بفخر معتاد كلما سُئِل هذا السؤال:
- بفضل الله خاتم القرآن من مرحلة الثانوية.
تفاجأت، وازدادت ضربات قلبها، ابتلعت لعابها وهي تتمتم بصوت خفيض:
- اللهم بارك.
تداولا بعض الأسئلة التي أراد كل واحد منهما أن يتيقن من إجابتها عند الآخر، حتى استأذن عمر بالذهاب، وبهذا انقضى الوقت الموعود. دخلت على أختيها وهي في عالم آخر، نبرته التي أسرت شيئًا ما بداخلها، الهدوء الذي يبدو عليه، بساطة ثيابه، وقار حديثه، فخره بحفظه كتاب الله.. كل تفاصيل جلستهما راودتها بعد صلاتها الاستخارة، حتى استسلمت لنوم عميق مليء بهدوء البال وراحة الجسد، و... وطمأنينة القلب!
------*------*------
أنهى يومًا دراسيًا آخر وعاد لركن غرفته الحاوي أقلامه وكتبه ومفكراته التي تنعي نفسها على ما آلت إليه بسبب ندباته الكامنة فوق وريقاتها. انتصف الليل والنوم لم يجافيه، خرج يجوب شوارع المدينة التي يسكنها علَّ بعض السكينة تسكنه، وبينما هو يضرب حجرًا صغيرًا أمامه واضعًا يديه في جيب بنطاله فإذا به يرى شابًا يجلس عند أحد الأرصفة، يبكي بصوت ونحيب كأن الحياة انتَزَعَتْ منه الحياة! اقترب في إجفال ومال إليه يسأل عما به، رفع الشاب رأسه فتألم قلب آدم لمظهره، أعينه الزرقاء سابحة في نهري حليب استحال بياضها احمرارًا، حاله مشعث يوحي بخروجه من صراع ما.
أخذ الشاب يشهق ويحاول التقاط أنفاسه بانتظام، ربت آدم على كتفه وهو يقول بلكنة غير عربية محاولًا تهدئة حاله:
- اهدأ قليلًا، دعنا نذهب لمكان هادئ حتى تستعيد رباطة جأشك، لا تقلق، أنا معك.
كان يقدم له من القول ما يحتاجه هو، جملة "أنا معك" كفيلة بأن تُطمئن قلبًا سكن جوانبه الفزع، أن تُبرِئ علة روح سابحة في بحر التيه والضلال، جملة من ستة أحرف تُعيد السكينة للنفس المتأرجحة بين ركلات الحياة ومآسيها، كم تمنى لو قيلت له من واقع الفعل، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وبما أنه فاقد لسماعها فلن يبخل بأن يُسمعها لشخص بحاجة لها.
جلسا إلى مقهى قريب يتمتع بالهدوء بعد أن صاحبه آدم لدورة مياه المكان، استعاد الشاب هيأته تقريبًا، ثم بدأ يرتشف من عصير الليمون الذي أحضره النادل بضع رشفات تهدئ من توتر نفسه، زفر بعض قلقه وهو يقدم الشكر بإيماءة من رأسه لآدم، أومأ آدم دون حديث، منتظرًا أن يتفوه الغريب بما يعتليه من أحمال، فهو يخشى السؤال بحق، لا يحب زج ذاته في خصوصيات الآخرين، لا يحبذ شعور الدخيل الفضولي، إن أراد أن يتحدث فلن يمنعه شيء، وإن أراد ألا يفعل فلن يلومه على شيء، يكفيه أنه استعاد بعضًا من هدوئه، والباقي تتكفل به الأيام.
سأل الشاب بلكنة غير عربية:
- هل أنت مصري؟
رفع آدم حاجبيه تعجبًا، ثم أومأ مؤكدًا، فزفر الشاب دون أي إضافة، صمت ثقيل أطبق عليهما حتى يئس آدم من أن يتحدث إليه الشاب مرة أخرى، لكنه تحدث في نهاية المطاف مفصحًا عن كل شيء كأنه فقد قدرة الكتمان أكثر، وفاض به الكيل:
- اسمي يزيد، في الأصل أنا من القاهرة، لكن عايش هنا بقالي تلت سنين.
تعجب آدم حينها من أن الشاب مصري، اشقرار شعره، وزرقة عينيه، وبياض سحنته الخالية من الشارب أو اللحية تمامًا كوجه فتاة جعلاه يظن كونه أمريكي الجنسية، تابع الشاب حديثه وهو يعيد جسده لظهر مقعده:
- جيت مع أهلي، كنا أسرة دافية والخير ماليها، بس من وقت ما شغل أبويا وسع هنا والدفا ده بدأ يتسحب واحدة واحدة لحد ما بقيت أنا وأمي بنحاول ندفي بعض.
اهتزت نبرته حينما نطق آخر جملته، وهددت أجفنه بسقوط عبراتها من جديد وهو يتابع:
- لكن أمي ما استحملتش، سابتني من ست شهور، سابتني أواجه برد الحياة لوحدي.
سقطت دمعة، وابتلع قلبه الباقي، بينما تابع يزيد وهو يحاول التماسك:
- من شوية وصلتني رسالة على موبايلي، بتقول لي فيها "كل سنة وأنت الحياة"، فاكتشفت إنه عيد ميلادي، كانت مجدولة الرسالة توصلني في معادها.
لفظ قلبه العبرات التي ابتلعها منذ قليل، هذه المرة لم يستطع آدم أن يقول له كلمة، لم يستطع مواساته، كل ما فعله هو أن قدم يده ممسكا بيد يزيد الذي مال برأسه إلى الطاولة وترك أعينه تفيض بما لديها من أوجاع.
بقيا على هذه الحال حتى هدأ صوت يزيد بعض الشيء، رفع ذاته محاولًا التماسك، في حين حاول آدم أن يجد بجعبته ما يمكن أن يقوله، لكن دون فائدة. أشار للنادل وطلب فنجالي قهوة، أتيا وكان يزيد قد استعاد بعضًا من قوته، بدأ يرتشفها على مهل وهو ينظر للطريق الفارغ إلا من القطط الصغيرة بجانب سور الحديقة الأمامية للمقهى الذي يجلسان بداخله. تحدث آدم يقطع هذا الصمت دون أن يتطرق لأمر يزيد:
- أنا معيد في كلية هندسة، بحضر دكتوراه السنة دي، بتدرس ولا مخلص؟
- يدوب دراسات عليا علم نفس، كنا يدوب قبل ما تتوفى بنخطط إني أعمل الدكتوراه.
قالها يزيد بحنين التقطه آدم، ران عليهما صمت لم يتعدَّ دقيقتين حتى عاود يزيد الحديث:
- أنا متشكر أوي يا آدم، مش كل الناس قادرة تسمع الفضفضة في الزمن ده.
- اسمح لي أحسدك، مش كل الناس قادرة تفضفص في الزمن ده.
ضحكا معًا، وربما يمكن لآدم أن يقسم كون هذه هي المرة الأولى التي يشهد ثغره ضحكة مُذ وطأت قدماه أرض هذه الدولة، حتى وإن كانت ضحكة متألمة، في النهاية حُسِبت عليه ضحكة. مد يزيد يده طلبًا للمصافحة، وبمصافحة آدم له شهد المقهى علاقة صداقة جديدة حُسِبت في قائمة العلاقات، ودُوِّنت بين ورقات آدم الذي سجل هذه الساعة بصحبة يزيد في مفكرة جديدة بعنوان "بين ألفٍ وياء"، نسبة لبداية اسميهما.
------*------*------
يتبع...
أنت تقرأ
أنفال
Ficción Generalمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...