الفصل الثاني والعشرون

508 45 3
                                    

(الفصل الثاني والعشرون)

ولجت من باب البيت الكبير وبداخلها رهبة كبيرة من المكان، أتعبها السفر، لكنها لم تبالِ له قدر مبالاتها بمعرفة مصيرها الذي هي مقبلة عليه بكل هدوء وصمت، ما إن دخلت صحبة الرجل الذي علمت أن اسمه نعيم حتى رأت أنفال تأتيها شبه راكضة، شعرت أن الانتعاش زار صدرها المثقل بأحماله، لم تدرِ بقدمها وهي تركض تجاه أنفال التي استقبلتها بذراعين مفتوحين، احتضنا بعضهما بشوق كبير، كأن ما بينهما أكبر من أن ينطقه لسان أو يصفه شعور، لقد بقيت أنفال وقتما رحل الجميع، وهذا ما جعل سارة تشعر أن الروح دبت فيها من جديد، ابتعدتا عن بعضهما فتبين للجميع دموعهما، تخطت رزان الواقفين وهي تجلس القرفصاء أمام سارة مرحبا بها، لم تبدِ سارة أي رد فعل، فلم تحاول رزان اجتذاب حديثها، وقفت وهي تقدم الشكر لنعيم الذي ابتسم لها مومئًا، علام تشكره! كل سعيه الأن ليس إلا طمعًا في سماح مصطفى له، لم يحدث بينهما أي عتاب، وهذا الأمر أرهق نعيم كثيرًا، ما دام مصطفى لم يُعاتب فهو لم يصفح بعد.

أخذت أنفال سارة ودخلت للبيت كي تُعرفها على أركانه، بينما استضافت رزان نعيم في حديقة البيت، قالت
-مصطفى على وصول، راح ينهي كل أوراق أنفال ودروسها عشان تستعد للسنة الأخيرة...
أكملت متسائلة:
-ازاي خلصت أوراقها بالسرعة دي؟ وازاي أصلا هي في دار رعاية مش مستشفى نفسي، وإيه حكايتها.

تنهد نعيم وهو يسرد عليها قصة سارة كاملة، وكيف أن سيدة مُسنَّة كانت في زيارة للحي الذي كانت فيه سارة هذا الوقت بصحبة أهلها، تلك السيدة كانت تأتي كل شهر لترى احتياجات أحد البيوت هناك من مأكل ومشرب وخلافه، كانت على صلة جيدة بهم فقد ساعدوها ذات يوم بينما كانت في مشفى ما مريضة، وقد رأت حالة سارة التي كانت تصرخ دون هدنة لحنجرتها حتى فقدت وعيها بينهم، جعلت سائقها يحملها وانتقلت بها للمشفى، وهناك أخبروها أنها تعرضت لصدمة قوية، وأنهم بحاجة لانتظار استيقاظها لمعرفة نتيجة تلك الصدمة عليها، وحينما استفاقت سارة كانت فاقدة للنطق وللتفاعل.
لم يكن لتلك السيدة أحدًا غير حفيدتها التي تعمل بدار أيتام، أوصتها على الفتاة، ولأن تلك السيدة لها وسائط عِدَّة فقد سارت الأمور كما خططت لها، لم تُرِد للفتاة أن تحيا بمشفى نفسي، وبعد خروجها منه تكتشف أنها عارية الأهل، أرادت أن تضمن لها حياة هادئة بسيطة، تتابع فيها تعليمها، ولربما استطاعت أن تُعالج ذاتها بذاتها.

كانت رزان تبكي وهي تسمع قصة الفتاة، لقد مرت بالكثير في فترة قصيرة، وهو أكبر من عمرها وحجمها ومشاعرها، تابع نعيم:
-لما سألت عنها حفيدة الست دي قالت إنها خصصت لها واحدة تشرف عليها في الدراسة وكل حاجة تخصها، بس الست دي توفت من شهرين، وكانت وصيتها لحفيدتها تحافظ على سارة في أمان.
أومأت رزان بتأثر وهي تضيف:
-فيها الخير، ربنا يرحمها ويغفر لها، عملت عمل عظيم ربنا يجازيها خير عليه.
انتبه نعيم لتغير نبرة رزان الثابتة القوية لنبرة أخرى لينة هينة، كما انتبه لذاك الحجاب الذي ترتديه، عقد بين حاجبيه، لكنه لم يتحدث، فقط اكتفي بالسؤال عن مصطفى وإن كان سيتأخر، نظرت في ساعة معصمها قبل أن ترفع كتفيها جهلًا وهي ترد:
-مش عارفة، بس هو اتأخر فعلا.

أنفالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن