(الفصل السادس عشر)
صبيحة هذا اليوم هو المحدد فيه الذهاب واختيار أغراض العروس من أجل حفل الخطبة، ولجت أنفال صُحبة عمر وأبيها وعلي -الأخ الأكبر لعمر- إلى محل الذهب، انتقت ما ناسبها، ثم أقلهم علي إلى متجر بيع الملابس لأجل شراء ملابس العروس، تفاجأت أنفال بوجود والدة عمر وزوجة أخيه الأكبر هناك، كانت هذه العائلة ما زالت تتبع النظام القديم من أمر اختيار ثياب العروس، مما جعل الحرج حليف أنفال لهذا اليوم، لم تستطع اختيار ما يناسبها جيدًا، وكلما عرضت عليها بسمة -زوجة علي- شيئًا وافقت عليه دون نقاش، الأمر الذي أغضب أمها منها وجعلها تتخذ جنبًا، انتهت بسمة من اختيار عدد من قطع الثياب، ثم أخبرت عمر أنهم انتهوا دون أن تسأل الموجودين إن كانوا قد انتهوا حقًا، لكن الصمت قد حالف أنفال وأمها تمامًا، إحداهما من الخجل والثانية من الغضب، لكن أيهما لم تبدِ حقيقة الأمر للأخرى حتى عادوا للبيت وغادر عمر وأهله.
جلست الأم رفقة أنفال وهي تقول بهدوء تام حافظت عليه قدر ما استطاعت:
- الحاجة اللي جت دي ما تنفعش، دول مش حاجة في سوق اللي بييجي.
لم تفهم أنفال مقصد أمها، فسألت مستفهمة عما تود قوله، زفرت الأم شهيقًا طويلًا وهي تحاول البقاء على هدوئها، هي تعرف أن أنفال قنوعة جدًا، وقد تتنازل عن حقوقها المادية لو شعرت أن من أمامها يعاني أزمة مادية، حتى أنها تتحرج من طلب المال من أبيها، ردت محاولة إيصال الأمر لابنتها كي تجعلها واعية للحياة:
- المفروض العريس بيجيب للعروسة ما يقارب من نص اللبس، ده لو معداش، ومش لبس فصل واحد بس.. لا ده لبس الفصلين: شتا وصيف، واللي جبناهم دول ما يعملوش نص الصيفي بس، غير ما إننا ما جبناش خروج كمان.
- طب وأنا المفروض أعمل إيه يا ماما! عادي على فكرة، اللبس ده بيبقى هدية حماتي، وده ذوقها، ودي مقدرتها، فخلاص بقا عادي.
قالتها أنفال مقتنعة بها، لكن الأم هدرت فيها فجأة وهي تقف:
- لا مش عادي، ومش خلاص، حقك لو تنازلتي عنه مرة هيتداس عليكِ عشان تتنازلي عنه كل مرة، أنتِ ما شوفتيش بسمة لما عمر جه يسألني قبل ما يمشي لو عايزين حاجة تاني، جت تجري لما شافته واقف معايا لوحده، سألتني عايزة حاجة ولا لأ، وقامت غمزت لعمر في جنبه عشان يمشي معاها، وأنا قلت لهم مش محتاجين حاجة تاني ومشيت الموضوع عشان ما أعملش مشكلة، لكن فعلا أنا هعمل مشكلة لو نيتهم إن اللبس ده بس اللي جه ومش هييجي غيره.
وخزة ما أصابت قلب أنفال بعد الذي قيل، ذهبت الأم من أمامها غير متخلية عن غمغماتها الساخطة، بينما تحركت أنفال تبدل ثيابها والأفكار تتناطح داخل عقلها، هل تنازلها عما لها حقًا سيأتي عليها بالعكس؟ هي حساسة جدًا تجاه هذه الأشياء، لو أنها راغبة في شُرب الصودا وهي تسير جوار أبيها إلى مشوار ما لا تطلبها منه، وإن عرض عليها ترفضها، هل عليها أن تتشرط على ما سيأتي به عمر وأهله؟! لديها قناعة تامة أن عدم إبداء احتياجها لشيء أمام الناس سيجعل صورة أبيها في عليين، فهو لا يحرمها شيئًا، حتى لو ينقصها كل شيء.
جذبها من هذا التيه صوت الهاتف يُعلن اتصالًا، وجدته عمر الذي أنساها كل ما كانت تتناطح معه داخل عقلها، تحدثا لبعض الوقت حتى سأل عمر:
- الحاجة اللي جت دي تمام ولا فيه حاجة تاني هتيجي؟
سؤاله كان ذا وقع غريب عليها، لديه أخت تمت خطبتها، ولديه أخوين تم زواجهما، ألا يعرف هو أو أهله أصول ما يأتي وما يذهب! أيسألها ليرى إن كانت قنوعة أم تُمثل ذلك أمامه؟! أم ترى هذا السؤال آتٍ من آخرين وهو مجرد ناقل فقط؟ اقتحم لسانها الموقف وهي ترد بصدق تام:
- حقيقي أنا مش عارفة، لا أعرف إيه اللي بييجي ولا إيه اللي بيروح.
- بسيطة، هبقى أسألهم عندي هنا ونشوف.
تبدل الحوار لآخر حتى أخبرها عمر أنه سيكون في زيارتها اليوم التالي، انتهى بينهما الحديث عند هذا الحد، لكن التفكير بما حدث لم يُفارق ذهنها، حتى غاصت في نوم عميق سحبها عنوة من أفكار أرقتها كثيرًا.
------*------*------
استيقظت أنفال بعد أن داعبت أشعة الشمس جفنيها، انتفضت تشهق حينما رأت الصبح قد تسلل من بين ستائر الغرفة، لقد أضاعت الفجر! كيف للخالة ألا توقظها لأداء الفجر ككل يوم؟ وكيف نامت هي دون شعور لا بالوقت ولا بالمكان! تلفتت حولها تتذكر الليلة الماضية، هي في غرفتها الآن، في المكان الذي لطالما شعرت فيه بالسكينة والأمان اللذان انتُزِعا منها دون ذنب ولا حتى دراية لسبب، نظرت تجاه الحقيبة الفارغة، لقد رتبت الخالة أغراضها، هل هذا يعني إقامة أبدية هنا؟ كيف ستتعامل؟ وكيف ستقدر على العيش مع رجل تمنت لو ألقت بنفسها بين أحضانه طيلة هذا العمر الماضي، بينما في الواقع حينما رأته خشيته! لن تتمكن من تجاوز تلك الذكرى الأخيرة له والمحفورة بدقة في ذاكرتها، وهذا سيبقى حاجزًا قويًا بينها وبينه، هذا لو تأقلمت معه أصلًا.
نفضت عن جسدها خموله وهي ترفع الغطاء عنها، ثم ولجت لدورة المياه، توضأت وخرجت مرتدية عباءة الصلاة، وقفت تجاه القبلة رافعة يديها بالتكبير، مشهد مماثل لهذا رأته رزان قبل سنوات عديدة مرت كأنها أيام معدودات، الطفلة الصغيرة تنوي الصلاة، ثم تقف على سجادتها مؤدية فرضها بكل حرص وهدوء، يا للأيام ومكرها! هكذا غمغمت رزان بينها وبين نفسها وهي تقف عند الباب المفتوح منه شق يسمح لها بالنظر من خلاله، ابتعدت وهي تسحب شهيقًا مع إطلاقها زفير قوي تهدئ به من نفسها، لا بد من أن تُصلِح ما فسُد بهذا البيت، لا بد من أن تُعيد تجميع أسرة منَّ الله عليها بها بعدما تسلم أمانتي ابنها وزوجها، لا بد وأن تحيا الحياة دون صعوبات، فما مر لا يجب أن يؤثر فيما هو آت، كل أوان فائت ميت، وهذا ما يجب أن تذكر نفسها به جيدًا.
طرقت الباب وولجت، فرأت أنفال تُسلِّم عن شمال، ابتسمت لها وهي تتابع خطواتها إلى الفراش الذي رُتِّب قبل أن تلِج أنفال لدورة المياه، ناظرت الفتاة وهي تضع سجادتها في مكانها، ثم جلست مقابل رزان في صمت، لا تعلم ماذا تقول، ولا كيف تتصرف، تود السؤال عن الخالة منال لكنها لا تعرف طريقة السؤال!
قطعت رزان الصمت بينهما وهي تقول ببسمة هادئة:
- فاكراني يا أنفال؟
توترت عينا أنفال وهي تنظر في كل اتجاه عدا موضع جلوس رزان، ردت في هدوء محاولة أن تبدو ثابتة:
- آه طبعًا...
قطعت قولها، لكن فجأة قررت وصله بحديث آخر، فتابعت:
- خالتي منال معاها صور ليكِ ولبابـ...
توقفت عن الحديث فجأة غير قادرة على نطق الكلمة، حينما كانت جاهلة عنه كل شيء كانت تنطقها بحنين، الآن الخوف يلازمها مع نطقها لها... تحدثت رزان تقطع عليها شرودها في ماضٍ سحيق:
- كلنا كان غصب عننا اللي عشناه يا أنفال، ومصطفى.. مصطفى أكتر واحد جت الدنيا عليه بيننا...
نظرت ليديها المعقودتين على حجرها، ثم تابعت حديثها:
- عارفة يا أنفال؟ أنا كان عندي ابن زي القمر، عيونه بس لما كنت أبص لهم أحس إن الدنيا كلها بتضحك.
ترقرقت أعينها بالدموع، شعرت أنفال بالألم يغزو قلبها، لا تدري لذلك سببًا، لكن رؤيتها بهذا الضعف بعد أن كانت تظنها باردة المشاعر ومتجمدة في نفسها- أوجعتها كثيرًا، لم تمتلك من أمر الرد شيئًا، لكن رزان لم تصمت لوقت طويل أيضًا، حيث قالت والدموع تتراقص فوق جفنيها:
- ما عشتش معاه غير عشر سنين، عشر سنين من عمره كان بيكبرهم قدام عيني سنة بسنة ويوم بيوم، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، وكان جوزي راجل طيب وحنين وعلى نياته، كان بيحبني وبيخاف عليا، وكان دايما يحاول يطمني إن كل حاجة هتبقى كويسة وبخير، بس ما فيش أي حاجة كانت كويسة، ولا في أي حاجة بقت بخير، حتى أنا ما بقتش بخير.
هنا وركضت الدموع، هنا وانسل خنجر الذكريات يطعن كل جوارحها وهي تتذكر كيف استقبلت خبر رحيل زوجها وابنها عن الحياة، قالت:
- حادثة، حادثة خلت حياتي اتقلبت مية وتمانين درجة، حادثة خلتني لآخر عمري مش هسمع كلمة ماما من لسان آدم، حادثة حرمتني صوت ضحكته لما ييجي عليا بهدوء عشان يخضني، حادثة قتلت كل الحلو اللي فيا ودمرت قلبي وروحي وكياني، والناس ما رحمتنيش بعدهم، واللي جم عليا دول ما كانوش أي حد، لأ دول أهلي، أهلي اللي من بعد جوازي من ابنهم وبقيت على اسمهم بقوا كل أهلي، لكن هما ولا مرة حسسوني إني بنتهم...
حاولت التحكم بنفسها لكن الجرح أعمق من أن تستطيع إيقاف نزفه، تسربت الحروف عن لسانها تفيض بما اعتمل الروح كل هذه السنوات:
- عشت من بعدهم في نار الاتهام، اتهموني إني السبب في موت ابنهم وابني، وبدأوا يدمروا شغلي عشان ينتقموا مني، عشت حياة صعبة، ووقت أصعب، واتهامات أصعب وأصعب.. لحد ما قابلت أبوكِ.. آه جوازنا ما كانش عن حب، ولا عن راحة، ولا كان له أي معنى غير إني أكون واجهة اجتماعية ليه وهو يكون نجاتي من اتهاماتهم وظلمهم ليا، لكن كانت المفاجأة إن حتى الراجل اللي اتجوزته ده فيه في حياته متاعب.. كان متجوز قبلي ست مالية دنيته وحياته وقلبه وروحه، وكان وفي ليها لأبعد حد...
ابتسمت ابتسامة مرهقة، شعرت بألم في معدتها وآخر في نهاية ظهرها، لكن لا.. لن تتوقف عند هذا الحد، لا بد أن تُكمِل الحكاية، فلربما ما بقي في العمر بقية لإتمامها، إنها لامرأة على وشك كسر حاجز الخمسين، تحمل في أحشائها طفلًا نتج عن ليلة هوجاء صعبة، ويصاحب الطفل ورم يهدد حياته وحياتها، فإلى أي مستقبل تنوي البوح! لينتهي كل شيء الآن، ثم ليحدث ما يحدث.. تابعت بعد أن أزالت بقايا دموع عن وجهها:
- كان عنده بنوتة زي القمر، ملامحها لوحدها كفيلة تخلي اللي يشوفها يقع في حبها...
ابتسمت بحب حقيقي وهي تتابع بكل صدق:
- ولو آدم كان معايا كنت تمنيتها ليه.
رمشت أنفال سريعًا حتى انتبهت للموقف، فأنزلت وجهها أرضًا في خجل، تابعت رزان وهي تربت على فخذ أنفال:
- وفي نفس السن اللي فقدت فيه ابني انكتب على مصطفى يفقدك، حدوتة سيئة ألفوها ناس كارهين الخير لحياة أبوكِ، حدوتة رخيصة أوي اتعملت ضدكم عشان تفرقكم، هما آه نجحوا يفرقوكم عن بعض، بس ما قدروش يخبوا كذبتهم للنهاية، عشان ربنا عمره ما رضي بالظلم لحد.
أمسكت بيد أنفال التي تنظر لها بترقب منتظرة باقي الحديث، لم تُطِل عليها رزان، فراحت تقول بهدوء:
- الحدوتة دي مش هتفهميها كويس غير لما تكبري وترتبطي بالإنسان اللي يقدرك ويحبك وتحبيه، وقتها بس هتجري على أبوكِ تحضنيه حضن كله أسف على الأيام اللي عدت دي.
جذبت يد أنفال إليها وهي تطلب منها برجاء:
- ادي له فرصة، فرصة بس يثبت لك إنه وفي ليكِ ولوالدتك قبلك، ادي.. ادي له فرصة يـ... يـ...
تقطع قولها، لم تعد تتحمل هذا الألم، خرج عنها تأوه ثقيل، انتفضت أنفال في رعب من مظهرها الذي تبدل فجأة، حاولت رزان التماسك لكن صوتها زام في ألم تحاول كتمانه، وما لبثت أن ساعدتها أنفال على الوقوف حتى سقطت أرضًا بعد أن أطلقت آهة بطعم الاستسلام.
اتسعت أعين أنفال وهي ترى بقعة الدماء من أسفل رزان، الدماء تركض كأنها ذبيحة، صدمتها للمشهد جعلتها تتصلب لدقيقة قبل أن تنطلق عن حنجرتها صرخة تنادي بها أبيها، بقيت تصرخ باسمه وهي تركض من الغرفة إلى المكتب، قابلها عند الباب وقد شحب وجهه من الخوف والفزع، وقد تزامن صراخها مع دخول نعيم من الباب، قالت أنفال أن رزان غارقة في دمائها بغرفتها، لم ينتظر نعيم، واتخذ الغرفة وجهته، وصلها، ومن نظرة واحدة للموقف استوعب أنه غير قادر على تحريكها، فأي خطأ قد يُفقدهم حياة أحد الاثنين، إما رزان أو ابنها، وربما كلاهما..
أنت تقرأ
أنفال
General Fictionمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...