الفصل الثالث عشر

432 34 4
                                    

(الفصل الثالث عشر)

طرقت الباب عدة مرات حتى أتاها صوته من الداخل يأذن لها بالدخول، ابتلعت ريقًا متوترًا وهي تفتح الباب، أدخلت فقط رأسها وحاولت أن تجعل المرح مصاحبًا لصوتها وهي تسأله إن كان لديه بعض الوقت ليتحدثا، ترك أدواته وكتبه وتحرك للخارج معها، جالسها في حديقة البيت بعد أن طلبا بعض القهوة، تحدثت تفتح الموضوع:
- أنا ما قصدتش اللي حصل امبارح على فكرة، أنا...
- أنا مش وصي عليكِ عشان تبرري لي تصرفاتك.
قالها آدم يذكرها بردها عليه بالأمس، ابتلعت ريقًا محملًا بالتوتر وهي ترد بهدوء مسالم:
- آدم، ممكن نتكلم بوضوح شوية مع بعض، لازم نحط حد للي احنا فيه ده، لازم نحدد علاقتنا ببعض عشان نقدر نتعايش على أساس سليم.
مال إلى الطاولة أمامه وهو يعقد يديه مع بعضهما أمام وجهها، ثم تحدث بصراحة تامة:
- الوضوح اللي بتطلبيه ده يا هيا أتتِ بتهربي منه، سبق وفتحت الكتاب اللي بيضم اسمي واسمك قدام عينيكِ، فكيت لك شيفرة ما كانش لها وجود في علاقتنا من أصله.
- مش هتبطل بقا أسلوبك الفلسفي اللي دايما تكلمني بيه ده!
تنهد بقلة حيلة وهو يرد:
- أهو الأسلوب الفلسفي اللي بتنفري منه ده هو أسلوبي اللي عمرك ما هتبقي على وفاق معاه، ده الأسلوب مش قادرة تتعايشي معاه هتقدرى تتعايشي مع صاحبه؟

شعرت أنه يرفضها بحق، ليس فقط يرفض تحكم جده بحياته، بل يرفضها هي لشخصها، كرامتها! أين كرامتها من فرضها نفسها عليه! أومأت برأسها كأنها تنهي نقاشًا بدأ منذ فترة طويلة، طولها حوالي عشر سنوات أو يزيد! وقفت تنوي الذهاب، لكنه نطق باسمها فالتفتت له في تساؤل، تنهد وهو يوضح موقفه:
- هيا أنا كل غرضي من الموضوع ده إني ما أخليكيش تتعلقي بجبال دايبة، وموقفي امبارح معاكِ لو كنتِ فهمتيه بطريقة تانية فأنا بأكد لك إن...
- ولا تانية ولا تالتة يا آدم، أنت كنت صح.
تنهدت قبل أن تلقي بقرارها أمامه:
- أنا هكلم جدو عشان أرجع أمريكا، هكمل دراستي هناك، هنا مش مكاني يا آدم.
وقف واتجه إلى حيث تقف، ابتسم بوجهها وهو يقول:
- دايما فكري في قراراتك من كل الجهات يا هيا، ما تتسرعيش، وما تخليش حد يتحكم في مستقبلك.
فهمت مغزى حديثه، فأومأت كي تهرب من أمامه لعزلة تناديها من أجل التفكير، تحتاج للتفكير وبعمق.

لمحت من خلف آدم قدوم يزيد، فاستأذنت مغادرة في الحال. قدِم يزيد وجلس بصحبة آدم، رآه على غير العادة شاردًا، فسأل يطمئن إن كانت أموره بخير، أومأ آدم سريعًا وهو يبدأ الحديث معه عن مخططه لليوم، أتاه اتصالًا هذا الصباح من عميد جامعة القاهرة، وطلب مقابلته، طمأنه يزيد أن كل الأمور ستكون كما يريد ويسعى، ابتسم له آدم ممتنًا، ففكرة أن يكون لديك من يشجعك على خطواتك الصحيحة وتستشيره في أمورك لأكثر اطمئنانًا من وحدة تجعلك تسقط في العاطفة حينًا والتفكير آخر.


غادر يزيد ودخل آدم البيت ناويًا متابعة رسالته، لكن صوت جده حال دون دخوله الغرفة، عاد حيث يجلس وتساؤلات نفسه عن مُراد جده لم تطل، فجده قد طلب جلوسه ودخل بالموضوع مباشرة:
- المفروض نحدد خطوبتك أنت وهيا، على الأساس ده عمك ومرات عمك هيرجعوا مصر، وبعدها تحدد مصير حياتك أنت وهيا، يا ترجعوا معانا أمريكا، يا تكملوا حياتكم في مصر.

كانت الصدمة هي حليفه في بداية الحديث، لكن مع نهايته انقلبت لابتسامة ساخرة وهو يرد على جده:
- وليه أحدد مصير حياتي أنا وهي بعد الخطوبة؟ ما تحددوا لينا حضرتك زي ما حددت لنا حياتنا طول السنين دي.
تبدلت معالم وجه الجد في الحال، وبدا في عينيه إصرار غريب، لم ينطق، لكن نظرته كانت كافية تمامًا ليُدرِك آدم أنه لا مناص مما رآه الجد، تحدث بالبطاقة الأخيرة لديه:
- مش واجب تعرف رأي هيا الأول؟ مش يمكن...
- هيا.
لم يمهله جده متابعة حديثه، فصاح باسم حفيدته التي نزلت ركضًا من الأعلى، نظر آدم أمامه وكله ثقة أن الرفض سيكون عن لسانها هي، وبهذا لا يكون قد خالف كلمة جده، بل هي من اختارت حياة لا تجمعها به فيها غير قرابتهما، تحدث الجد بهدوء تام يسألها:
- آدم منتظر ردك على عرض الجواز.
التفت آدم لجده في تعجب، هو لم يطلب الزواج منها، فكيف يقول الجد شيئًا كهذا! ردت هيا بما جعل نظرات آدم تتصلب مع جسده، أتمزح هذه الفتاة؟ هل تلاعبه؟ وافقت! بهذه البساطة؟! ضحك بداخله سخرية على موقفها، لقد قدمت موافقتها وركضت لغرفتها كأنها خجِلة! هل يتم التلاعب به دون درايته؟! حسنًا ليلعب قليلًا...

التفت لجده من جديد، ثم أومأ في موافقة وهو يحدد الموعد الذي لم يؤخره عن أسبوع.. وفي داخله نية لن تسلم هيا منها.. فهي من بدأت.

------*------*------
ظهرت تحاليلها، جاورها نعيم في جلستها أمام الطبيب الذي خلع نظارته الطبية وبدأ حديثه دون تجميل أو تزيين:
- الرحم ضعيف شوية، وكنت أتمنى أقول لك إن العلاج هيجيب نتيجة مع الراحة التامة، لكن ظهر في التحاليل والأشعة وجود ورم، ورم ليفي، وللأسف إنه خارج الرحم..
- حضرتك عايز تقول إيه يا دكتور؟
سألت رزان بنفاذ صبر حينما شعرت أنه يحاول تخفيف صدمة ما، فرد الطبيب صراحة:
- نسبة الورم أكبر من إننا نخاطر بمتابعة الحمل ده.

ليست صدمة هذه التي ظهرت على تقاسيمها، إنه الاستسلام، الاستسلام التام للحياة، لقد بدا عليها في هذه اللحظة أنها رفعت الراية البيضاء للحياة، هكذا كان تفكير نعيم، لكنها على عكس توقعه سألت بترقب:
- وإيه اللي هيحصل لو أنا رفضت؟
أعار الطبيب نظرة لنعيم، ثم عاد بنظراته لرزان وهو يرد:
- هيأثر على الحمل، وعلى حضرتك، ده لو ما سببش إجهاض من دون أي تدخلات مننا.
- يبقى نمشي مع مركب القدر.
حاول نعيم الحديث، لكنها وقفت تنهي النقاش، خسرت ابنها وزوجها قديمًا، والآن لا تعلم مصير زوجها، ولن تحدد هي مصير مولودها الجديد، كما بدأ القدر معها فليكمل معها دون تدخل منها، فقط ستأخذ بالأسباب، وستهتم لصحتها ولكل ما يُشير الطبيب عليها به، وليفعل الله ما يشاء.

خرجت فركض خلفها نعيم، وقف قبالتها وهو ينفي بقلق عليها من حالتها المتدهورة هذه:
- أنتِ بتغلطي يا رزان، ما فهاش حاجة لو أجهضتِ الحمل ده وعملتِ عملية للورم ده وبعدها حاولتِ من تاني، اللي رزقكم المرة دي قادر يرزقكم المرة الجاية.
- واللي حمى أنفال من بطش الدنيا قادر يحمي أخوها أو أختها، أنا كنت عارفة إني عندي ورم يا نعيم، سبقت مصطفى وكشفت من وقت ما والدته بدأت تزن على دماغه بعيل، ولما رحت للدكتور مع مصطفى كنت مستعدة كليًا لمواجهة الحقيقة دي معاه، لكن صدمتني النتيجة بعقم مصطفى، وقتها قلت إن ربنا ما حبش يوجعني في الحياة تاني، وعشان ربنا عمل معايا كده أنا اتصرفت وسفرت أنفال مع الناس اللي هيشيلوها في عيونهم ويحافظوا عليها أكتر من أي حد تاني.

كان نعيم يسمع قولها بصدمة، لقد خُذِل مصطفى منهم جميعا، من كل الأقربين له صُفع بقسوة، لم يرحمه أيهم: لا هو ولا أمه ولا حتى زوجته! تابع هو بدلًا عنها:
- وبرغم وجود الورم ده حملتِ، ودلوقتي أنتِ عايزة تكفري عن ذنبك ناحية مصطفى بإنك تيجي على نفسك وخاطري بنفسك! ده الحل؟

بكت، لم تستطع أن تصمد أكثر، لتضعف ولو لمرة واحدة، غشاء القوة لديها أصبح هش للغاية، هش لدرجة أنه لو صرخ بوجهها أحدهم لبكت ليومين متواصلين، لا بد للمرء أن يصرخ أحيانًا، أو يبكي حتى تجف عينيه من الماء، أو يضرب كيس ملاكمة حتى يُخرج طاقة الغضب بداخله كلها حينما يراه ممزقًا أمامه هو ويديه، لا بد للمرء أن يستفرغ وجعه وإلا مات بسكتة مفاجئة...

حاول مساعدتها على النهوض، وتحرك بها لغرفة قريبة من مصطفى، طلب منها الاستراحة قليلًا، وعدها بعودته سريعًا، خرج ووجهته صاحبه، كان ينوي تفريغ ما تبقى لديه من ندم على مسمعه، كان سيرجوه العودة ويستحلفه السماح، لكن القدر لم يشأ له أن يفعل ما تمناه، فما إن وصل غرفة مصطفى وجد الطبيب وبعض الممرضين يركضون هنا وهناك، سأل بفزع عما حدث، فأخبرته إحدى الممرضات أن قلبه توقف فجأة، وأنهم يحاولون إنعاشه، لم يستطع على الوقوف صبرًا، دفع الباب ودخل وأمارات الفزع تتشكل على وجهه، حاول الطبيب إخراجه لكنه رفض، وقف بجوار مصطفى، أمسك بيديه وهو يصيح فيه أنه لن يستطيع على فراقه حياة، ولن يتمكن من حمل أمانته لآخر العمر، الطبيب ومعاونيه يصعقون بالجهاز قلبه، ونعيم يصعق بالكلمات روحه، وكأن الله لم يشأ للمعذبين طيلة حياتهم عذابًا آخر، ربما كتب لهم من العمر جديده لأجل عودة، لربما شعرة بين العبد وموته، لكن فرصة جديدة من الله له على الحياة هي بمثابة صاعق لعقله كي ينتبه أين هو من الحياة، وإلى أين يتجه، وإلام يسعى، وإلى متى...

عاد قلبه يضرب بانتظام، وعادت الروح لنعيم فسارت الدماء بوجهه بعد أن استحال بياضًا، لم يشعر بنفسه إلا وهو يلقى برأسه على الأرض في سجده، سجدة طال شكره لله فيها، سجدة سحبت عن قلبه دموعًا مليئة بالخوف، الخوف من الحياة، ومن النفس، وقبلهم جميعًا وأقواهم الخوف من الله...

جلس إلى جوار صاحبه بعد أن تمم الطبيب على كل شيء، حاول الطبيب مع نعيم أن يخرج ليترك بعض الراحة لمصطفى، لكن نعيم أكد أنه لن يزعجه بشيء، وأنه لن يطيل الوجود هنا، فخرج الطبيب في قلة حيلة، وأمسك نعيم بيد مصطفى بين يديه، مال بجبينه عليها وبدأت الدموع تحكي مدى ألمه، الدموع وحدها من تستطيع تحديد مدى الوجع، إن سالت جريانًا فصاحبها مرتعب، وإن تساقطت قطرات فإن صاحبها متألم، وإن تقطعت في خروجها فصاحبها مصدوم، ودموع نعيم كانت غير ثابتة على شاكلة، فقد بدأت متقطعة وفجأة سالت جارية وأخيراً تقطرت حتى شعر بيد مصطفى تقبض على يده وتنبسط، اعتدل برأسه يرى أتحرك مصطفى أم أن عقله صور له هذا من شدة رغبته بذلك.. لكن جفون مصطفى بدأت ترمش.. مما جعل نعيم ينتفض ركضًا إلى الطبيب يناديه أن يأتي سريعًا..

وقف عند الباب والطبيب يفحصه، جسده كله يرتعش، ولا يملك من أمر دموعه شيئًا، انهارت كل قوته وهو يجلس على الأرض مع سماعه الطبيب يبشر باستيقاظ مصطفى، وأن حالته في تحسنت تمامًا...

------*------*------

تراجع بعين متفحصة ردود الأفعال على آخر كتاباتها فلفت انتباهها تعليق من صفحة لم يسبق لها أن رأتها عندها، كانت باسم "هُوية زائفة"، تعجبت للمسمى، لكن يبدو أن صاحبة التعليق شغوفة بالكتابة، ففي تعليقها نبض خاص، لا يشعر به إلا كاتب مثلها، دخلت صفحتها، فإذا بكُنية الصفحة تحت اسم "أنفال"، يا للمصادفة، إنهما صاحبتا اسم مشترك، قلبت فيها فوجدت عددًا من الخواطر ليس بكثير، ويبدو أن الصفحة جديدة، انتبهت للسيرة الذاتية المدون من خلالها أن الفتاة تدرس بالثانوية، ما زالت صغيرة في بداية المشوار، ابتسمت وهي تعود لتعليقها، ردت عليها "بوركتِ يا جميلة القلب والقلم، إنه لشرف لي أن أراكِ بين صديقات صفحتي."

أرسلت الرد وبدأت تنسى أمر التعليق وصاحبته وهي منشغلة مع الفساتين المعروضة على الإنترنت، تحاول اختيار واحد مناسب من أجل حفل خطبتها الذي لم يتبقَّ عليه سوى أسبوع واحد..

أعلن الهاتف عن اتصال، كان رقمًا غير مسجل، لم ترد، وفي عقلها تقول لو أنه يطلبها لغرض سيعاود الاتصال، لم ينتهي تفكيرها فإذا به يعاود الاتصال، فتحت الخط دون رد، فسمعت من الجهة الأخرى نبرة أصبحت تحفظها عن ظهر قلب، لقد اختطفتها هذه النبرة من اللقاء الأول، عاود قول السلام فانتبهت وهي ترده، تحدث يبرر اتصاله أنه هاتف والدها فأعطاه رقمها لأنه على سفر، أكدت ذلك وهي ترد أن لا مشكلة، وبعد الاطمئنان على بعضهما أخبرها أنه آتٍ هذا المساء هو وأخوه الأكبر، ثم أنهى الاتصال على وعد باللقاء قريب..

مع قدوم المساء تجهزت لمقابلته، كانت أَهِلَّة تراقب تحركاتها من طرف خفي، توترها المعتاد كلما تعلق الأمر بعمر، اهتمامها غير المعتاد بما سترتديه، كيِّها لخمارها وهي أكثر الناس كُرهًا للكي، آلمتها الفرحة بعيني أنفال بينما هي منطفئة في الزاوية، ما زالت أمها تحتفظ بالهاتف، وأقسمت بعدم ذهابها معهدها حتى تأذن هي بذلك. ما إن خرجت أنفال من الغرفة حتى تحركت أفنان إلى أَهِلَّة، تحدثت تحاول مواساتها، لكن الأخيرة قالت دون مقدمات:
- والله لأندمها على اللي عملته معايا ده، مش هخليها تتهنى، ماشي.

قالت قولها بغل، في حين أن تحدثت أفنان تهدئ من التهاب الوضع:
- طب وهي مالها يا أَهِلَّة بس، دي كانت هتموت من العياط لما شافت الصور، ما هي حاجة تهبل برضو واحنا مش عارفين مين اللي باعتهم.
انشقت ابتسامة ساخرة فوق شفاه أَهِلَّة، ثم ردت بصوت خفيض:
- هو أنتِ فاكراني مختومة على قفايا؟ أنفال بعد اللي حصل لما أمك طلبت منها الصور قالت مسحتهم وأنتِ بتضربي أنفال عشان خوفت تقولي لبابا، بس أنا بقا وصلت تليفونها على الكمبيوتر أتأكد الصور معاها ولا لأ.

انتبهت أفنان لحديث أَهِلَّة كليًا، ولما توقفت عن الحديث طلبت أفنان منها أن تتابع وهي تسأل:
- ولقيتيهم؟
- آه لقيتهم، وتخيلي في فولدر إيه.
نظرت لها أفنان وهي تبتلع لعابها، تنتظر متابعة قول أَهِلَّة التي ردت:
- في فولدر لوحدها، اللي بيستقبل من جهاز تاني.

صُدِمت أفنان مما سمعت، لقد كان كل شيء عبارة عن لعبة من أنفال!






أنفالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن