الفصل الثالث والعشرون

1.2K 66 13
                                    

(الفصل الثالث والعشرون)

أعلن هاتفها اتصالًا انتظرته طيلة النهار، أجابت بالسلام فرده متابعًا من بعده:
- هو أنا لو ما اتصلتش عليكِ ما تسأليش عليا يا نوفا.
صمتت تفكر فيما قال، حقًا هي لم يسبق لها أن اتصلت له ولو لمرة! دائمًا هو المتصل، ودائمًا هو البادئ في المحادثات، هل سيعتبر هذا عدم اهتمام منها؟ هي فقط لا تحب إزعاجه، تنتظره أن يتصل هو وقتما يكون فارغًا من أي أعمال، لكن أن تتصل هي دون أن تدري إن كان في عمل أو بصحبة أحدهم أو ما إلى ذلك فهذا صعب عليها، تفاصيل دقيقة وطباع أدق تحملها على أكف القلق والتوتر المستمر. قطع عليها صمتها وتفكيرها وهو يسأل إن كانت تسمعه، أجابت:
- سامعاك آه، أنا ما بتصلش بس عشان ممكن تكون مشغول أو مع حد وكده، أنت طالما فاضي بتكلمني يعني وكده.

مثل الحزن في رده وهو يقول:
- لا بقى ما ليش دعوة، أنا خاطب عشان أشوف اهتمام، أشوف حب، أشوفك يا جميل.
ضحكت على طريقته، تنهدت قبل أن تقول:
- طب أنا زهقانة أوي يا عمر، عايزة أطلع أشم هوا شوية، ممكن آخد اخواتي ونتمشى آخر النهار شوية؟

استعملت طريقًا مراوغة، لكن رده أتى قاسمًا ظهر ظنها فيه وهو يقول دون تردد:
- هاجي لك أنا أمشيكِ آخر النهار يا حبيبتي، بس ما تتعشيش في البيت، هنتعشى مع بعض.

من فرط حساسيتها مما حدث الآن كادت تبكي، لكنها تماسكت وهي تبدي موافقتها على ما قال، ثم اتخذ الحديث منحدرًا آخر في شئون مختلفة، أنهت المكالمة معه وقلبها به تآكل مفرط، لو بقيت تسمع لهذا وذاك ستخرب على نفسها حياتها، ها هو لم يفكر في تأجيل الخروج لوقت لاحق مثلًا، أو لم يوافقها على الخروج صحبة أخواتها، بل قرر أن يكون هو صاحب الدرب في تغيير روتين اليوم.

زفرت بقوة وهي تخرج لأمها تخبرها ما حدث، كعادة اعتادتها منذ ارتادت الجامعة، كل كبيرة وصغيرة تتحدث فيها مع أمها، تتخذها الصاحبة والأخت قبل الأم، أومأت لها أمها وهي تدعو لها بتيسير الحال والصلاح. فتحت صفحتها الشخصية، سجلت منشورًا جديدًا نصه:
"مُصيبة أن تدقق في التفاصيل الصغيرة البسيطة؛ هناك يكمن صداع القلب، وسرعة نبضات العقل."

لم يمر غير دقيقة على هذا المنشور، فإذا بها تجد رسالة على الخاص من صفحة شخصية سبق لها أن رأتها، حاولت تذكر أين ومتى حتى هداها تفكيرها أنها هي نفسها: أنفال صاحبة التعليق على أحد منشوراتها، والتي أعجبها في ذلك الوقت ردها الفلسفي البسيط، قرأت رسالتها فإذا بها تبدأ بالسلام مضيفة اعتذارًا عن اقتحامها وقتها وخصوصيتها، ردت أنفال السلام، ثم رحبت بها وبوجودها وأنها سعيدة لهذا التواصل، ردت أنفال الصغيرة في الحال أنها أكثر سعادة، لم تجد ما تقوله غير أنها أحبت التواصل معها لا أكثر، وأنها معجبة بكتاباتها، وانتهت المحادثة بينهما عند هذا الحد.

تجهزت أنفال بعدها لقدوم عمر الذي أتى بعد تأديته لصلاة المغرب، ابتسم لها ابتسامة جعلت الاطمئنان والحب يتسربان لقلبها في لطف، سألها أن كانت جاهزة فأكدت ذلك، خرجت معه، لا تعلم كيف لها أن تسير قريبة منه هكذا، رأته يضع يديه بجيب بنطاله، لم تعلق، هي في الأصل خجِلة، ولا تعلم إن كان سيكون بمقدورها أن تمسك بيده في طريق عام! قال كأنه قرأ أفكارها:
- ما تستنيش أمسك إيدك في الشارع، في الشارع نمشي اتنين رجالة جنب بعض.

لا تعلم أصدمها القول أم هو على صواب! أي صواب هذا الذي يجعل من رجل لا يُمسك بيد زوجته في طريق عام كي يُشهد خلق الله أنها له وبه ومنه؟ أهو الخجل؟! تذكرت ذات مرة وبينما يتحدثان سألته عن السبب الذي جعله لا يقبل على احتضانها أمام الناس بعد عقد كتابهما، فكان رده أنه حياء لا أكثر، وأنه لا يود أن يراه أحدهم في وضع خاص مع زوجته. أحبت رده وقتها، لكن أن يصل الأمر لأن يسير جوارها هكذا كل في حال وبينهما كل هذه المسافة! لا تدري لكنها لم تحب الأمر ولم تتقبله، لكنها شربته في صمت ودون أي رد فعل.

دخل بها لمطعم أنيق، جلسا بقسم العائلات، وبعد أن تناولا عشاءهما الذي لم يخلُ من ممازحته لها على أن اللحوم في المطاعم ليست كلها مضمونة، ومحاولتها هي إقناعه أنها لو لم تكن كذلك لتم رصدهم في الحال، لكن الشك تخلل لقلبها، وإن كانت النظافة الشديدة مرض فأنفال أكثر الناس مرضًا بالنظافة.

عادت لبيتها صحبته، سألها إن كانت سعيدة، فأكدت ذلك وهي تتطلع إلى ملامحه الهادئة التي لا تحمل لؤمًا أو كذبًا، هل تفعل كما يقول الجميع من حولها: زوجة عمها تقول أنها تضغط على زوجها بطلباتها ليكون كالخاتم في إصبعها، لئلا ينظر خارج بيته، لئلا تزوره فكرة أن يتزوج بأخرى، ليعلم أن ما يدره عليه عمله بالكاد يكفي بيتًا واحدًا. في حين أن عمتها تقول أن من تُعوِّد زوجها من البداية على أن يحترم رغباتها مهما كانت ظروفه، ويستجيب لما تريده، وتحدد معه يومًا مثلا لقضائه مع عائلتها صحبته، وأن كل الأمور التي يمكن أن تضعها السيدة تحت بند المطاليب والرغبات ما إن يعتاد الزوج منذ البداية أنها واجبات عليه فلن يُقصر مستقبلًا . وأمها تقول أن تنازلها عما لها سيجعلها عرضة للتنازل في كل مرة، بل وسيجحد عليها حقها إن طلبته. في منشور ما على مواقع التواصل كتبت إحداهن أن الزوج لا بد وأن يدرك جيدًا ما له وما عليه، وأن يؤدي ما عليه أولًا كي يحصل على ما له، إن لم تفعل المرأة هذا من البداية فلن تقدر على تغيير مجرى الأمور مستقبلًا، وستبقى هي المعطاءة وهو السالب.

نسيت أنفال في هذه الأثناء أنها طيلة مسيرة عشر سنوات وهي تكتب عن العلاقات، سواء كانت صداقة أو أخوة أو عائلة أو حب.. تكتب بسخاء في العلاقات، ويصفق لها كل من يقرأ تفانيها في إظهار كل جميل عن تلك العلاقات التي بها نصل وإليها نسعى، نسيت أنها ذات يوم قد كتبت:
"الزواج ليس فقط سنة حياة، بل هو سكينة وأمان، الزواج رجل ناضج وامرأة سويِّة، اجتمعا على معرفة بالدين وأنه كرَّم كل واحد منهما، وجعل بينهما مودة ورحمة، إنه على عكس ما يحدث في زماننا هذا من تعجيز للرجل وإزلال للأنثى، إنه روحان قررا الاتحاد لينقسما إلى جسدين، تشعر به إن مرض، ويشعر بها إن عانت، تقف إلى جواره إن سقط، ويساندها إن مالت، إنه أسمى من أن يتخذ كل واحد سلاحه بنية الدفاع عما له في علاقة أساسها الود والرحمة."

نسيت أنفال أن ما آمنت به طيلة سنواتها قد هزه ثرثرة فارغة ممن حولها، فقررت الاهتمام بأدق التفاصيل كي تنغص على نفسها عيشتها، وتتآكل مع الشك كل يوم، وبدلًا من أن تحيا حياة هنية بفترة أساسها الهناء أخذت تُنصت جيدا لتجارب الآخرين وتطبقها على نفسها وحياتها! نسيت أن لكل امرئ ظروفه التي تحكم حياته، وأن ليس شرطًا كون واحد يعاني من طبع ما في شريك حياته أن كل الشركاء سيعانون نفس الطبع، فلكل واحد طبعه، ولكل واحد ظروفه التي تُنشئه، ولكل واحد حياته التي يخوضها كيفما يراها مناسبة له.

تحدث عمر يسأل أفنان عما بها، رفعت أعينها له كأنها انتبهت الآن فقط أنه وأختها جالسين معها، ردت أن لا شيء، سأل مجددًا وهو يؤكد أن هناك شيء ما، ثم حينما لم تُرِد الكلام أشارت بعينها لأنفال دون أن تراها الأخيرة، ففهم عمر أنها لا تريد التحدث أمام أختها، فتحدث هو لأنفال:
- أنفال، غيري هدومك وخليكِ جوه شوية لما أنادي لك.

عقدت بين حاجبيها وهي تسأله عن السبب، فرد بصدق:
- عايز أفنان في موضوع.
مالت إليه تريد إخباره أنه لا يجوز له بأختها خلوة، فأبوها ليس هنا، وأمها مشغولة بالداخل، والآن هو يريدها أن تترك المكان لهما ليتحدثا على انفراد تام! نظر لها نظرة حاسمة دون أن يسمع منها ما تود قوله، فلم تعارض، ولم تتحدث، فقط قامت بكل هدوء، دخلت الغرفة ووجهها ينطق بالغضب، وأعينها تهدد بالبكاء، لا تدري لماذا! لكن شعور البكاء سيطر عليها بغباء.

كانت أَهِلَّة تراقب انفعالات أنفال وهي تلقى بثيابها في غضب، بينما هي تبتسم بداخلها على ما أحرزته من إغضاب أختها، لقد خططت تخطيطًا طويلًا كي تصل لهذه النقطة، فهي على علم أن أفنان كانت على علاقة بشاب ما عبر مواقع التواصل، وأنه اختفى فجأة ولم يعد له أثرًا. أتت أَهِلَّة صبيحة هذا اليوم وأخبرت أفنان أن ذاك الشاب تواصل معها وأخبرها أنه كان يتلاعب بأختها، وقد شعر بالذنب تجاهها فأرسل لها اعتذارًا مع أَهِلَّة آخذًا عليها عهدًا ألا تُخبر أفنان بصفحته الشخصية الجديدة.

تعلم أَهِلَّة يقينًا أن أفنان حينما تحزن لا تستطيع السيطرة على تعابير وجهها، كما علمت من المرات التي جلست فيها مع عمر والأسرة أنه فضولي، فلما أتت أنفال وعمر من الخارج طلبت أَهِلَّة من أفنان أن تخرج من الغرفة كي تذاكر، والآن نجحت خطتها تمامًا بأن غلب فضول عمر عليه كي يعرف من أفنان سبب حزن ملامحها...

مثلت عدم الانتباه لأفعال أنفال وهي تندمج مع كتبها، بينما خرجت أنفال وكلها نية ألا تمرر هذا الأمر مرور الكرام. مرت حوالي نصف ساعة أو تزيد حتى نادى عمر على أنفال التي خرجت كأن شيئًا لم يكن، رأت أفنان وآثار الدمع على وجهها، غادرت أفنان مجلسهما، بينما جلست أنفال بكل هدوء أمامه، سألها إن كانت بخير، فردت منفعلة:
- وإيه اللي هيخليني مش كويسة؟!
- مالك يا أنفال؟ أنتِ زعلانة عشان خليتك تدخلي جوه وأنا بكلم أفنان؟!

سأل وكله عجب من طريقة ردها، فردت وهي تحاول التحكم في أعصابها:
- أظن يا عمر إنه ما يصحش أبدًا تقعد مع أي بنت في خلوة لوحدكم.
- أنتِ بتقولي إيه يا أنفال، دي أختك.

قالها باستنكار، فردت بحزم:
- "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم"، "ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس بينها وبينه محرم." ما فيش ولا حديث منهم استثنى أخت الزوجة عن باقي النساء.

قالت أنفال الأحاديث الثلاثة تباعًا كأنها تغلق عليه أي مخرج من خطئه، وأضافت باقي قولها بلهجة أقرب للسخرية من مبدئه الغريب. لم يستطع الرد عليها، فقط أمسك بيدها وقربها منه وهو يقول:
- ربنا اللي عالم بالنوايا يا أنفال، أفنان ما كانتش هتقول اللي جواها غير لحد غريب عنها شوية، اللي عايزة تحكيه أحيانا ما بتعرفيش تحكيه للي معاكِ في البيت، فيه حاجات بتيجي لحد عندهم وتقف، أنا بس حبيت أسمع لها وأنصحها بدل ما تلجأ لحد بره، واللي بره ما نضمنش يكون تصرفه معاها إيه.

لم تعرف بماذا ترد، تشعر أن كلامه فيه من الصحة ما لا رد عليه عندها، فآثرت الصمت بعد تنهيدة خرجت عن صدرها، قال يسترضيها:
- خلاص يا ستي ما عنتش هتكلم مع اخواتك تاني.
- لا لا طبعا إيه الكلام ده، أنا ما كانش قصدي كده خالص.
اندفعت وهي ترد عليه، فابتسم وهو يقول مشاكسًا:
- وبعدين يا بت أنتِ تغيري من أي واحدة إلا اخواتك، ما هو ما ينفعش أجمع بين أختين بقا.
ضمت شفتيها سخطًا على حديثه، وقالت مندفعة:
- ولا هتجمع أي واحدة معايا.
- يعني إيه! هتحرمي حلال ربنا!

قال قاصدًا إغاظتها، فردت بحزم داخلها:
- لا مش ده المقصد، لكن أنا ما يكونليش ضرة، ومش أنا اللي أقبل أكون واحدة من زوجات راجل بيبص للتعدد، هو حلال ربنا آه، لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأنا ما استحملش شريكة ليا في جوزي.
- ولو حصل وعايز أتجوز فعلا، هتعملي إيه يعني؟!

صمتت لبضع ثوانٍ كفيلة بأن تجعلها تُحَكِّم عقلها في الرد قبل أن تنطق به:
- يوم ما هتفكر تبص لواحدة غيري أنا هكون انتهيت من حياتك يا عمر.
- هتعملي إيه يعني برضو!
- هتطلقني.

قالتها وهي تعنيها بكل صدق، بينما تعجب هو للرد السريع هذا، فقال يثير استفزازها أكثر:
- ما تنسيش إنه ربنا حلل ده شرط العدل، وأنا قادر أتجوز بدل الواحدة اتنين وقادر أعدل بينهم.

ابتسمت ابتسامة تهكمية وهي تعتدل في جلستها دافعة يده عنها قائلة:
- ما فيش إنسان على وش الدنيا قادر يتحكم في مشاعره وميوله، واحدة فينا هتلاقي راحتك عندها أكتر، واحدة فينا هتسيطر على عقلك في كل وقت، وهتخليك تبقى مع واحدة لكن عقلك راسم لك إنها التانية فبتتعامل معاها على الأساس ده، مش هتقدر تعدل، زمن الرسول والصحابة انتهى، احنا دلوقتي في زمن مين يكوش على كل حاجة لوحده ومين يكسب سبق الدنيا.

كانت كلماتها منفعلة للغاية، وكان هو في غاية الذهول من هذا الانفعال، لم يفعل شيئًا غير أنه ضحك وهو يجذبها إليه قائلًا بمزاح:
- بتغيري يا بت؟

حاولت دفع يده، لكنه أحكم إمساكها حتى هدأت بعد تنهيدة قوية منها، أخرجت معها ما أثقل على قلبها به من قول، الرجال يعشقون أن يُبدِين النساء غيرتهن عليهم، هل عمر يسعى لأن يرى غيرتها؟ أم أنه حقًا ممن يسعون للتعدد! سؤال أرق فكرها ليالٍ كثيرة بعد هذا الموقف الذي ظنت أن ما قيل فيه سيجعل أمره لا يكرر، لكنه بكل أسف تكرر ذات ليلة، بينما يتحدثان في أمر الدهانات الخاصة بشقتهما ويشاهدان سويًا الألوان ودرجاتها فإذا بأفنان تخرج عليهما، تحدثت بعد بعض الوقت الصامت:
- بتختاروا الألوان؟
- أها.

ردت أنفال وهي تشير لها كي تقترب وتشاركهما، جلست جوار أختها تتابع أذواقهما، حتى إذا ما انتهيا تحدثت ببعض التوتر:
- عمر لو سمحت عايزة أقول لك على حاجة.

ساد الصمت دقيقة، وتوترت الأجواء في هذه اللحظة، تنتظر أنفال رد فعل عمر، لكن خذلها للمرة الثانية بصمته، ابتلعت غصتها وهي تحاول أن تثبت وهي تردد داخل عقلها أن هذه أختها وهذا زوجها ولا شيء قد يحدث، هي تعلم أن أفنان طيبة القلب، لا تفهم في أمور المكر وخلافه، كما أنها تميل سريعًا لمن يسمع لها وينصحها بلطف، وعمر خير من يسمع وخير من ينصح، فلا داعي للقلق من هذا الوضع.

كانت ستقوم للداخل وحدها، لكن شرودها حال دون ذلك لدقيقة بقيت فيها صامتة، أتاها صوت عمر يقول:
- اعملي لي شوية ينسون يا أنفال لو سمحتِ.
التفتت تنظر له، ثم رسمت ابتسامة هادئة وهي تومئ في طاعة متحركة إلى الداخل تاركة مساحة الحديث بين أفنان وعمر.

خرجت عليهما بعد فترة وجيزة، فوجدت أفنان تمسح أعينها من أثر البكاء، سألت إن كان كل شيء بخير ما يرام، فردت أفنان بجرأة غريبة:
- تمام يا أنفال، بس معلش لسه ما خلصناش كلامنا.

هذا الوضع أصبح مهزلة، غادرتهما دون حديث، أخذت هاتفها وجلست أمام البيت، فتحت إحدى الروايات وبدأت في قراءتها كي تبعد التفكير عن عقلها المتعب، مرت نصف ساعة، أعلن هاتفها اتصال صاحبه عمر، أغلقت الصوت وتابعت قراءة الرواية، أعاد الاتصال فوضعته على وضع الطيران وبقيت تتابع القراءة. مرت دقائق معدودات حتى خرج عمر من البيت إليها، جذب من يدها الهاتف وهو يجاورها الجلوس، سأل عما تفعل، فزفرت وهي تحاول الرد بهدوء مُذَكِّرة نفسها أن هذا زوجها الآن وليس خطيبًا لها، أي أن له عليها الاحترام والطاعة وعدم رفع الصوت أو الانفعال عليه:
- بقرأ رواية.
- وما جيتيش ليه لما رنيت لك؟

سأل وهو يقرب مقعده من مقعدها، ردت بصدق:
- مش قادرة أدخل جوه.
تعجب لردها الذي لم يفهم مقصده، لكنه قال مبررًا:
- أنا ما عرفتش أرفض يا أنفال، دي أختك.

التفتت بكامل جسدها له والدموع تترقرق بجفنيها:
- ما هي عشان أختي يا عمر، عشان أختي بترجاك بلاش، بلاش تعلقها بحبل الفضفضة ليك، بلاش تفتح لها سكة إنه عادي تتكلم مع أي راجل وتفضفض، لما يتقدم لها واحد ويخطبها عمره ما هيقبل بالوضع ده، وأنا رغم إني أختها مش قابلة الوضع ده.

أغمض عينيه بقوة في قلة حيلة من كل شيء، وقف قائلًا:
- أنا هروح.

لم تستطع النطق، أهذه طريقته في حل الأمور؟ أهذا من كان يجيد السماع ويجيد الحديث؟ أهذا الذي رأته ملتزمًا ما دام حافظًا لكتاب الله؟ الآن فقط يمكنها الترديد بثقة أن ليس كل حافظ لكتاب الله عاملًا به! وأن ليس كل من لديه حياء يخجل أن يفعل ما يخالف قول الله، بل أحيانًا ما يكون حياءً اجتماعيًا عاديًا.. كلها صفات استخلصتها في شخصية عمر، ومع ذلك فهي ستتابع الحياة معه وتحاول أن تبدل من صفاته السيئة لغيرها حسنة، أليس هذا دورها كزوجة؟!

عادت مما سقطت فيه من شرود بعد ذهابه، زفرت هواء رئتيها وهي تستعد للدخول للبيت، وبينما هي على وشك دخول غرفتها وأخواتها فإذا بها تسمع صوت أفنان تتحدث:
- بيفكرني بعلاء والله، كان دايما ينصحني نفس النصايح اللي بينصحها عمر.

تنهدت أفنان وهي تخفض من صوتها مضيفة:
- بحسد أنفال عليه، لو إنه كان ليا أنا.

ردت أَهِلَّة بتحذير:
- خدي بالك إنه بقى جوز أختك خلاص ها، وأختك الملتزمة كمان، يعني لو سمحت لك مرة واتنين تقعدي معاه ما تضمنيش المرة التالتة تقول لأبوكِ.
ردت أفنان سريعًا:
- لا لا ما أنا هكلمه على النت بقا، هو قال لي لو احتجتِ حاجة كلميني في أي وقت.

صمت الحديث عند هذا الحد، وتقطع قلب أنفال لأشلاء، إنها على أعتاب خوض تجربة خيانة من أختها، خذلان من زوجها، مقابلة شيطان أخرس يتمثل في أَهِلَّة، كل هذا بسبب حديث لطيف به من النصح ما هو ليِّن؟!

خرجت من جديد وقلبها يغلي وجعا وألمًا وخوفًا من مستقبل لا تعرف ملامحه، لماذا يحدث معها كل هذا! أختها وزوجها هما سبب كل هذا الألم؟ ولماذا؟ بسبب خلوتين؟ يا لَعِظَمِ ما نفعل من ذنوب ونحن في غفلة منها وممن يُحرق بنارها ونحن السبب.

مرت بها الأيام على وتيرة هادئة، تتحدث مع عمر كلما اتصل بها، الحديث بينهما بدأ يفقد شغفه ورونقه، بدأت تفقد محاولاته لفتح مواضيع مختلفة معها، بدأت هي نفسها تفقد شغف الرد عليه كلما رن هاتفها، وشغف انتظار مكالمته كلما اقترب المساء.. يا للحياة وما تفعله بنا!

أعلنت المآذن صلاة العشاء، وأعلن صوت بوق أمام البيت قدوم عمر، بعد سلامه وترحيبهم به، طلب الصلاة، وفرغت صالة البيت من أهل البيت، وبينما هو يصلي أمسكت أنفال بهاتفه، فتحته بالرمز الذي رأته يفتح به عددًا من المرات، لا تعلم لماذا تفعل هذا، لكنها تشعر بانقباض في صدرها، تود معرفة إن كان حقًا كما يبدو، فتح مباشرة، كانت ستعاود إغلاقه، لكن شيطان نفسها وسوس لها أن تتابع، دخلت على تطبيق "الواتساب"، وجدت اسم أفنان بين الرسائل، ضغطت زر المحادثة فوجدتها فارغة إلا من رد أفنان في رسالة بكلمة "تمام"، وباقي المحادثة محذوفة تمامًا، اعتصرها الألم والوجع، اخترقها ألف سهم من خيانة ومن خذلان. لم تدرِ بنفسها إلا وهي تفتح تطبيق "الماسينجر"، رأت من بين الرسائل محادثة من صفحة باسم "مريم محمود"، شعرت أنها تعرفها، ضغطت تفتح المحادثة التي صدمتها كونها ليست محادثة يوم أو اثنين، بل هي عدد من محادثات على فترات متباعدة، تهنئه مرة بالعيد، ويهنئها مرة بعيد مولدها، وأخرى بتخرجها من الجامعة، وهي تحدثه مرة بسبب حالة ما له.

لم تستطع قراءة كل رسائله معها، فهو يسجد للركعة الأخيرة من فرضه، أغلقت هاتفه ووضعته حيث كان، إذًا هو يتواصل مع أخت ملك -زوجة أخيه- عبر الإنترنت، كان دوما يقول أنه ضد الاختلاط، ما هذا الذي تراه عليه الآن؟ تشعر أنها فقدت القدرة على التحمل، كل شيء ينفرط من بين يديها، قد يرى الجميع أنها بالغت في شعورها هذا، وأنه ما دام لا يتعدى حدوده في الحديث فهذا يشفع له! لكن لا، هي أخذته حافظًا لكتاب الله عاملًا به، والآن تراه حافظًا له غير عامل به، وهذا كفيل كي يهدم أي جميل قد جمعهما يومًا.
لقد بقيت طوال سنوات عمرها تحاول بكل الطرق أن تُقنع نفسها كونها تُبالغ، وأنها حساسة زيادة عن اللزوم، رغم أن الأمر لم يكن يومًا كذلك.

جلس عمر جوارها، سأل بهدوء عن حالها، فأومأت له دون حديث، سأل عما بها، فدمعت أعينها وهي تناظره، ألقت بنفسها بين أحضانه وتركت العنان لدموعها أن تسقط، حاوطها بقلق لما هي فيه، سأل من جديد يحاول معرفة ما ألَمَّ بها، لم ترد، فقط بقيت تبكي حتى هدأت نفسها، واستطاعت أن تأخذ شهيقًا منتظمًا، ابتعدت عنه رغم محاولة رفضه ذلك، لكنها أصرت كي يسمعها، تحدثت بقلب منفطر:
- فاكر لما قلت لي إنك حبيت واحدة قبل كده لكن ما حصلش نصيب تتجمعوا؟

أومأ دون صوت، فتابعت وهي تزدرد ريقها بين كل كلمة وأخرى:
- فاكر لما قلتِ لي أول مرة إنك بتحبني؟
أومأ من جديد، فردت هي بثقة تامة:
- في اللحظة اللي قلت لي فيها بحبك يا أنفال تأكدت إنك ما حبتش قبلي، اللي قلت إنك حبيتها دي ما كانتش حب، دي كانت مرحلة لطيفة فيها اهتمام متبادل، فيها شعور بلذة القرب، إعجاب بشخصية، لكن عمره ما كان حب.

ابتسم لها وهو يؤكد قولها بقوله:
- حقيقة، أنا فعلا ما حبتش قبلك، وده اكتشفته في اللحظة اللي قدرت أضمك فيها لحضني.

أومأت وهي تتابع:
- فاكر لما سألتني مرة إيه خلاني أوافق عليك؟
أكد برأسه وهو ينتظر باقي قولها الذي لم يتأخر وهي تصدمه:
- أنا بقا ما بقتش لاقية السبب اللي خلاني أوافق عليك فيك.

رمش عدة مرات في عدم استيعاب، ورد ردًا أبعد من قولها:
- بس أنا فعلا حبيتك.
- الحب ما بيحميش العلاقة يا عمر، الحب بيزينها، بينورها.. لكن ما بيحميهاش.

رفع عينيه للأعلى ثم عاود النظر لها وهو يسأل بترقب:
- وإيه اللي يحميها برأيك؟

- الأمان يا عمر.. الأمان اللي ما بقتش أحسه معاك، الأمان اللي من يوم ما فقدته جنبك وأنا مستنية لحظة إنك تحط نقطة بدل فصلة في روايتنا.
- أنتِ حتى في عز ما بتحاولي تحلي مشاكل بيننا لسه بتستخدمي أسلوبك الفلسفي بتاع الكتابة!

صدمها الرد.. فما كان منها إلا أن تطعنه بقولها:
- أنا ما بحلش مشكلة دلوقتي يا عمر.. أنا بنهيها...

ابتسمت ابتسامة متعبة، وأطلقت طلبها عن لسانها بكل ثبات:
- طلقني.

------*------*------

النهاية..

كعادة كل عمل أصل إلى نهايته أشعر أن الضيق يلُفُّني لكوني سأفقد جميل القول منكم، كان لقلمي شرف متابعة قُرَّاء مثلكم، وأعتذر عن أي تقصير حدث في الفترة السابقة، ولكن صدقًا كان الأمر لظروف خاصة، وأعتذر كذلك لأي تعليق لم أرد عليه، أنا بعيدة بعض الشيء عن وسائل التواصل هذه الفترة، ولكن لكل واحدة من بينكم جزيل الشكر على تشجيعي لمتابعة العمل حتى آخر حروفه، وأتمنى أنه كان تحت حسن ظنكم، وأن تكون الرسالة المقصودة من بين السطور قد وصلتكم، وأنا أثق أن من كانت نيته لله فلن يُخذيه الله أبدًا.

إلى اللقاء في الجزء الثاني من رواية أنفال، حيث ستبدأ الأحداث الحقة التي ابتغيتها من كل هذا الجزء، وهو السر خلف عنونة الرواية باسم "أنفال".

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jan 01, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

أنفالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن