الفصل الثاني

1K 64 9
                                    

(الفصل الثاني)

أشرقت بُنيتيها تناظر المكان الغريب من حولها، خوفها جعلها تسقط في شبه غيبوبة نوم، أو هي ثقيلة النوم في الطبيعي، لكن هذه المرة ثِقَل نومها فاق المعقول، هل تم نقلها من مكان لآخر دون أن تشعر بذلك أو تستيقظ مرة على الأقل! الغرفة تبدو غرفة كِبار، لا صوت في المكان أيضًا، اعتادت أصوات عصافير الكناري التي ترافق شرفتها، وصوت مواء القطة البيضاء وهي تلعب مع سلحفتها الصغيرة داخل بيتهما الزجاجي الذي يحتل ركن غرفتها، استعادت كامل تركيزها ما إن رأت منال تدخل من الباب، قفزت إليها تحتضنها بقوة كأنها ترجوها الحماية والأمان، وقد استطاعت منال بكل بساطة أن تهبها ما توده، أخذت بيدها وخرجت بها إلى صالة الاستقبال الكبيرة والتي انتهت منذ قليل من ترتيبها وإزالة غبارها، جلست بها إلى المقعد وأخذت تداعب خصلاتها بحنان، تحدثت الصغيرة تقطع الصمت المطبق:
- احنا فين يا خالتي؟

- في شقة جديدة يا حبيبتي، هنفضل مع بعض هنا شوية.
- وإمتى هنرجع البيت؟
ها هو السؤال الذي لا تملك إجابته، لكن ما باليد حيلة، أجابت محاولة إنهاء أي سبيل لسؤال آخر:
- هنلعب كتير هنا، هنتفرج على كارتون، وهنشتري أدوات ونعمل آيس كريم كمان بأمر الله، امممم... إيه رأيك نعمل بيتزا؟

- يلا.
صاحت بها الصغيرة مهللة مما جعل منال تزفر هواءً يحمل بعض الراحة المؤقتة، ثم تحركت مسرعة وهي تمسك بيد الطفلة إلى المطبخ.

أخذهما الوقت بين اللهو وصنع الطعام، ثم تناولا ما صنعاه بنهم والفرحة تملأ تقاسيم الصغيرة مما أضفى على قلب منال بعض الارتياح والبهجة لحال تلك الجميلة المُهمَلة، لكن لا راحة تدوم، ولا هناء يستمر، طرقات الباب اخترقت وقتهما الممتع، لتتحرك منال في قلق تجاه الباب ترى من الطارق، رحبت في توتر بالسيدة رزان التي بدا وجهها ممتقعًا للغاية، ازدردت ريقًا قلقًا وهي تسألها عما إذا كان هناك أي تطورات، جلست رزان إلى جوار مقعد الصغيرة مشيرة بعينها إليها، ففهمت تنحنح منال قبل أن تجذب الفتاة من يدها بلطف قائلة:
- إيه رأيك يا حبيبتي تدوري على الكارتون اللي بنحبه على شاشة الأوضة، وأنا هعمل الفشار عشان نسهر شوية عما عمو محمد ييجي.

أومأت الصغيرة باحترام قبل أن تغادرهما، لطالما اعتادت منذ مدة على احترام كلمة الكبار، وعلى عدم التراخي في مطلب لهم، كما أنها تلتزم كل الهدوء والصمت أمام الغرباء، ربما رزان ليست بغريبة، لكنها ليست أيضًا بالقريبة! هي زوجة أبيها، وشريكته في العمل، وهذا كل ما تعرفه عنها، لا حديث يُقام بينهما ولا تعامل، كأن كل واحدة في عالم غير الأخرى، هي لا تبغضها، لكنها لا تحبها كذلك، فلا حب ينشأ داخل قلب طفل إلا إذا قدمت له معونة النظر إليك بقلبه، وهذا ما لم تنجح أو تحاول حتى رزان فعله، تحشر ذاتها داخل ركن الصمت بقلبها وأفعالها، فتشمل حياتها البيت للنوم والشركة للعمل وصالة الرياضة أحيانًا للحفاظ على جسد صحي، أما الصغيرة فبرغم أنها ابنة زوجها إلا أنها لا تعنيها! وهذا ما تعلمه أنفال جيدًا كطفلة ذات حدس واستشعار حساس بمن حولها.

جلست منال مقابل رزان تنتظر حديثها، فبادرت رزان وهي تعقد أصابعها معًا:
- مصطفى رافض رجوع أنفال البيت، وجدها على آخره من والدتها، ورفض كفالتها ورفض حتى يشوفها.

الصدمة كلمة قليلة أمام ما تشعر به منال الآن تجاه الحقيقة المؤلمة، أرادت أن تسأل عن مصير الفتاة، لكن لسانها انعقد وهي تستمع لمتابعة القول من رزان التي رشقت المتبقي من حديثها موضحة:
- هودي أنفال لأفضل مؤسسة رعاية في مصر.

كانت على وشك التحدث، لكن رزان تابعت مقاطعة أي فرصة لحديثها:
- مش هسمح لمصطفى يتعرض لبنت صغيرة ما لهاش حول ولا قوة، ولا هسيب فرصة لجدها اللي ما عندوش رحمة يبص لها بشماتة بسبب اللي عملته أمها، ما ينفعش أنفال تشيل غلط أمها وتتحاسب عليه، دي الطريقة اللي أقدر أضمن بيها مستقبل البنت، ههتم باللي هتحتاجه طول فترة إقامتها في الدار من غير ما مصطفى يعرف...
قطعت قولها وهي ترمق منال بشبه تحذير:
- وده معناه إن ما حدش غيرك يعرف يا منال.

لم تستطع منال التحدث بكلمة، كل ما تراءى لها في هذه اللحظة يوم أن صفعها الطبيب بلسان حقيقة عدم قدرتها على الإنجاب لعيوب خلقية في رحمها، تبع الحقيقة محاولاتها أن تجعل زوجها يتزوج من أخرى ليُنجب، فما كان منه إلا أن رد بيقين:
- أنا راضي بقضاء ربنا ونصيبي يا منال، دي إرادته ودي حكمته، أنتِ بنتي ومراتي وكل اللي عايزه من الدنيا، أنا رزقي من ربنا كله فيكِ يا منال، وبعدين ما فكرتيش في الحكمة من كده؟ أنا عامل على قدي، نجيب عيل يركبه الفقر والحاجة وما نقدرش نوفر له اللي محتاجه؟ ارضي يا منال، ارضي وادعي ربنا دايما بالصالح لينا، عمره ما يخذلنا يا بنت الناس.

لم تنسَ أيًا مما قال، حديثه محفور بالنص في ذاكرتها، أهي استجابة الله لدعائهما بالخير والصلاح؟ أهو عوض الله عن سنين الصبر الطوال؟

قطع عليها شرودها وقوف رزان التي تحدثت وهي متجهة ناحية الباب:
- يومين بس هتفضلوهم مع البنت، هخلص اللازم كله وأكلمك.
وقفت فجأة واستدارت إلى منال التي تناظرها بتيه، دست يدها في جيب حقيبتها، ثم قدمت لمنال بعض المال وهي تتابع:
- دول عشان وقفتكم دلوقتي يا منال، وعشان ما تخلوهاش محتاجة حاجة اليومين دول. وبجد أنا متشكرة.

غادرت رزان وأغلقت الباب خلفها، ابتسمت منال بقلة حيلة من أمر هذه المرأة، لو لم تقدم الشكر في نهاية حديثها لشعرت منال بالإهانة. رغم شعورها بالارتياح تجاهها، إلا أن بعض الأحيان تُحَتِّم عليها أن تحذر منها، فهي غاية في اللطف، وغاية في الغموض المخيف كذلك!

تنهدت وعادت أدراجها للفتاة، جلستا تتابعان الشاشة حينًا، ثم بدأتا بمراجعة ما حفظته أنفال من قرآن، ولما حانت العشاء ركضت أنفال تنادي الخالة منال كي تصلي بها، اعتذرت الخالة وهي تقول:
- صلي أنتِ يا حبيبتي.. بأمر الله هصلي معاكِ بعدين.
فهمت أنفال أن الخالة امتنعت عن الصلاة بأمر من الله، هكذا علمتها، وأخبرتها أنه حينما تمتنع هي الأخرى عن الصلاة بأمر من الله ستكون بداية نضجها، وفي هذا الحين ستتحول من طفلة صغيرة لفتاة شابة.

وقفت إلى سجادتها، واستحضرت نيتها وهي تردد:
- اللهم إني نويت صلاة العشاء.

أدت فرضها وجلست تُسبح، فإذا بالخالة منال تجلس أمامها مبتسمة، رفعت عينيها وردت ابتسامتها، تحدثت منال وهي تمسك بيدها:
- أنتِ ليه بترفعي صوتك وأنتِ بتنوي الصلاة؟

دارت أنفال بعينيها في المكان ثم أجابت بهدوء:
- عشان أكون استحضرت النية، مش أنتِ علمتيني أقدم النية في الصلاة؟
ابتسمت لها منال وهي توضح موبخة نفسها لكونها أعطت الفتاة معلومة منقوصة:
- بصي يا حبيبتي.. المقصد من كلامي هو إن قلبك دايما يكون متعلق بالله، في الضيق والفرج والحاجة والعبادة تلاقي قلبك بيقول "يا رب"، مجرد إنك قمتِ عشان تصلي فرضك فدي نية صلاة، الراجل لما يتوضى ويطلع من بيته للمسجد عشان صلاة الجمعة ويقف في الصف دي في حد ذاتها نية صلاة، فأنا كان قصدي كله بإنك تقدمي النية هو إنك تكوني عارفة ليه بتعملي كده. فهمتيني يا حبيبتي؟

- فهمت.
قالتها أنفال وهي تومئ برأسها، ثم عادت تسأل:
- طب وإيه المشكلة برضو لو رفعت صوتي بالنية؟

- حصل عليها خلافات بين علماء الدين، جماعة منهم استحبوا إننا نقول النية في الصلاة بصوت، وجماعة تانية ما استحبوهاش، وجماعة تالتة قالوا إن الجهر بالنية ممكن يوصل الإنسان للوسوسة، يعني تقفي كده في نص الصلاة وتلاقي عقلك بيقول لك فجأة "هو أنتِ نويتِ الصلاة قبل ما تصلي؟" وده يخليكي تنشغلي عن الصلاة نفسها.

- طب والناس اللي بيقولوا الحاجات دي بيعرفوا الصح من الغلط ازاي؟
هكذا ألقت بسؤالها طمعًا في زيادة، لطالما أحبت الأوقات التي تبدأ الخالة فيها بالحديث عن الدين والحلال والحرام، ولأن منال على علم بأن الفتاة تمتلك عقلًا نيرًا وقلبًا نقيًا ردت بحب:
- كل جماعة منهم ليها اجتهاداتها طبعا وأدلتها، بس كلهم اجتمعوا على إن النية لو كانت بالقلب فهي صحيحة، يعني أنتِ سمعتِ الأذان، وقمتِ عشان تتوضي، ووقفتِ تصلي، وبدأتِ الله أكبر، هل ده ليه معنى تاني غير إنك نويتِ الصلاة؟

نفت أنفال فابتسمت منال وهي تختم قولها:
- عشان كده بننوي بالقلب، عشان نمنع الوسواس من جهة، وعشان تبقى النية خالصة لله سبحانه وتعالى، لأن ربنا مطلع على القلوب وعارف اللي فيها وعارف نواياها.

أومأت أنفال في رضا تام عما حصلت عليه اليوم، وبهذا فقد زاد قدر الخالة عندها درجة جديدة، هذه السيدة تشغل بقلبها مقامًا لم يصله أحد قبلها، ولن يفعل أحدهم بعدها.

------*------*------

- أقف بقا بطل خايلة، أنا دوخت بسببك.
قالها نعيم وهو يطالع إحدى المجلات الخاصة بتصاميم القرى السياحية الجديدة، بينما توقف مصطفى عن الحركة بطريقة مفتعلة وهو يهدر فيه:
- أنت مش حاسس بحاجة، مش حاسس بالنار اللي في قلبي يا نعيم، دوخت بسبب حركتي حواليك، أُمال حالي أنا عامل إيه!

- سمعت صوت نفسك يا مصطفى؟ أنت بتتكلم عن نار بتنهش في قلبك بسبب حبك لست ما تستحقش الحب، طب يا مصطفى.. الست دي طعنتك في شرفك ورجولتك، إيه رأيك لو تحط نار قلبك منها على جنب دلوقتي وتفكر شوية في كرامتك ورجولتك اللي اتمرمغوا في التراب بسبب الزفت قلبك اللي ما سمعليش زمان؟
كانت نبرة نعيم هادئة في البداية، وكلما انتقل بحديثه علَت نبرته وانتفضت عروق وجهه بارزة حتى احمر وجهه الأبيض مع آخر كلماته ملقيًا بمجلته على طول ذراعه مع وقوفه المفاجئ بوجه مصطفى، كلاهما يتنفسان أنفاسًا لاهثة، أعينهما تطالع بعضها بحديث طويل صامت.

الكثير من الذكريات تقتحم المكان مسببة أوجاعًا مؤلمة لكليهما، لطالما كانا صديقين مقربين منذ كانا في الابتدائية، كبرا معًا، وعاشا الحلو والمر على قلب رجل واحد، أعمالهما رغم اختلافها إلا أنهما يتشاوران في كل كبيرة وصغيرة تخصها، أحدهما يملك شركة استثمارات ضخمة، والثاني مهندس وضيء السمعة، من يراهما معًا يظنهما إخوة من رحم أم واحد، لكنهما إخوة من رحم الحياة ودم الصعاب ونبض الأفراح، كل هذا الجمال الذي كان يحاوط علاقتهما تحول لأبشع الكوابيس، ولا سبب في ذلك غير عضلة شعور غبية، تتحرك دون إرادة المرء لأناس لا يحملون الحب على أكف قلوبهم بحرص وعناية، الكثير من العتاب يحوم حول جسديهما، ورغبة ملحة في عناق أخوي يفقدهما ذكريات مرحلة ما من العمر، لكن سقوط مصطفى على مقعده حال دون ذلك.

استفاق نعيم من دوامة البؤس هذه، أخذ يمسد بين عينيه في إرهاق وتعب، زفر زفرة قوية يطرد فيها ما يجيش بصدره من متاعب، ثم أخذ شهيقًا نقيًا كي يبرد نيران صدره، تحدث من جديد بصوت خافت:
- سيب البنت لجدها، ما تجيش جنبها يا مصطفى، هي في النهاية ما لهاش دعوة باللي عملته أمها، ويا ريت ما تدورش في الماضي كتير، بعض الحاجات أفضل لها تفضل مدفونة يا صاحبي.

تحرك بقدمين مثقلتين إلى مصطفى، ثم مسد كتفه بحركة اعتاداها منذ الصغر، وتابع قوله:
- اتحرر بس من كل الضغوط اللي على أكتافك دي، عارف إن الموضوع أصعب من إنك تخطيه، بس ما فيش غير إنك فعلا تخطيه وتشوف حياتك وتهتم بالست اللي بتنطفي يوم عن يوم جنبك دي.

ابتلع مصطفى لعابه وهو يومئ برأسه، الجميع يدعوه للتماسك والمُضي، الجميع يملك نفس النصائح والوصايا، لكن من ذا الذي يفكر لدقائق فقط في وضع نفسه محله؟ لا أحد يستطيع أن يشعر بما تعانيه غير قلبك المسكين.

أخذت الأيام تمضي، والأعباء تُثقِل الكاهل، والاشتياق يفيض على قلوب تعلقت بمن لم يكونوا منهم يومًا، التفكير يكاد يتسبب في شلل دماغي له، يطالع غرفة الصغيرة التي تشبه في رائحتها رائحة الراحلة عن عالمه الحي، الساكنة في أعمق نقطة من الذكريات داخل دماغه وقلبه، يتذكر ضحكاتها مع منال، واعتراضها على النوم من أجل سماع قصة جديدة، ألعابها المنظمة رغم أنها ما كانت تكف عن اللعب بهم، ومع ذلك فقد كانت مرتبة للغاية، لا يغمض لها جفن قبل أن تضع كل شيء في موضعه الصحيح، ستائر غرفتها المزينة بصورة الطفلة "بو"، رسومات الحائط الحاملة لشخصيات نفس الكارتون، إضافة للسنافر، دميتها التي لا تنام إلا وهي بين أحضانها، حبها اللامتناهي لعصير الليمون بالنعناع، وإصرارها على رؤية مكعبات الثلج داخل كوبها كي تشربه، عشقها للفطائر المغمسة بالزبد...

لقد اكتشف أنه يعلم الكثير من التفاصيل عن الصغيرة دون أن يعترف بذلك لنفسه، هل صدره يضخ اشتياقًا لها؟ لا.. بالتأكيد لا، كيف له أن يشتاق لها وهي من فصيلة دماء من خانته قبل مماتها، من تَقَوَّلت الأقاويل في حقها دون أن تفكر في الدفاع عن نفسها، وقد كان يظن ذلك قلة حيلة منها، لم يكن يتصور أن تكون الحقيقة المخجلة أبدًا.

يعترف أنه ما كان حانيًا على الصغيرة أو حتى قدم لها من عطف الأبوة شيئًا، انغماسه بالعمل من أجل نسيان الماضي أضاع حاضره، لكنه ليس بنادم على ذلك! فبعد ما عرفه هو ممتن لكل ثانية أخذها العمل منه بعيدًا عن طفلة لا تمت لاسمه بصلة.

- أنت كويس؟
صوت رزان القلقة عليه أعاده لواقع الغرفة التي يقف في منتصفها، آه من رزان التي تحمله على أكف السلام النفسي، سيدة أعمال مُشرفة، قوية وجادة، تتعامل بكل رسمية مع الجميع، ليس بالعمل فقط، حتى حياتهما بالبيت شبه رسمية تقريبًا، لكنه بكل عقله يعترف أنه سبب هذا كله، فمنذ رآها أول مرة بأحد الاجتماعات الخاصة بالشركة قرر أن يعرف عنها كل شيء، ليس حبًا، لكن ربما إعجابًا بشخصيتها اللامتهاونة، إضافة لأن والدته لم تكن تكف عن ترديد طلبها بمؤاخاة أنفال، مع المزيد من مدسوس الكلام الذي يؤثر بالسلب على عقلٍ سُخِّر بعد رحيل القلب للعمل وفقط!

عرف بعد تقصيه عن حياتها أنها أرملة لرجل فُقِد في حادث سير سيئ، كما أنها أم مكلومة لطفل لقي حتفه مع أبيه في نفس الحادث، إضافة لوجود مشاكل كثيرة تحاوطها من جهة أهل زوجها الراحل، ومع هذا كله فهي تعمل وتُثبت ذاتها وتشغل وقتها عن كل ما مرت به، امرأة بصلابتها وأسلوبها تصح كوجهة اجتماعية جيدة جدًا، ما حَسَبَ للحب مكانًا بينهما، حتى بعد زواجه منها، كل ما بينهما يُعَدُّ شيئًا عاديًا، كسُنة حياة تُقام، أو تلبية لنداء الطبيعة البشرية التي خُلقنا عليها.

استمر زواجهما لثلاث سنوات، وفي خلالها لم يحدث بينهما ما يُذكر، من العمل للعمل ثم العمل والبيت، لا جديد في حياتهما ولا روح فيها، بعض المواقف العادية التي تجعل كل منهما يؤدي دوره في حياة الآخر، وما إن ينقضي الموقف يعود كل منهما لعاديته!

- مصطفى!
صوتها أخرجه من شروده في النظر إليها، نفض رأسه سريعًا وهو يتنحنح مُجليًا حنجرته، ثم تحرك للخارج وهو يقول بهدوء:
- بخير يا رزان، أنا.. أنا بس بعاين الأوضة، بشوف ممكن نستغلها في إيه.

غادر المكان لتنظر في أثره بحزن، يكذب حتى على نفسه، ما عاد يهمها أن يهتم لها أحدهم وإن كان زوجها، ما يهمها فقط أن يمر اليوم دون ضغوط خارج العمل، حتى أمر أنفال أتى على وجيعة لها، طفلها الذي خسرته كان يماثلها في العمر وقت موته، وقد صادف ما فعلته بأنفال وقت فقدانها لابنها، دموع الحنين والاشتياق له انهالت عن جفنيها، ولهيب الذكريات اشتعل داخل القلب، لكنها نفضت رأسها سريعًا وخرجت من المكان، أحيانًا الهروب من النفس يكون وسيلة يسيرة لراحة البال.

------*------*------


"بعض الأحزان لا تُنطق ولا تُكتب، هي فقط تُدفن في أعمق نقطة من القلب، ليس خوفًا من البوح، بل خشية ألا تُقدَّر."

هكذا نقشت أحرفها فوق وريقاتها التي لا تفارقها مُذ حلَّت ساكنة لهذا المكان الذي هو في بنيانه بيتًا، بينما في أصله سجنًا لا تعلم سبب زجها فيه!

أصبحت مهووسة كتابة وقراءة في سن صغيرة، وبات القلم والورقة هما عالمها الذي تنأى عن الدنيا بهما وإليهما، وكلما صادف وقرأت ما تكتبه إحدى زميلاتها تطعنها بخنجر الإبداع! الجميع يظن الكاتب محظوظ لامتلاكه مَلَكَةُ الكِتابة؟ والجميع مخطئ جدًا في الواقع، الكاتب هو شخص يشوه وريقاته كل يوم بندباته الدامية، ثم يعرضها على جمهوره العريق فيخبرونه بكل لطافة "كم أنت مبدع"! فتعود كلماتهم بصداها في روح الكاتب، ثم يبتسم ساخرًا وهو يقول في حال ذاته: هذا ليس إبداعًا أعزائي القُراء، هذه روحي المتوجعة تشكو حالها. وكلما كان الوجع أعمق كلما زاد الكاتب إبداعًا..

لقد عاشت لسنوات لا تذكر عددها بين جدران بيت كبير يُعد قصرًا في أحد الأحياء الراقية بالإسكندرية، ثم ما لبست أن انتقلت إلى بيت أقل اتساعًا دون حديقة غناء أو حمام سباحة، لم يستغرق مكوثها في هذا البيت أكثر من أسبوع على ما تذكُر! وانتقلت أخيرًا لبيت صغير بالقاهرة في أحد الأحياء الشعبية، مكون من غرفتين صغيرتين، تسكن هي إحداهما، وتسكن خالتها وزوجها الأخرى، إضافة لصالة استقبال بسيطة الأثاث، مع مطبخ ودورة مياه جيدة إلى حد ما، في الأصل ليس بالسوء الذي يجعلها تبغض الحياة فيه، لكنها تتألم من فكرة عدم إدراكها لما يدور حولها، وسبب مجيئها إلى هنا دونًا عن بيتها الكبير الذي نشأت فيه، كل ما تذكره من سالف حياتها أنها كانت تحيا بجنة البيت المحاط بالأخضر، تلهو معها امرأة بذلت كل ما لديها من عطف وحنان لتعوضها أمها، تحاول أن تتذكر مواقف فاصلة لأبيها، لكن وكأن ذاكرتها الصغيرة أرادت أن ترحمها من بلوغها الاشتياق والعتاب على أبيها الذي تركها لهذا المصير.

في نقطة ما من ذاكرتها يأتي وميض قوي يذكرها بلحظة غضب جنونية اجتاحت والدها، غريب أن كل شيء بعد هذه اللحظة غير مسجل في ذاكرتها، كأن أحدهم قام بإزالة ما يخص هذا الموقف بالتحديد، وهذا ما يجعلها في تيه من أمرها، ولم تجرؤ يومًا أن تسأل الخالة عما يؤرقها، فحنانها وعطفها يجعلانها تخجل من أن تتفوه بكلمة.

الأيام تمر ويعقبها الشهور فالسنوات، تدرس في مدرسة عامة، وها هي بالثانوية، صديقاتها المعدودات على أصابع اليد الواحدة لا تشكل موضع اهتمام بالنسبة لهم، مجرد فتاة بين مجموعة فتيات يذهبن ويعُدن من المدرسة ككتلة واحدة بحكم أنهم يقطنون في أبنية متجاورة، وبما أنها منطوية بعض الشيء فهي لا تسمح بتجاوز العلاقة بينها وبين إحداهن حد الدراسة والطريق من المدرسة وإليها، إلا جارة لها، تكبرها عمرًا، لكنها لطيفة للحد الذي يجعلها تتمنى لو استطاعت تجاوز حدود علاقتها بها، لكنها فضلت مراقبتها من بعيد، وأن تحبها في صمت.

مع كل ما يدور حولها فهي متفوقة دراسيًا، ولا تترك لنفسها فرصة تضييع الوقت فيما لا يُفيد، تنكب على مذاكرتها حينًا، والآخر تقرأ بنهم كتب ثقافية واجتماعية وبعضًا من الروايات التي استطاعت أن تقتنيها بمساعدة السيدة منال، تلك الأخيرة التي لا تدخر جهدًا إلا وبذلته لأجلها سواء في المذاكرة أو تهيئة حياة هادئة لها.

نفضت عنها شرودها ما إن سمعت وقع أقدام أمام الغرفة، انتفضت سريعًا تغلق الإضاءة الخافتة التي تكتب عليها، ومن ثم تدثرت في فراشها تدَّعي النوم لئلا تُمسك بها مربيتها، فعقاب استيقاظها لتلك الساعة المتأخرة سيكون حرمانها الكتابة والقراءة ليومين، وهذا ما لن تستطيع عليه تحملًا.

بزغت أضواء الصبح تعلن النشاط والهمة، خرجت من أجل تناول الإفطار مع مربيتها التي جهزت بدورها بعض الطعام الذي ستأخذه أنفال معها إلى المدرسة، وجدت زوج الخالة يشاركهما الإفطار، وهذا يحدث نادرًا نظير عمله المبكر، انتهت سريعًا مودعة السيدة منال بقبلة قبل أن تغادر إلى حيث ملتقى العلم، أنهت عددًا من حصصها الدراسية قبل أن تخرج للحديقة الملحقة بالمدرسة، وافترشت بفستانها الرسمي الذي يخص مرحلتها أرضية الحشائش، أخرجت طعامها وبدأت تأكل في صمت وهي تتابع حكايات الفتيات وأحاديثهن الجانبية عن المعلمات بالمدرسة.

لفت نظرها وجود فتاة ترتكن بعلبة طعامها الصغيرة إلى جانب منعزل بعض الشيء وحيدة، لا تنظر تجاه أحد، ولا تتحدث إلى أحد، فقط تناظر طعامها الذي تتناوله في بطء مميت، تراها لأول مرة، وهذا ما جعلها تذكر مرتها الأولى هنا، حيث بقيت منعزلة لوقت لا بأس به، لا تفعل شيئًا سوى أكل لقيمات تساعدها على متابعة اليوم والبكاء في صمت دون دموع. انتبهت لحديث فتاة تجاورها وهي تردد على مسامع الباقيات بصوت خافت:
- دي بنت من بنات الملجأ، جت مع دفعة من عشرين واحدة هيدرسوا هنا.

ردت أخرى في شفقة:
- حاجة توجع أوي لما تكون يتيمة، والأصعب إنها ما تكونش عارفة هي بنت مين أصلا، مسكينة يا عيني.

ترقرقت دمعة داخل أعين أنفال، قامت بإزالتها سريعًا وهي تحمل طعامها وتنتقل كي تجاور الفتاة، لكنها تعجبت لكونها لم ترفع عينيها لها، تنحنحت مجلية صوتها، ثم ألقت بالسلام، لكن لا رد، رفعت صوتها قليلًا تظن أنها لم تسمعها، لكنها لم تتلقَّ أي رد أيضًا، زفرت هواء رئتيها في صبر، ثم ناظرت الأرض بعينيها تخفي تجمع العبرات بهما وهي تلقي على مسمعها قولًا لم يسبق وتحدثت به إلى أحد:
- عارفة شعورك دلوقتي، بيننا شبه كبير في اللي خسرناه.

ابتلعت ريقًا محملًا بالكثير من الغصات المؤلمة، ثم تابعت القول:
- يمكن تكوني حاسة بالغربة، وممكن يوصل بيكِ الحال تسألي نفسك سؤال مالوش إجابة أبدًا "ليه أنا؟" بس ما تقلقيش صدقيني، وجودك بيننا هنا هينسيكِ شوية، بس حافظي على طبيعتك الداخلية، خليكِ أنتِ زي ما أنتِ وكل حاجة هتبقى كويسة.

رفعت عينيها للأعلى تبتلع عبراتها المريرة، ثم استنشقت هواءً عطرًا بالأزهار من حولها وهي تنطق من جديد:
- ممكن نكون أصحاب لو حابة.

نظرت تجاه الفتاة لتجد أنها لم تبدِ أي رد فعل، شعرت بالشفقة حيالها، لكنها تعجبت ذاتها وهي تفكر في الحال الذي هو من بعضه في الأصل، اقتربت بيدها في حذر تمسك بيد الفتاة، انتفضت الأخيرة دون صوت وهي تناظر أنفال بأعين تائهة، ألم تسمع أيًا مما قالت؟! بقيت أعين الفتاة معلقة بخاصة أنفال لبرهة من الوقت دون أي صوت من إحداهما، أتت إحدى المعلمات تنادي:
- سارة.

التفتت الفتاة على الصوت، إذن لقد سمعت ما قالته أنفال! اقتربت المعلمة واضعة يدها فوق كتف الفتاة فانتفضت مرة أخرى، تحدثت المعلمة مبتسمة:
- ما تخافيش يا حبيبتي.

التفتت المعلمة إلى أنفال وسألت مبتسمة:
- تعرفتوا على بعض؟

- حاولت أتكلم معاها بس...
قالتها كأنها تنفي عن نفسها تهمة ما، فقاطعتها المعلمة بهدوء تام:
- هي ما بتتكلمش.

انتفض قلب أنفال لها وهي تسمع قول المشرفة، لقد كانت على علم من مربيتها منال أن الأصم هو شخص لا يسمع ولا يتكلم، لكن التخاطب معه يكون بالإشارة كلغة خاصة بهم، كما أنهم جيدون في قراءة الشفاه، بالتأكيد جُرِح شعور سارة -كما نادتها المعلمة- وهي تفهم قول المعلمة عنها، ولكن لحظة! لقد استجابت سارة حينما سمعت اسمها من المشرفة! والأبكم أصم أيضًا! إذن كيف لا تتكلم سارة وبإمكانها السماع!

سحبتها المعلمة من تفكيرها وهي تسحب سارة معها لمكان ما، كانت أنفال على وشك سؤالها عن الوجهة، لكنها فضلت الصمت حاليًا لئلا تثير غضب المعلمة، المعلمات هنا رقيقات في المعاملة، لكنهن ما إن يغضبن يتحولن لأشرار بعيون حمراء، وهي لا ترغب أبدًا في أن تنال غضبًا من إحداهن، لذا فقد عادت لتناول طعامها ومتابعة أحاديث الفتيات دون المشاركة فيها.

------*------*------

يتبع....

أنفالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن