(الفصل السابع)
خرجت من الغرفة دون أن تتحدث مع إحدى أختيها، الأمر الذي بث التوتر بحق في قلبيهما منذ الأمس وأنفال على غير طبيعتها، صامتة طيلة اليوم، بالتأكيد هي ليست رافضة لعمر، فأمهما أكدت أنه ما دام هناك رؤية أخرى فهذا يعني أن الأمر وجيز، حاولت أهِلَّة أن تصرف عقلها عن التفكير بالأمر، لكن أفنان تحدثت فيه بقلق:
- تفتكري ممكن توافق عشان تخلص من زن العيلة وهي مش عايزاه أصلا؟
- هي مش صغيرة، بس لو هتعمل كده حقيقي فتبقى غبية والله، عشان كان قدامها الأحسن منه.
رفعت أفنان كتفيها بقلة حيلة، بينما أعادت أهِلَّة وضع سماعات الأذن تتابع سماعها للأغاني وهي تُحبِّر محاضرات المعهد.
بينما في الخارج.. فقد أفسحت الأسرة مجالًا لأنفال وعمر كي يتحدثان، حيث جلس الأب والأم أمام الباب مباشرة في مكان يتيح رؤية من بالداخل، وجلست أنفال على يمين عمر، ومجددًا لم توافيها جرأة النظر إليه، تعلم أن هذا حقها، لكن حياءها غلب عليها، سأل عمر عن الحال والأحوال، وبادلته السؤال، ثم ما لبثت أن تنحنحت تجلي حنجرتها قبل أن تقول بهدوء:
- المرة اللي فاتت سألتك عن رأيك في النقاب، قلت لي إنه لو كان فرض أطعنا فارضه، وإن كان سنة زدنا درجة للجنة، أنا النهار ده عايزة أقول لك إنه لو فيه بيننا نصيب بأمر الله فأنا حابة ألبسه.
صمتت لثواني تلتقط شهيقًا قبل أن تطلق الزفير مع متابعتها:
- وعن يقين وقناعة.
أومأ مبتسمًا لها، ثم أضاف:
- أنا هكون أكتر من سعيد لحاجة زي دي.
أومأت بدورها مع أخذها لشهيق طويل أخرجته مع باقي قولها:
- القراءة والكتابة هوايتي المفضلة، وتعتبر الوحيدة، فمش هقدر أبعد عن الكتابة تحت أي ظرف أو سبب.
صمت لدقيقة، استجمع سؤاله بداخل رأسه ثم أطلقه بهدوء:
- بتقدري توازني بين هواياتك ومسئولياتك؟
أجابت وهي ترفع كتفيها موضحة:
- أنا ما بعرفش أكتب وأنا ورايا حاجة عامة، لازم أكون مخلصة كل اللي ورايا عشان أعرف أكتب أو أقرأ بدماغ خالية من الأشغال.
- في الحالة دي أقدر أقول إني هساعدك عشان توصلي لحلمك بأمر الله.
ابتسم قلبها، وابتهجت روحها من جملته، على ما يبدو أن إحداهن وقعت فريسة للميل لأحدهم! تابعت آخر ما ودت قوله:
- الخطوبة.. لو بيننا نصيب بأمر الله ناوية ألتزم بالضوابط.
- طبعًا ده شرع ما فيش كلام.
بعد هذا الحديث بينهما عاد الأب وغادرت أنفال، تحدث عمر مباشرة:
- أنا يا عمي علاء عايز آخد من حضرتك موعد أجيب أهلي يعني وكده إذا سمحت.
- تشرفونا يا بني في أي وقت.
- التلات الجاي كويس؟
تعجب السيد علاء من تسرع عمر، وقد أعطاه ذلك انطباعًا أنه بعد ذلك لن يطلب فترة خطبة طويلة. اتفقا على الموعد. غادر عمر وفي قلبه شعور جديد، ليس بغريب في الواقع، لكنه مختلف.
------*------*------
تقابل وصديقه الجديد -أو الأوحد للدقة- حيث اتفقا، طلبا بعض المشويات من اللحوم، وجلسا ينتظران، تحدث يزيد أولًا:
- أنا حبيت أشكرك على موقفك معايا امبارح، حقيقي أنا...
- أنت كائن بيحب يُدان كده دايما ولا ده معايا أنا بس؟
سأل آدم مقاطعًا عليه قوله، فرد يزيد سؤاله بسؤال متعجب:
- مش فاهم! يعني إيه؟
- امبارح شكرتني عشان سمعت لك، والنهار ده جاي تشكرني عشان سمعت لك، بكره كمان هتكلمني نطلع رحلة عشان لما تشوفني تشكرني لأني سمعت لك، يا بني الشكر على المعروف مرة.
ضحك يزيد وهو يعود لظهر مقعده، أضاف بثقة:
- الشكر على المعروف بيكون طول العمر يا صاحبي، لازم نوازن الأمور في حياتنا عشان ما تغلبناش عاطفة معينة، يعني أنت لو جيت عليا دلوقتي هفضل شايل منك.. وطول الوقت هتشوف في عيني عتاب، لحظات الزعل والعتاب والغلط في الحق ما بتتنسيش بسهولة، فليه ننسى لحظات الشكر والعرفان بالجميل والمساعدة اللي اتقدمت لنا في عز احتياجنا، ليه نقول شكرا مرة واحدة مش كل يوم زي ما بنعاتب بعض كل ساعة ودقيقة؟!
حل الصمت بينهما وأعينهما معلقة ببعضها، قطع آدم هذا الصمت بسؤاله:
- إيه هي هوايتك؟
- الكورة، بلعب كورة كويس جدا، وبتابعها بهوس.. وأنت؟
ألحق إجابته بمبادلة السؤال لآدم الذي أجاب مبتسمًا وهو يقدم له مفكرة صغيرة مفتوحة على صفحة بعينها:
- اقرأ دي كده واكتشف هوايتي.
تسلَّمها يزيد وأخذ يقرأ ما خُطَّ فوق سطورها بتأني: "أنا ممتن لدقائقك التي قضيتها معي، رغم أني لم أبح بما يعيث بداخلي فسادًا، لكنك جعلتني أُوقِن أن من رأى معاناة غيره لهانت عليه مآسيه، وأن الله يوفق بين قلبين أحدهما يجيد البوح والآخر يجيد الإنصات، أكاد أجزم أن هذه الصدف غير المحسوبة ليست إلا... دعواتنا المؤجلة!"
قرأها لعدة مرات، ثم رفع ناظريه تجاه آدم وهو يسأل بتأثر:
- ده معناه إنك.. إنك قبلت طلب صداقتي؟
- بس لو دخل في الحوار حريم هعمل لك بلوك.
ضحك كلاهما قبل أن يضع النادل مطلبهما من الطعام، فبدآ في تناوله بشهية لم تكن بأحدهما يومًا.
هنا على أعتاب الصداقة توضع بعض الخطوط العريضة المهمة، أولها:
أن يكونا متكاملين، لا متشابهين، فما المجدي من أن ترافق شخصًا يشبهك؟ نسخة منك؟ لديك نفسك ولا حاجة لك بشبيه يذكرك بذاتك في كل حين! على خلاف المتكاملان، فأحدهما على سبيل المثال يُجيد البوح، والآخر يجيد الإنصات، أو أحدهما يُجيد رسم الشعور في عينيه، والآخر يُجيد قراءة اللامنطوق، كل واحد يجد شيئًا ما ينقصه في صاحبه فيركن له.
ثانيها:
أن يكونا على يقين أن لكل واحد جرحًا غائرًا بداخله لا يرغب صاحبه في أن يمسه أحدهم حتى يسمح هو بهذا، لا إصرار حول جذب القول من ألسن قلوب متعبة في الأصل...
ربما هذين الخطين العريضين هما أساس نشأة العلاقة التي ستتطور مراحل نموها حتى يصبح الطرفان متشابهين.. وهنا يمكن القول أن التشابه مباح بين علاقة بدأت بالتكامل، وليس العكس أبدًا؛ فالمتكاملان يتشابهان لكن المتشابهان لا يكتملان أبدًا!
------*------*------
- انتوا أكيد بتهزروا! يعني إيه ده! أنا عايزة أشوف العروسة.
هكذا صاحت حفصة فيهم حينما أخبرتها أمها أنها ستذهب هي وبسمة -زوجة أخيها الأكبر- فقط لرؤية عروس عمر، تحدثت بسمة بجانب عينها:
- الأصول هي اللي عمتي قالته يا حفصة، انتوا هتروحوا بعد الاتفاق لو وافقنا عليها.
عقدت حفصة بين حاجبيها وهي تسأل:
- يعني إيه لو وافقتوا عليها؟ مش عمر خلاص وافق عليها وعشان كده ماما رايحة!
- أنا وأمك رايحين نشوفها، عمر اتكلم مع البنت آه ووافق آه، بس فيه حاجات ما بيشوفوهاش الرجالة، عشان كده بيعتمدوا علينا، فبعد ما نيجي من هناك هنكلم عمر إذا البنت تنفعنا ولا لأ.
شعرت ملك -زوجة الابن الأصغر- بالغضب من قول بسمة، لذلك ردت بهدوء:
- اللي أعرفه إن والدة العريس بتروح تشوف اختيار ابنها وتبارك، لكن اللي بتتكلمي فيه ده يا بسمة يهين الناس، ويهين عمر قبلهم.
- يهينهم في إيه بقا إن شاء الله!
قالتها بسمة وهي تتخصر أمام ملك، فردت الأخيرة:
- عشان عمر قدم للناس كلمة، وبناءً على الكلمة دي هو واخد أهله يشوفوها، لكن فكرة إنه يرجع يقول كل شيء نصيب من بعد ما أهله يشوفوها فدي إهانة، عشان هيتشاف بتاع أمه، وأظن إن عمر راجل عاقل وكفيل باختياراته.
أن تقوم ملك بمحو شخصية بسمة من الأمر كله أصاب بسمة بالحنق، فلم ترد، لكنها صاحت:
- أنا جاهزة يا عمتي.
ضربت حفصة الأرض بقدمها في غيظ، تريد رؤية العروس التي ستحل على عائلتها قريبًا، فلربما تجد فيها ما لا تجده لا في أخواتها ولا في زوجات إخوتها، فتلك أختها زينب -الكبيرة- منشغلة كليًا بخطيبها الذي ترى أنه لا رجل على وجه البسيطة غيره ولا مثله، دائمًا هو في مقدمة اهتماماتها، غالب النهار تحادثه، والباقي من النهار تقضيه في البحث عن دهانات وفرش لبيتها الذي لم ينتهِ بناؤه أصلًا، أما عن فاطمة التي تصغرهن جميعًا فهي كائن مغرور منعزل عن المجتمع، لا ترى من حولها إلا من فوق أنفها، ناهيك عن ذكر بسمة زوجة الأخ الأكبر التي تُشاكل ذباب وجهها طيلة النهار سخطًا، لا يُعجِبها العجب، دومًا صوتها عالٍ وحنقها مستمر، والجميع يضع لها عذرًا أن لديها توأمًا من الأبناء الأشقياء، أهي الأولى التي تنجب توأمًا! مثير للسخط بحق. أما عن ملك -زوجة الأخ الأصغر- فهي منعزلة ومنطوية، نزولها لبيت العائلة من أجل تأدية واجب عليها لا أكثر، وما إن تنهيه حتى تعود لبيتها، لا تشارك أهل البيت سهراتهم، ولا تبدي رأيًا في أي شيء يخصهم، تحل كضيفة وترحل كنسمة هواء عابرة! طبعًا حفصة منشغلة بدراستها شبه كليًا ولكن كل أمرؤ في هذه الحياة بحاجة لأن يشارك أحدهم تفاصيله، يريد أن يُسمع له، هي غير جيدة في اجتذاب الأصدقاء، لذلك تمنت كثيرًا أن تجد ونيسها في إحدى فتيات بيتها، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
تحرك عمر وأخويه رفقة أمه وزوجة أخيه الأكبر إلى بيت أنفال في الموعد المحدد، وبعد السلام والتحية خرجت أنفال على استحياء، رحبت بوالدة عمر وزوجة أخيه اللتان كانتا بصالة الاستقبال، بينما الرجال في التراس أمام البيت، أخذت بسمة دفة الحوار، وبدأت تسأل أنفال عن عمرها ودراستها وإخوتها وهوايتها، أمور تحدث عنها عمر في الأصل، لكن بسمة تحاول قياس طريقة حديث أنفال التي لم يبدُ عليها التذمر من أسئلة بسمة الكثيرة والمتتالية، بينما اكتفت والدة عمر بالصمت مع بعض الحديث مع أم أنفال. أخذوا ضيافتهم وغادروا دون أن يرى عمر أنفال، وقد أثار ذلك بعض الضيق في نفسه، تعجب لذلك! متى تعلق بها هكذا! سؤال ما كان يعلم أنه سيشكل أرقًا له ليالٍ عديدة.
لم يمر غير يوم واحد، أعلن هاتف الوالد عن اتصال من عمر الذي طلب موعدًا كي يأتيهم وإخوته من أجل الاتفاق على تفاصيل إتمام الخطبة، وقد اتفقوا على الجمعة، أو عمر من اقترحه، فما وجد الأب بُدًا أن يوافق. أخبر أهل بيته بالجديد، وهذا أثار الربكة في نفس أنفال التي لا تدري إن كانت بموافقتها هذه قد اتخذت طريق الصواب أم سلكت دربًا الندم عليه لن يُفيد. لم يخطر ببالها في هذه الأثناء إلا واحدة فقط، ركضت لهاتفها، أجرت مكالمة وانتظرت الرد من الطرف الآخر، أتاها صوتها الهادئ وهي تقدم السلام، ردت سلامها وسألت عن الأحوال، ثم تحدثت بكل صراحة:
- أنا وافقت على عريس تقريبًا فيه المواصفات اللي بتمناها، لكن.. لكن برضو قلقانة يا خلود.
- قلقانة من إيه يا حبيبتي؟ صارحي نفسك، هل هو فعلا زي ما بتتمني، حافظ القرآن ده شيء جميل، ولكن هل بيعمل بيه؟ طب هادي في كلامه، هل ده تصنُّع ولا طبيعة؟ طب جالك بشكله العادي تمامًا من غير أي تكلف ولا برفان خنيق ولا طقم ما أعرفش إيه ولا تسريحة إيه، هل العادي ده لامبالاة منه ولا هو مهتم بنفسه لكن على قدر المعقول؟ ثم في ده كله أنتِ قلتِ لي ما شوفتيهوش كويس! وده يا حبيبتي ما ينفعش، لازم تشوفيه وتشوفيه كويس كمان، ده مصرح ليكِ، آه هو ما لناش دخل في خلقة ربنا بس برضو، ده شخص هتعيشي معاه الباقي من عمرك، لازم شكله يكون مقبول بالنسبة لك، حتى لو كل الناس شايفين ملامحه مش قد كده لكن أنتِ شايفاها مناسبة ليكِ يبقى ده القبول.. فهماني يا أنفال؟
لم تصمت خلود لثانية حتى بين حديثها، استرسلت فيه كله كأنها تبعث إشارات لعقل أنفال تحثه على الاستيقاظ من غفلة الارتباك والتوتر هذه، وأن يقيس الأمور بشكل سليم. أومأت أنفال كأن خلود تراها، ثم لجأت لشكرها على ما قدمت قبل أن تنهي معها المكالمة، تمددت إلى فراشها تناظر السقف، أخذت تراجع حديثها معه، نبرة صوته، طريقته في كل شيء قام به أمامها، ملامحه غائبة عنها، لكن صوته سكن في نقطة ما من... نفضت رأسها سريعًا في رفض تام، ليس بهذه السرعة، هي مخطئة، مشاعرها لن تركض تجاه شخص من مقابلتين لم تتجاوز الواحدة فيهما نصف ساعة حتى، هذا من تدبير شيطانها، يحاول تشتيتها عن التفكير بعقلية، لن تسمح لأي شيء أن يسيطر عليها غير صوت عقلها فقط، لن تضعف، لن تميل، لن تسقط.. هكذا وعدت نفسها قبل أن تذهب في نوم عميق. ومن قال أن الوعود كلها قيد التحقق؟! غالب الوعود تذيبها المواقف كما يُذاب السكر في الماء...
------*------*------
بعد ما حدث بينه وبين تلك المستسلمة للحياة تمامًا أخذته قدماه إلى شاطئ الإسكندرية صبيحة اليوم التالي، حمد الله ألف مرة أنها لم تستيقظ بعد، فهو ليس بقادر على المواجهة، لا يملك اعتذارًا يوفيها حق تسع سنوات من عمرها معه كأن لا وجود لها، ويوم أن اتخذت قرارها بإظهار نفسها له وجعله يراها كزوجة بحق أخطأ في حقها بأن اقتحم جسدها كحيوان ثائر شهواني.
وقف يناظر تضارب الأمواج، يحاول ترتيب عقله المتعب بالأفكار، منذ وقعت أعينه على عائشة تسارعت نبضاته لها، وحينما قرر الارتباط بها وجد حبلها مَرخِي لكن حبل أمه عصيب، وبينما هو يحاول إرضاء جميع الأطراف نسي قلبه بين يديها، فلما امتلكها ملكت روحه، كانت تُجيد إقحام نفسها في كل تفاصيل حياته دون أي مجهود، دون أن تحاول، دون أن تسعى لذلك حتى، كانت تنفرط حكايات يومه عن لسانه أمامها دون أن تطلب هي ودون أن يقدر هو على إحجام ذلك عنها، لا يعلم سر هذه الراحة التي كان يجدها في التحدث إليها، ربما لأنها كانت مُنصتة جيدة، تُجيد سماع حديثه باهتمام بالغ، وتجيد جعله ينطق بخباياه دون أي ذرة ندم، فما سيلفظه سيموت في التو والحال، لن تُعايره به إن تشاجرا، ولن تبوح به في جلساتها مع صديقاتها، يعلم أن ما ينطقه لسانه يمر عبر عقلها ثم يموت بين مطباته.
هل كان كل ذلك هباءً منثورًا، هل كان وعده الصامت لقلبه من نصيب مُراوغِة بارعة، هذا كله ليس بغريب، الغريب حقًا أنه ما أعطى لنفسه وقتًا للتفكير غير الآن! بعد كل هذه السنوات! الآن فقط ينظر لسنواته الضائعة! الآن فقط ينتبه لانفراط أيامه! عقله مصاب بالتيه، لا هو مدرك بما يأويه ولا مما يأويه! ليس أصعب على المرء من أن يقف في منتصف طريق، لا هو عالم متى سار ما ساره، ولا يُدرك إن كان الأمان في أن يُكمِله أم في التراجع!
يعاود عقله تذكيره أن عائشة ما كانت إلا امرأة مغلوبة على أمرها بسبب رغبات أبيها، ومع ذلك فهي لم تبدِ ولا مرة ندمها في الارتباط به أو حتى النفور من قربه! كل شيء كانت تقدمه كان يُشعره برضاها وحبها.
إن أطاع تفكير عقله الأول أضاع كل جميل لعائشة، أما إن أطاع تفكير عقله الثاني أضاع حياته في اللاشيء كما سبق! أين المفر من كل هذا الضجيج، أين الصواب من أمره الذي جعله رجلًا بلا روح أو قلب أو عقل، أين الحقيقة المبتورة من حياته البائسة، وأين هو من كل هذا! كيف أصلا صدَّق أن أنفال ليست بابنته! أبسبب قول الطبيب أنه عقيم يُصدِر عقله فرمانًا أن الفتاة ليست بابنته! ألا يمكن أن يكون قد أُصيب بشيء ما منعه الإنجاب من بعد أنفال! انفتحت أعينه على وسعهما! أنفال! أمل جديد أنها ابنته! أمل جديد أن عائشة ليست بخائنة! أمل جديد أن يُصلح ما فسُد من حياته! ولكن لحظة! أين هي أنفال أصلًا! جدها... أجل جدها لأمها.. بالتأكيد هي تحت رعايته، التحليل.. لا بد أن يُجري تحليلًا لإثبات نسب الفتاة، ما زال هناك أمل في أن يبقى القلب وفيًا لكِ يا عائشة، رغم كل ما حدث وما يحدث تفوزين بنصيب جديد من حسن الظن فيكِ يا عائشة، لم تُقدمي إلا الرضا والطاعة، فلمَ لا يكون نصيبكِ من الدنيا حسن النية فيكِ حتى انقطاع الأنفاس؟!
هناك أناس يقتحمون حياتنا، يجعلونها أكثر بهجة وإنعاشًا، يجعلوننا مقبلين عليها بقلوبنا وأرواحنا، وحينما يذهبون يأخذون معهم كل جميل، لا يتركون لنا غير التيه.. التيه الذي من شأنه أن يجعل من امرئ ناضج عاقل طفل ضائع.
ركب سيارته، قاد بسرعة لجهة واحدة، جهة من شأنها أن تغير الحياة التي ما عادت حياة، سيأتي بالفتاة، سيعتذر، سيتودد، سيركع إن تطلب الأمر، فقط فليحصل على راحة لعقله المسكين الذي على وشك أن يغادره من كثرة ما يحمل من مصائب صامتة، لكن ماذا إن كانت... ليس هناك مجال لسؤال آخر.. قرر ترك كل الأمور تأخذ مسارها الطبيعي.. لن يسبق حدثًا سبقته إليه السنوات.
وصل إلى حيث يسكن جد الفتاة، ما زال غير قادر على تلقينها بابنته، ما زال عقله رافضًا أن ينسب الفتاة لغير عائشة وحدها. دخل بعد طلبه لوالد عائشة، أعينه تجوب البيت الذي لم يدخله منذ سنوات طالت، كل شيء قد تغير، كل ركن، كل لون، كل مظهر، كل شيء تبدل، تمامـا كما تبدل هو لشخص منسحب من الحياة وممن عليها.
خرج له صاحب البيت، حتى هذا الرجل تبدل، أصبح عمره أقل! شكله أكثر أناقة، مشيته أكثر ثباتًا، حتى نظراته.. نظراته أكثر غموضًا! تحدث مصطفى نافضًا عقله عن كل تفكير:
- فين أنفال؟
- بتسألني أنا عن بنتك!
قالها وهو ينفث دخان سيجارته، حاول مصطفى أن يحافظ على ثباته، يبدو أن الرجل ممسكًا بزمام أموره، كأنه يعلم أن السنوات وإن طالت سيعود مصطفى إليه، لكنه لن يمكنه من عنقه مرة أخرى، فعلها مرة من أجل عائشة، ولن يفعلها مجددًا، فالمصير غير معلوم، والنتيجة لا هي ضده ولا حتى في صالحه، لن يفقد ما يملك لأجل شيء لا يعلم إن كان يخصه أم لا...
تحدث في هدوء تام:
- أنا عايز البنت، هعمل...
أصدر الرجل تأتأة عن لسانه وهو يتحرك من موضعه قاصدًا الشرفة، التفت وهو يرد:
- ست سنين من يوم اكتشافك لحقيقة زايفة حكمت حبكتها الست الوالدة وأقرب إنسان ليك، ست سنين وأنت في غفلة من الدنيا، لا لا دول ولا ١٦ سنة يا مصطفى، ودلوقتي جاي تسألني عن بنتك عشان تعمل لها تحليل وتتأكد إذا بنتك ولا لأ! بنتك مش عندي، زي ما بنتي ما بقتش عندك بالظبط، ويوم ما تلاقيها فكر ألف مرة قبل ما تخليها تكتشف دناءة نفسك.
أنهى حديثه الغامض ورحل، رحل تاركًا مصطفى يصول ويجول حول حيرة ازدادت واحدة، ما زال في دوامته، بل زادت عليه، ما الذي يعنيه هذا الرجل تحديدًا؟ ولماذا أصر أن يضغط على كلمة "بنتك"، كأنه يدرك حقيقة لا يعرفها مصطفى نفسه، ألهذه الدرجة هو مثير للشفقة كي يتلاعب به هذا وذاك! يا لسخرية القدر!
لم يملك من أمره إلا سؤال رزان، هي الوحيدة التي تعلم أين أنفال الآن، لحظة واحدة... منال! كيف لم تخطر بباله أولًا! ها هو عقله بدأ يعمل بشكل سليم.. وأخيرًا!
قاد إلى منزل منال، لكن صفعه أن وجد البيت مسكونًا بأناس آخرين غيرها وزوجها، بل ومنذ سنوات! أما زال بحوزة القدر شيء آخر كي يسخر منه به! هي رزان وحدها.. من حاول تخطيها وتلاشيها هي الوحيدة التي تملك مفتاحًا لحل كل قضايا عقله وقلبه وحياته... السبيل الوحيد السَّالِك للحقيقة لا نسلكه، فلن نكون بشرًا لو لم ندور حوله ألف دورة لنُثبِت أننا على حق، فتبصق الحياة في وجهنا حقيقة أننا كنا نستحق وبجدارة عبثها بنا.
عقله يسترجع الأحداث من جديد، تحديدًا يوم وُلِدت أنفال، ابتسامة عائشة، انسحاب الروح عنها، محاولاته أن يجعلها تتحدث، محاولات الطبيب في إنعاش قلبها، لقد ماتت هكذا... فجأة، من دون أي سبب، لم تكن مريضة، ولم تكن ولادتها ذات مخاطر على حياتها، بل لم يظهر عليها أي آثار تعب بعد الولادة غير آثار الولادة، لكنها رحلت، رحلت بحقيقة ترهقه الآن، يذكر كيف قابلت أمه خبر رِزقه بفتاة، كيف تغيرت تعابيرها واحتدت، كيف لم تُقْبل على حمل الفتاة، وكيف لم تبارك قدومها، يذكر نعيم، وركضه إليه يسأله عن المولودة، كيف حملها بوداعة، أذن في أذنها بنفسه، كشر في وجهها وهو يردد أن الفتاة لن تشبه سواه وإلا لن يزوجها لابنه، اهتمامه بالفتاة في خضم انشغال مصطفى بدفن جسد عائشة في التراب وتحنيطه حبها وكل ما يخصها بقلبه، ذات اليوم الذي كفّ عن البكاء عليها فيه فقد فيه كل شعور جميل بالحياة، كِبر أنفال يومًا بعد يوم، ضحكاتها التي لا شبيه لها، شقاوتها رغم هدوئها، لقد كانت عائشة الصغيرة بكل صفاتها، لم تترك من أمها شيئًا..
فجأة ظهرت شاحنة من العدم.. حاول استعادة ذهنه في اللحظات الفارقة بينه وبين التباسه فيها، لكن صورة عائشة وهي تناظره قبل موتها ارتسمت فوق نافذة سيارته، هنا وترك زمام الأمور للقدر، كما يفعل في كل مرة.. يرمي على القدر دون الأخذ بأسبابه... وفجأة ساد الظلام بعد نور، والصمت بعد صخب، والسكون بعد ارتجاج، والعدم بعد عدم!
------*------*------
أنت تقرأ
أنفال
Ficción Generalمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...