(الفصل الرابع)
تلاحق أعينه سرب الطيور المغادر لأعشاشه مع حلول أول الليل، كعادة اكتسبها مع مرور أيام عمره هنا، يصعد لأعلى المنزل في الوقت ذاته من كل يوم كي يراقب عودة الطيور لسكنها، يتساءل في نفسه إن كانت تحب وقت العودة لأعشاشها أم أنها تبغض هذه الدقائق مثلما يبغضها هو، إنه في الواقع ناقم على كل شيء في هذه الدولة، لا بيت يحبه ولا جامعة ولا أُناسٍ يحاولون التقرب منه لغرض لا يعلمه هو ولا يريد أن يعرفه حتى، يقطع عليه لحظات تأمله الطويلة صوت خشن يقول:
- دي طبيعة الحياة، كل حاجة لازم ترجع لمكانها الأصلي.
التفت لجده الذي يستند على عصا غليظة كطبعه، لم يرد بكلمة، لكنه استقبل جده بعينيه حتى جلس إلى أريكة طويلة تحتل جانب السور، تنهد الجد قبل أن يضع عصاه جانبًا ويعود متابعًا حديثه:
- لو ما كنتش عارف أصلك هتتشاط زي الكورة في ملعب واسع ما لوش عوارض.
- يمكن دي وجهة نظرك في الحياة، لكن أنا شايفها أبسط من كده بكتير، أبسط من إننا نحط في طريقها كل المطبات دي، هي بس محتاجة ناس أسوياء نفسيًا.
الصمت هو كل ما حصل عليه من الجهة الأخرى، فما كان منه إلا أن تابع صمته هو الآخر لدقيتين، ثم زفر بِهَمٍ وهو يعود أدراجه إلى غرفته دون أي كلمة لذاك الجالس حيث هو، يتابع وقع أقدام حفيده في شيء من الريبة حينًا، وبعض من الثقة حينًا آخر، وما بين الحين والحين عالق هو في ذكريات لو مستها يد عقل الطفل لشن حرب الكره عليه، لذا فهو يأمل أن تندثر كل هذه الذكريات معه يوم ولوجه القبر، فبرغم قشرة القسوة الظاهرة للعيان، إلا أن بداخله نطفة ضعيفة لا ينكرها على نفسه، بل يسعى فقط لطمثها بمرور الأيام.
بينما على الجهة الأخرى فقد احتل آدم مقعده مستندًا إلى مكتبه الأنيق والمرتب بعناية، يناظر أدواته الدراسية وحاسوبه الشخصي بشيء من الملل، رفع قلمه بأصابع مضطربة، ثم بدأ يخط فوق مفكرته الصغيرة ما لا يستطيع عليه بوحًا، تتوارد عليه وحدته الطويلة هنا فيضغط سن القلم فوق الورق أكثر، ينتبه لكون الورق أغلى ما يملك فيتراجع عن الضغط عليه حتى لا يُشوه ورقاته كما قلبه، انتهى من بث الورق مكنوناته كما العادة، أغلقها وأخذ يناظر سقف الغرفة المطلي بالأزرق الداكن، لطالما كان حبه لدمج الأزرق الداكن في سقف الغرفة مع الأبيض النقي على الجدران. مسالم هو لأبعد حد.
قبس من ذكرى أول مرة أتى فيها إلى هنا، كان بعمر صغير، أصغر من أن يُظهر تمرده على ترك وطنه والمجيء لأمريكا، أخبره جده أن الدراسة والمعيشة في الدول الأجنبية ستجعل منه رجلًا ذا مكانة وعلم، في الحين الذي سيُهدر كل حقه إن أراد حياة مصر، سلم الطفل رايته دون رد بالإيجاب أو الرفض، كل ما كان يشغله هذا الحين هو فقدانه لأسرته الدافئة، وأن مروره من بوابة المطار يعني نهاية كل ذكرياته مع والديه الراحلين عن العالم، تاركين رعايته على جده لأبيه، صادم أن تكون يتيمًا فجأة بعد سعادة امتدت لسنوات، منذ هذا الوقت وهو صامت، لا يبدي رأيًا، ولا يشكو همًا، يحاول أن يمرر يومه بشكل صامت، في الصمت راحة لا يعلمها هؤلاء الثرثارون الذين تعرَّف إليهم في مراحله التعليمية المختلفة، وها هو قد أنهى دراسة الهندسة، وأصبح معيدًا في جامعته، والآن هو مطالب بتسليم رسالة الدكتوراه خاصته، لا يعلم لماذا هذا التخاذل الذي أصبح عليه مؤخرًا، لكنه يشعر أن طاقته نضبت.
استيقظ على صوت رنين منبه الغرفة المعتاد، زفر بقلة حيلة وهو لا يعلم متى سقط في النوم، تحرك منهيًا طقوسه في شيء من الرتابة والملل، خرج على جده الذي يترأس سفرة الإفطار، ليتفوه بتحية الصباح دون أن يلقي نظراته على أي من الجالسين، سحب مقعده وجلس في صمت تام، يلتقط لُقيماته دون شهية لشيء، تحدثت هيا بلكنة غير عربية:
- أمستعد لحفل المساء؟
- حفلة إيه؟
سأل آدم دون أن يرفع رأسه، فأجابت بإحباط بلكنة العربية:
- أنت برضو نسيت؟ يا ربي! أنت ما بتهتمش بأي حاجة تخص البيت ده يا آدم.
ترك ما بيده، ثم رفع كوب العصير الخاص به متجرعًا بضع رشفات منه، ثم تركه وتحرك مع قوله بلكنة غير عربية:
- من الجيد أن تكوني على علمٍ بهذا.
ضغطت أسنانها بغيظ منه، وكانت على وشك شكواه لجدهما، لكن الأخير أشار بيده لها أن تتابع طعامها دون حديث، فزفرت بضيق وهي تعاود تناول طعامها دون شهية، لطالما كان غير مهتم لها ولا لما يخصها، لا تدري ماذا تفعل لتنال منه نظرة أخرى غير هذه الساهمة طوال الوقت، لقد حاولت بكل الطرق الممكنة، حاولت مشاركته الصمت والحديث، سعت لإخراجه من قوقعة ظلامه التي يقحم ذاته فيها دون فائدة، منذ أتوا إلى أمريكا وهو يتجاهل الجميع، كأن روح آدم الصغير المرحة تاهت في الأجواء مع مغادرة البلاد، ومع كل ذلك لن تستسلم حتى تصل لحل معه، علها تكون هي منقذه من ظلمته.
تحركت سريعًا إلى غرفتها تجلب حقيبة يدها، وقفت أمام المرآة تصفف خصلاتها البنية قبل أن تركض للخارج، وقفت أمام سيارته التي كانت على استعداد للمغادرة، ثم فتحت بابها واستقلت إلى جواره، لم يعترض ولم يتحدث في شيء، فقط انطلق إلى الجامعة، قررت مقاطعة الصمت المحيط بهما وهي تقول بهدوء:
- اسمع، أنا عارفة إنك مش كويس، بس مش قادرة أعرف إيه السبب رغم كل السنين اللي عدت علينا دي!
زفرت بعض هواء رئتيها قبل أن تستطرد قولها:
- مهما كان اللي أنت فيه يا آدم، ومهما طال عايزاك تكون متأكد إني هنا، مستنياك دايما على أول الطريق عشان نكمل حياتنا وإدينا في إيد بعض، بس أرجوك، أرجوك يا آدم اديني بس على الأقل إشارة تأكد لي إنك هتيجي في النهاية.
خفف من سرعة السيارة حتى أوقفها عند أحد الأرصفة، صمت ثقيل عم الأجواء بينهما، لكنه قرر ألا يجعله يطول، فالتفت لها قائلًا بهدوء تام غير مصحوبٍ بانفعالات قلبه وروحه:
- وإيه اللي هيحصل لو قررت إني ما أجيش أبدًا؟ مش المفروض إنك تستني حد مش عارف أصلا هو رايح على فين يا هيا.
- أنت مش وحش كده.
- وإيه اللي عرفك؟
قالها منفعلًا، فانكمشت على نفسها، مسد وجهه بقلة حيلة وهو يعود إلى ظهر مقعده مغمض العينين، تحدث من جديد:
- اسمعيني كويس يا بنت عمي، أنا مش هتجوز بالطريقة دي أبدًا، جدي مش مسؤول يختار شريك حياة كل واحد فينا، مش هينفع أبدًا حياتنا تتفرض علينا بالشكل ده.
- أنا مفروضة عليك؟!!
سألت والصدمة تحتل عسليتيها، بينما جاهد هو ألا ينفعل من جديد، هناك بعض الاعترافات قاسية، قاسية للحد الذي يجعل النطق بها شعورًا بالذنب، وكتمانها شعور آخر بالذنب، وبين هذا وذاك يتيه المرء في دوامات الحيرة بين البوح أو الكتمان، لكنه لن يجعلها تحيا على أمل واهم، هو لم يعِدها بشيء مُطلقًا، ربما يقلل هذا من شعور الذنب عنده، لتتألم الآن قليلًا بدلًا من أن تبقى متألمة وينتهي الطريق بها بالألم أيضًا.
- ليه ما تفضفضش باللي جواك عشان تستريح؟
نطقت بها وهي تلتفت له في إشارة منها لكونها على استعداد تام لسماعه، لكن صدمها رده المليء بالفلسفة الفارغة من وجهة نظرها:
- ما فيش راحة في الفضفضة طالما أدمنتِ الكتمان.
الصمت يحاوطهما من جديد، لكنه قرر ألا يعبث بالوقت أكثر فراح يتابع:
- اسمعيني يا هيا، اللي أنتِ حساه ناحيتي ده مش أكتر من اعتياد، احنا تعودنا نكون جنب بعض في كل تفاصيل حياتنا اللي غصب عني وعنك جمعتنا سوا، أنتِ ما جربتيش تستني حد تاني، كبرتِ وأنتِ بتستني شخص واحد عرفتِ إن ما فيش غيره هيكون شريك لحياتك، عشان كده دايرتك اتقفلت عندي، ولوحدي.
صمت جديد عم المكان يحاول فيه تجميع الكلمات الأقل قساوة على قلبها، تابع وهو يتجنب النظر إليها:
- اختاري حياتك زي ما تحبي يا هيا، اطلعي بره الدايرة اللي جمعتنا على غير رغباتنا حتى، بره الدايرة دي هتلاقي اللي يرضيكِ ويرضي قلبك.
لم تستطع الرد حتى على كلماته، يمكنها الاعتراف أن هذه أطول فترة تحدثا فيها إلى بعضهما، بل تكاد تجزم أنها أطول فترة تحدث هو فيها على الإطلاق، وليته بقي صامتًا.
تفاجأ من رد فعلها الذي لم يكن سوى فتحها للباب، وخروجها من السيارة مع إشارتها لسيارة أجرة، ثم اختفت عن ناظريه. تنهد وهو يعلم جيدًا مدى الجرح الذي تسبب به لتوه، لكن جرح طفيف الآن أهون من بَتْرٍ تام في المستقبل.
قاد إلى الجامعة، وقبل أن يدلف من بابها التقطت عيناه طالبًا في ذات الصف الذي هو يُدرِّس له، يقف مع والديه وهو يلوح بيديه واصفًا شيئًا ما قد حدث معه، والنظرة بأعين الوالدين بدت وكأنها شغف من نوع مميز تجاه كل ما يخص هذا الشاب وحده، تخيل نفسه يقف بين أبويه الآن، يستمع لنصائح أمه وهي تملي عليه ألا يقود بسرعة كبيرة، ووالده يزيد في النصح ألا يلتفت لغير أهدافه من أجل مستقبل زاهر، إنه يُبلي حسنًا مع مرور السنوات، أين هما الآن ليفخرا به؟! فاق على الواقع حينما سمع صوت بوق سيارة مزعج من خلفه، تحرك بسيارته للداخل وهو يرسم على وجهه البرود بدلا عن هذا الحنين الذي بات يرتسم على ملامحه كثيرًا هذه الفترة.
------*------*------
- نرد على الناس نقول لهم إيه يا أنفال؟
كان هذا سؤال أبيها الذي أطلقه وهم يتناولون غداءهم بعد أن عاد من عمله، توترت في جلستها وهي تستعد لِتَلَقِّي نظرات الغضب من أعين الجميع مع تفوه فاهها بجملة:
- ما فيش نصيب يا بابا.
قالتها وتركت المكان بأكمله إلى غرفتها، تحتمي بجدرانها من نظراتهم، تُبعِد أذنيها عن همسهم بكم هي مغرورة متكبرة لا يُعجبها العجب، سمعت هذه العبارات أول مرة حينما تقدم لطلبها واحد من أمهر مهندسي العمارة، يعمل بالقاهرة، ولديه بدل الشقة اثنتان، واحدة في الزقازيق بجانب أمه، والثانية في القاهرة بجانب عمله، وليس لديه أشقاء، كما أن أمه امرأة حنون وطيبة للغاية، جميع هذه الأمور جيدة، تتمناها أي فتاة في زوج المستقبل، فلن يكون هناك عراك بين نساء الإخوة على من أخطأ من أبناء غيرها، ولن تطحنها أم الزوج في الأعمال الشاقة أو توسوس في أذن ابنها كي تخرب عليه عشه، كما أن الشاب يمكنه تدبير أمور بيته بشكل يسير غير متضرر من الحاجة، كلها أمور مطمئنة للغاية، ولكن! ماذا عن الشاب نفسه؟ يوم أن أعلنت الرفض اتهمتها أختها التي تصغرها بخمس أعوام بالجنون، وأخذت الأخت الثانية التي تصغرها بست أعوام تصيح فيها أنه لا يُرفض، علاوة على مظهره الأنيق! أمها كانت صامتة، تنظر لها بحسرة فقط، أعينها تقول بدلًا من لسانها:
- لحد إمتى؟
والدها لم يبدِ أي رد فعل على الإطلاق، لكنه كان يتلاشى الحديث معها عن الأمر ذاته حتى نُسي أمر هذا الشاب برجل آخر تقدم بطلبها.
الجميع ينظر للظاهر من الأمر، الأخوات يرِدن ارتداء فساتين واسعة، وأخذ وضعيات التصوير التي تُدعى بـ "السيشن" ليشاركن صورهن على وسائل التواصل، إضافة لرغبتهم الملحة في إرسال الدعوات لصديقات الدراسة كي يشكلون حلقة رقص سويًا ويمرحون لبضع ساعات، أما الأم فهي ككل الأمهات، تود أن تطمئن على ستر ابنتها، غريب أمرهن! أيرتبط ستر البنات بالزواج فقط! ألا يمكن أن يكون ستر الفتاة في تربيتها على الدين والخلق الحسن؟ أصلا هذا هو الأساس، وهذا ما يجلب رجلًا وليس أشباه رجال حُسِبوا على الدولة ذكورًا بالخِلقة التي لا دخل لبشر فيها، بينما والدها فلا يكترث كثيرًا، هو فقط يترقب الوقت الذي ستعلن هي فيه موافقتها ليرى كم من المال سيضطر لتدبيره من أجل تجهيزها على أكمل وجه.
أمور سطحية تافهة غاية في الإحباط لشخص الفتيات اللاتي يبحثن عن الطمأنينة والأمان والسكينة، لا أحد يملك عقلًا سينظر لأمور الدنيا قبل الآخرة، ما عَرَفَتْه من هشام -ذاك المهندس الذي تقدم بطلبها- أنه غير ملتزم بالصلاة بسبب ظروف عمله، لم يقل أنه يحاول الالتزام! كادت تلقنه درسًا دينيًا أن الصلاة أول ما يحاسب عليه العبد، وأن العمل لن يغنيه عند الله شيئًا، وأن المرء يتسكع عن تأدية فروضه تحججًا، ليس العمل سببًا ولا السفر سببًا ولا حتى المرض سببًا في تقاعسه عن تلبية نداء الله، لكنها كتمت قولها في صدرها لما رأته يتابع الحديث عن القاهرة والأماكن التي يحب زيارتها، وكيف يقضي إجازته الأسبوعية برفقة أصدقائه وزوجاتهن... لم يُقصِّر في إبداء مظاهر الزينة الدنيوية أمام أذنيها رغبة في استمالة شغف التجربة لديها، لكنه لم يكن على علم أنها أصمَّت آذانها عن حديثه، ودفعت باب قلبها بقوة في وجه الرغبة، لم تشأ أن تجتر منه حقيقة أخرى عن حياته، فما قاله يكفي لأن تهجر المكان الذي يجالسها فيه، فلا هي على قدر دنياه، ولا هو على قدر آخرتها.. إلا إذا شاء الله له الهداية.
على ذكر الهداية، ابتسمت ساخرة لما تذكرت زوجة عمها وهي تقول لها:
- يا بنتي يهدي الله من يشاء، الراجل ما يتعايبش، فيه كل الصفات اللي تتمناها أي بنت، موضوع قربه من ربنا ده بقا يكون بينه وبين ربنا، وبعدين يا عبيطة ما أنتِ تقدري تسحبيه من إيده لطريقك وتاخديه في سكتك، وأهو تكوني كسبتِ ثواب هدايته كمان، وما خسرتيهوش كزوج مثالي في مجتمع نضيف.
صحيح أن الله يهدي من يشاء، لكنها ليست عالمة دين، وليست بالقرب الكافي من ربها والذي يجعلها تسحب أحدهم من قيعان الضلال لتلال الهداية، ما أدراها أنه لن يكون أكثر ثِقلًا منها فيجذبها هو للقاع بدلًا من أن تسحبه هي للقمة؟!
زادت ابتسامتها الساخرة لما استرجع عقلها جملة زوجة عمها "زوج مثالي في مجتمع نضيف"، زوج مثالي لامتلاكه وظيفة مرموقة، وشهادة محترمة، ومال وفير، كما أنه وحيد أمه، ألا يمكن تسميته "زوج مرتاح" بدلا من "زوج مثالي"؟ فأي مثالية هذه التي يراها الناس في شخص دنيوي؟ المثالية الحقة في شخص لا يبقى نائمًا والفجر ينادي، شخص لا يلهيه ماله أو دنياه عن تأدية فروضه، شخص يشارك أهل بيته أوقات فراغه بدل سهراته مع أقرانه وزوجاتهن، وما بال "مجتمع نضيف"؟ هل المجتمع النظيف مرتبط بالمكان وما تملكه لتعيش فيه؟ ألا يرتبط بنظافة قلوب ساكنيه؟! وأي قلب سيكون نظيفًا وهو بعيد عن درب الرب؟
جذبها من دوامتها التي تسقط فيها بشكل مستمر عقب ذهاب أحد خطابها من بيتهم- دخول أمها حاملة الهاتف في يدها، تحدثت وهي تدفعه تجاهها:
- عمتك على الخط، بتقول عايزاكي.
قالتها تاركة الهاتف بين يديها وغادرت. أغلقت أنفال عينيها بنفاذ صبر قبل أن ترد على عمتها، وبعد السلامات تحدثت الأخيرة:
- عرفت من أمك دلوقتي إنك رفضتِ الشاب اللي كان متقدم لك، أنا متصلة صدفة والله أسأل بس، بس طالما رفضتيه فالسيد ابني لسه مكلمني من شوية عن صاحبه عايز يخطب وكده، وقال لي أسألك، وبصراحة هو السيد أصلا كلمه عنك والشاب عايز ييجي، أقول للسيد يجيبه ولا نقفل على الموضوع بيننا؟ أنا ما قلتش لأمك ولا أي حد يعرف غيرك.
تحدثت بعد تنهيدة:
- ينور في أي وقت يا عمتي، باب البيت مفتوح.
- طيب يا حبيبتي يبقى على خير يا رب، والله السيد بيشكر فيه أوي، وبيقول إنه ملتزم ومحترم زي ما بتتمنيه أنتِ وأكتر، حتى أنا قلت له لو يديني صورته عشان تشوفيه قبل ما ييجي و...
قاطعت عمتها سريعًا وعقلها يستنكر ما تقول:
- صورة إيه بس يا عمتي؟ أمال هو البيت مفتوح ليه؟ ما هو عشان أشوفه ويشوفني، كلموا بابا واللي فيه الخير ربنا يقدمه.
- ماشي يا حبيبتي ربنا يعمل لك الصالح كله يا رب.
أنهت معها المكالمة وهي تزفر شهيقًا كان يضغط على صدرها، ثم ولت وجهها لكتاب الله الساكن فوق منضدة غرفتها، اقتربت حاملة إياه طلبًا لحديث من ربها إليها، عله يُبدي لها إشارة خير قريب.
------*------*--
"اليوم مر بالضبط والتمام ست سنوات على مغادرة أنفال هذا البيت، كل شيء هنا على أكمل وجه من الحزن، كل الأشياء تفوح منها رائحة الحنين: في ذاك الركن كانت تجلس عائشة تحيك شالًا من الصوف من أجل المولودة القادمة، وفي تلك الزاوية أتاها الطلق الأول، لكنها كانت تكتم أنينها كي لا توقظني وأنا ممدد فوق الفراش، بينما هناك في الشرفة المطلة على حمام السباحة كنت أقف مراقبًا إياها وهي تنام على ظهرها وترفع قدميها قائمة ببعض التمارين التي أوصتها بها طبيبتها، كذلك في المطبخ.. أجل المطبخ كان مكان عائشة المفضل، كنت كلما عدت من العمل أشم رائحة الزبد مرة والزعتر مرة والشواء مرات، وحينما أسأل عنها أجدها تدندن وهي تُزين الطعام الذي سيخرج لنا، كان الخدم جميعهن يحبونها، لم تُشعر أي واحدة منهن أنها خادمة، كانت دائمة التعاون معهن، تعاملهن كصديقات، حتى في أوقات الفراغ تجالسهن بالحديقة وتبدأ في سماع ثرثرتهن، كانت حنونة عطوفة وهادئة رغم الصخب الذي كانت تملأ به البيت!
تزوجتها دون رغبة من أهلي، بل ودون رغبتها هي، شبه اشتريتها من والدها الذي باعها لي مقابل صفقة رابحة له لمَّا علِم بوقوع قلبي لها، سلكت كل الدروب الممكنة لقلبها، وهي لم تكن بمتمردة في الواقع، خِفتُ بداية أن يكون استسلامها لي مجرد استسلام لأمر واقع، لكني أدركت مع مرور الوقت والمواقف أن استسلامها كان بِغيَّة الخلاص من أبيها، ذاك الذي كان يريد تزويجها من رجل أعمال يكبرها بأعوام تعادل عمرها، كله من أجل المال، كنت أعلم منذ البداية بجشع أبيها، لكني ما كنت أعلم أنه يفعل ذلك لضرب عصفورين بحجر، من جانب يضمن المال، ومن جانب آخر يُبعِدها عمَّن أحبت من بني عمومتها، لمست الرفض في تعابيرها يوم جالستها لعرض الزواج عليها، لكن منطوق لسانها أتى على غير ذلك، فقد ويا للعجب وافقت.
لم تحبها أمي، ولم يرتح لها أقرب الأقربين لقلبي (نعيم)، ذاك الأخير الذي حاول مرارًا أن يدفعني عن إتمام زيجتي بها، وهو من أخبرني أنها واقعة في حب أحد بني عمومتها، لكن هذا لم يهمني ولم يشغلني، فهي وافقت عليّ رغم حبها لآخر، أليس هذا كافيًا لأن أجعلها تبدأ من جديد معي؟! سارت حياتي معها على وتيرة من الراحة، كانت تُجيد ضخ الحب بقلبي كلما ابتسمت، وتُتقِن جعلي أغرق فيها من مجرد قُرب..
بدأت حياتي معها في شقة ببيت العائلة، لكن أمي كانت تُضيق الخناق عليها من كل اتجاه، وحينما رأيت منها الصمت والاستلام بعد أن بدأت أمي بتلميحات عن الإنجاب قررت عزلها، كان القرار نابع من داخلي وعقلي، وهي لم تشاورني بالأمر، لا بالقبول ولا بالرفض، فقط قالت: طالما هكون معاك ما تسألنيش عن حاجة. تغيرت أمي تمامًا، وكنت أدرك يقينًا أن هذا التغير ليس إلا للإبقاء عليّ حتى لا أغادر، لكني غادرت.. ومن هنا بدأت الحياة بحق، رغم أن نكهتها المميزة اختفت بانسحاب نعيم عن حياتي لكوني اخترتها عليه، إلا أني كنت واثقًا أنه سيأتي يوم ونعود فيه كما لو أن ما بيننا لم يحدث، وهذا الوقت وشيك، فقط ما إن يُشرِّف المولود الذي علمت أنها حملته بعد انتقالنا بثلاثة أشهر فسيأتيني نعيم راكضًا قبل أهلي نفسهم.. لكن ما جرى في شهر عائشة الرابع قلب موازين حياتي رأسًا على عقب..."
وقفت الأوراق في يدها عند هذا الحد، لم تجد المزيد من الحديث المكتوب، رأته منذ يومين وهو يغوص بموجة الكتابة هاته في ركن الغرفة، تظن أنه ذات الركن الذي كانت تحيك فيه عائشة شال المولودة الصوفي، فليس بالغرفة غير ركن واحد صالح للجلوس فيه!
جففت وجهها من أثار الدموع التي ما عادت تبرحها، صحيح أنه لا مشاعر بينها وبين مصطفى، وصحيح أنها بلغت من العمر ما يجعلها تخجل أن تنظر للأمر من جهة الغيرة، لكنها امرأة، وليس هناك من امرأة تقبل أن يفكر زوجها بغيرها، حتى وإن كانت زوجته المتوفاة، لا يحق له أن يطعنها بحب امرأة أخرى، لقد وافقت على هذه الزيجة هربًا من مشاكل العمل التي تُهدم فوق رأسها بسبب تدخل أهل زوجها فيها من أجل الانتقام منها، بل ولم تفكر في أن تُغير من حياتها للأفضل وتحياها من جديد، لكن كل هذا لا يعني أن تُخَان منه على يدِ امرأة باعت شرفها وطعنته في رجولته، ثم رحلت تاركة له قطعة من فعلتها النكراء.
صوت اصطكاك إطارات السيارات بالخارج جعلها تفيق سريعًا، وضعت المذكرات حيث هي، رتبت المكان كما كان، وأطفأت الإضاءة وخرجت من الغرفة سريعًا، وفي نيتها أن تُحسِّن من هذه الحياة التي هي أشبه بالماء الراكد.
------*------*------
يتبع...
أنت تقرأ
أنفال
General Fictionمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...