الفصل التاسع عشر

417 42 7
                                    

الفصل التاسع عشر)

تجلس في حديقة البيت، تقرأ كتابًا يحمل عنوان "رياض الصالحين"، ويقبع أمامها كوب من الليمون البارد ذا مكعبات الثلج، وبعض ورقات من النعناع تُزين وجهه، تود رشفه، لكن شكله يجعلها تتراجع طمعا في رؤية أناقته أمامها، ضحكت على هذه الفعلة وهي ترفعه إلى شفتيها تتذوق طعمه الفريد الذي لطالما أنعشها وأراح ذهنها من أي شوائب فِكر سحيق يراودها كل ليلة..

انتبهت لصوت رزان آتية من خلفها:
- الليمون كان بيقشعر جسم آدم، وبعد ما كنت بحبه زهدته عشانه.
ابتسمت أنفال ابتسامة متوترة وهي ترد:
- ربنا يعوضنا عن كل غالي فقدناه.
- آمين يا رب...

صمتت لثواني عدلت فيهم من جلستها أمام أنفال، ثم سألت مهتمة:
- كلميني شوية عن الحجاب يا أنفال.

فاجأها طلب رزان التي بدا على وجهها الاهتمام بحق، هذه أول مرة توضع في هذا الموضع أن تتحدث شفهيًا  بدلًا من الكتابة، ولا تدري إن كان لسانها قادرًا على قول ما بداخلها أم لا، لربما هو اختبار من الله لها، ولربما تكون بقولها سبب هداية رزان، لقد أخبرتها الخالة أن أجر هداية العبد عظيمة، وأنها وإن لم تستطع أن تكون سببًا في هدايتها فبالتأكيد سيؤجرها الله على المحاولة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في حديثه: "الدال على الخير كفاعله."، وكذلك قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا."

انتبهت مما وقعت فيه على قول رزان تسأل:
- أنتِ كويسة يا حبيبتي؟

أومأت أنفال سريعًا وهي تبتلع ريقها مع وضعها الكتاب من يدها فوق الطاولة، ثم أخذت شهيقًا كبيرًا أخرجته على مهل وهي تبدأ حديثها محاولة انتقاء كلماتها بعناية كي تحبب رزان فيما يُقال دون النفور منه:
- الحجاب هو العفة والوقار والحياء لكل مسلمة، بيحفظنا من النظرات، ويحمينا من الشعور بالدنو، بيغلينا في عيون أنفسنا وذوينا، هو أشبه بحصن منيع لجسم المرأة، وبيبعدنا عن الشهوات وييبعد الرجال عن الشهوات كمان، لأن عورات المرأة الظاهرة للعيان سواء بقا بالشفافية أو بالوصف تثير رغبات الرجال، وده ربنا نهانا عنه وأمرنا بالستر عشان نمنع العيون الطامعة فينا، فقال في القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ".

رفعت كتفيها كأنها تحاول انتقاء ألفاظ بسيطة يسيرة من أجل إيصال ما لديها من معلومات دون أن تُثقِل على زوجة أبيها بما قد لا تكون على فهم له، تابعت:
- طبعا هو فيه ناس كتير تطلع تقول: "الحجاب كبت للمرأة، وإن المرأة بطبيعتها بتحب الجمال، وبتحب تبرز أنوثتها..." كلام من ده كتير واللي بيخلي ضعيفات القلوب يتخلوا عن حجابهم، طبعا الرد على الناس دي بيتلخص في إنهم بيعرضوا أجسادهم للناس بِرُخص، وده لأن ربنا غلَّانا بإننا نكون على ستر وما نبينش الجمال ده غير للي يستاهل يشوفه، شخص يكون دخل بيتنا من بابه وطلبنا في الحلال، شخص هيحافظ علينا ويغلينا.

ابتسمت وهي تضيف معلومة قد سعت لمعرفتها وحدها دون أن تقولها لها الخالة منال:
- ربنا أمرنا بالحجاب بعد ما أمر الرجال بغض البصر، يعني الآية بتقول: "قل للمؤمنين يَغضوا من أبصارهم."، وبعد كده قال: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن"، وده إثبات إن ربنا حقق لنا في المجتمع وجود احترام متبادل بين الرجال والإناث، عشان طبعا بيطلع رجال يقولوا إن النساء أذوهم بهدومهم المكشوفة، وينسوا إن ربنا أمرهم هما الأول بغض البصر، وده ما بيبرأش الأنثى المتبرجة طبعا، لكنه بيحطها في المرتبة الثانية من الأمر، وده لأن الأنثى بتطلع من بيت فيه على الأقل راجل.

رفعت نظراتها تجاه زوجة أبيها تقول ما تُنهي به حوارها في هذا الموضع:
- النهار دا بنلاقي العلم بيتناسب عكسيًا مع الأخلاق، يعني كل ما واحدة تزيد في العلم أخلاقها بتقل، ولما حد يسألها ليه، ترد إن دي تطورات مجتمع وعقول! وكمان الشهرة، نفس الحوار بالظبط، كل ما البنت شهرتها تزيد كل ما حجابها يقل مرة في مرة لحد ما تبقى متبرجة بشكل مخزي، الكلام ده مش عمومي طبعًا، هو إلا من رحم ربي.. كل تأثرنا دلوقتي تأثر بالغرب، بيتحرروا تحت مسمى التطور والرقي، ولما تواجهي الواحدة منهم بالآيات والأحاديث الصحيحة تلاقيها بتجادل في إن الحاجة دي تقصد معنى تاني غير الحجاب.. أو إن المجتمعات ارتقت، أو إن الدين يسر مش عسر.. بقينا في زمن غريب بجد، ربنا يرحمنا.

أنهت قولها بتنهيدة أخذت معها أمنية قلبية أن تتغير زوجة أبيها لامرأة أخرى، هي امرأة جدية وثيابها غير فاضحة ولا تصف، لكنها ترتدي البنطال الواسع وهو تشبه بالرجال، علاوة على أنه يلتصق على قدمها حينما تصفعها موجة هواء، ولا ترتدي حجابًا، لكنها أيضًا لا تبدي زينتها، تتمنى لو أنها تلتزم كليًا بأمر الله ما دامت لا تبحث عن لهو الدنيا وزينتها...

بقي الجو صامتًا بينهما بعضًا من الوقت، قطعت رزان هذا الصمت وهي تقول مبتسمة:
- نعيم هيخلص أوراق سارة خلال أسبوع، هييجوا ناس يقيموا معيشتنا ويشوفوا إذا مناسبة لسارة ولا لأ، الموضوع كان صعب شوية مع وضعها بس نعيم اتصرف.

ابتهج قلب أنفال مما جعل وجهها يشرق فجأة وهي ترسم أجمل ابتسامة مع قولها:
- بجد! أنا متشكرة أوي.

ابتسمت رزان بصفاء لها وهي تمسك بيدها قائلة:
- الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذه."
أشارت بسبابتها والوسطى كما وصف الرسول الكريم، ثم أضافت براحة كبيرة:
- ما أعرفش ازاي ما فكرناش في الموضوع ده قبل كده، حقيقي أنا ممتنة ليكِ يا أنفال، الواحد محتاج يتطهر شوية من ذنوب الحياة وضغوطها.

تنهدت قبل أن تضيف بيقين:
- أنا متيقنة أوي إن ما فيش حاجة في الدنيا بتحصل بدون سبب، كل حاجة ربنا مرتبها، حتى فقداني لابني اللي ما لحقش يشوف الحياة واثقة إن وراه سبب وترتيب من ربنا، واللي حصل في حياتنا كلنا الفترة اللي فاتت كان ترتيب من ربنا لهدايتي.

رفعت نظراتها لأنفال وهي تقول مبتسمة في وجهها:
- قررت أتحجب، وألتزم في الصلاة، وأعوضك أنتِ وسارة عن كل اللي فقدتوه، ده وعد يا أنفال.

تأثرت أنفال بما قالته زوجة أبيها، فترقرقت الدموع بعينها، لكنها حاولت ألا تحررها وهي ترسم بسمة هادئة على شفتيها وعينيها، كأنها تسمح لها بأن تفي بوعدها مع مرور العمر.

قطع جلستهما قدوم مصطفى الذي كان يراقب حديثهما الذي لم يسمعه، لكن أعجبه كثيرًا مظهرهما وهما يتحاوران، تحدث وهو يقترب من مجلس أنفال:
- جمعة طيبة عليكم.

أنهى جملته وهو يضع يديه على كتف أنفال ويطبع قبلة على رأسها من الأعلى مما دب كهرباء قوية في سائر جسدها، شعور جميل، جميل! جميل كلمة لا تفي هذا الشعور قدره، إنه شعور دافئ، دافئ جدًا.

جلس بينهما وهو يسأل عن صحة رزان، تحمدت الله وهي تضيف:
- أنا قررت ألبس الحجاب يا مصطفى.

مباشرة ارتفعت نظرات مصطفى إلى أنفال التي وجهت نظراتها للأرض، وسريعًا ما اعتذرت مغادرة جلستهما تاركة لهما حرية الحديث قليلًا، ربما هما بحاجة لترميم شيء ما بينهما، يكفي ما سبق من عذاب، ليحاول الجميع تجميل ندبات قلبه كي يستطيع متابعة العيش.

دخلت غرفتها، جلست إلى فراشها متنهدة، تذكرت جهاز الكمبيوتر والإنترنت، كيف تطلب شيئًا كهذا منهم! طرأت الخالة منال على فكرها، فقررت أنها مع ذهابها لها في الغد ستطلب منها هي أن تعاود توصيل الإنترنت لها لمتابعة بعض الكتاب الحديثين.

------*------*------

ولج لمتجر زهور أنيق كبير، ابتسم لصاحبه وهو يقول له:
- أنا أول مرة أشتري ورد، ممكن تعمل لي بوكيه على ذوقك؟
- المناسبة إيه يا فندم؟

هكذا رد البائع، فتردد آدم وهو يحاول إيجاد رد وسط لنيته:
- يعني خطوبة وانفصال في نفس الوقت.

تعجب البائع وهو يسأل:
- نعم؟

ابتسم آدم وهو يرد:
- زي ما بقول لك كده، في الحالتين عايز حاجة شيك وراقية، يعني البدايات والنهايات أخلاق، ولا إيه؟

سأل آخر جملته وهو يغمز له، ابتسم البائع ابتسامة مهزوزة متعجبة، ثم بدأ يرتب له مطلبه، بينما خرج آدم يقف جوار صاحبه الذي طلب منه أن ينتظره بالخارج، لم يتأخر البائع في ترتيب باقة أنيقة من ورد طبيعي ملون، ابتسم آدم له وهو يدفع ثمنها الضعف، ثم غادر قاصدًا بيت العائلة، وصل عند الباب هو وصاحبه الذي يتابع أفعال آدم بتعجب ويدعو داخله أن يمر هذا اليوم على خير.

دخلا حيث حديقة البيت التي بدأ الضيوف يتوافدون إليها، كان يبتسم لكل من يقابله، كأنه ليس هو، كأن هناك ضربة قوية أصابته فأفقدته تصرفاته الطبيعية، وصل لباب البيت، استقبله جده بابتسامة يراها للمرة الأولى، ألهذه الدرجة هو سعيد لتحقيق مراده! ألهذه الدرجة كانت أمه غصة في حلقه كي يحرمها إياه ويحرمه إياها! ألهذه الدرجة كبرياءه وكرامته وكلمته أهم عنده من مشاعر ذويه؟! يُشفِقُ على ذاته من هذا الموقف الذي يقف فيه الآن، هو مقبل على صفع هيا صفعة ستفقدها الثقة بنفسها، وسيطعن جده في مقتل، لا يدري نتيجة لما هو قادم على فعله، لكن مهما كانت النتيجة فتراجعه عما قرره الآن أصبح مستحيلًا.. الشر ليس صفة يكتسبها الإنسان، وإنما يطفح من داخله عندما يساعده أحدهم على ذلك، وما فعله جده لا يُغتفر، ولا يُرد بخير أبدًا.

اغتصب ابتسامة على وجهه وهو يقف قِبالة جده، ثم تقدم من زوجة عمه التي تنظر له بأسف حقيقي لما هو فيه الآن، مال إلى رأسها مقبلًا إياها، ثم قال بصوت بالكاد سمعته هي:
- سامحيني.

لم تفهم قصده من هذا القول، لكنها حاولت أن تبدو طبيعية، على الأقل أمام الجد كي لا يدرك ما فعلته من فضح أمره، انتقل آدم إلى عمه الفاقد لكل مشاعر الإنسانية، من يراه لا يظنه والد عروس، بل لربما تمثال العروس! صافحه دون أي حديث، عاود آدم الوقوف أمام جده وهو يسأل إن كانت هيا مستعدة، أشار الجد للغرفة التي تتجهز فيها، قال وهو يتقدم آدم:
- هطلعها لك دلوقتي.

سار آدم من خلفه، وكله شغف لما هو قادم، أخيرًا سيتذوق طعم الانتقام، رغم أن كل ما مر على معرفته الحقيقة يومان، لكنه يشعر أنهما سنوات طوال، وأن هذه اللحظة طالت حتى جعلت منه رمادًا انطفأت ناره، ولهيب ضرب حصا غير مقصود أعاد إشعاله، ليتأكل ويأكل ما تبقى حوله.

انتبه من كل ما سقط فيه على خروج الجد ممسكًا بيد هيا التي ترتدي فستانًا طويلًا شفاف الأكتاف، وتسريحة شعر أنيقة، ولمسات من مستحضرات التجميل لم تجذبه لها لكونه يراها به كل يوم! وصل بها الجد إليه وكلها خجل، أعينها لم ترتفع عن الأرض، يا للسخرية! مد يده بما يحمل من باقة ورد، أخذتها منه والسعادة تنطق من عينها، بادلها الابتسامة بأخرى لم ترتح لها، مد يده يمسك بيدها، فاستسلمت لذلك، لكن قلقًا غريبًا احتل قلبها مع بسمته هذه، حاولت أن تتلاشى الأمر كله، وأن تسعد بهذه اللحظة.

بدأ الحفل بموسيقاه المعروفة، طُلِب من آدم وهيا أن يقفا للرقص سويًا، لم يتردد آدم وهو يطلب ذلك من هيا التي لا تصدق كل ما يحدث الآن! هل أحبها! هل بدأ يشعر بها كما تمنت دومًا! كل ما يحدث الآن لا يوحي إلا بذلك! لكن قلقها أكبر من أن يتركها تشعر بلذة هذه اللحظة.

على جهة أخرى يقف يزيد، يتابع تحركاتهما الهادئة على نغمات موسيقى مناسبة لفستان هيا، جميلة هي بكل أوضاعها، لكنها ما عادت تصلح له، ما عاد صحيح فكرة أن يفكر بها أبدًا.. هناك وجع بقلبه، لكن ما دام هذا الوجع في سبيل سعادة آدم، فمرحبًا بضِعْفه.

سألت هيا غير قادرة على حجم فضولها:
- هو إيه اللي تغير؟

رفع حاجبيه بعدم فهم مصطنع، فتابعت سريعًا توضح مقصدها:
- يعني ما كنتش متوقعة إنك تكون مبسوط، وإنك حتى تهتم بإنك تجيب لي بوكيه ورد!

ضحك وهو يبرر:
- بصراحة يزيد اداني درس في التفاصيل اللي بتحبها البنات، وأنا حاولت أهتم بأهم يوم في حياتك، ولا ده مش أهم يوم؟

نظرت له بأعين كلها ترقب، ليست مرتاحة أبدًا لهذه اللهجة وهذا الوضع، توترت وهي ترد:
- طـ طبعا.. طبعا أهم يوم طبعا.

أومأ لها وهو يتابع مشاركتها الرقص في صمت، كلما مرت الدقائق تقربه من بغيته، وهذا تحديدًا ما يرنو له منذ... ربما منذ أن جُرِّد من اختيار حياته! مر وقت لا بأس به بين الرقص حينًا والترحيب بالضيوف حينًا، وارتداء الخواتم حين آخر، وانتهت الليلة على رقصة أخيره لهما شارك فيها الضيوف، كل رجل بامرأته.. وحينما حانت النهاية بالتصفيق، تحدث آدم لهيا:
- مبسوطة؟
- أكيد.

قالتها بنبرة مهزوزة، قلبها يكاد يتوقف من شدة القلق، وملامح آدم التي تبدلت كليا للغموض المثير للأعصاب جعلتها على وشك البكاء ليرحمها من قلقها من هذه الحالة، كأنه شعر بها وأراد أخيرًا تفجير ما يحمل بجعبته من بغض وكره وُلِدا بقلبه لها منذ أعلنت موافقتها على الخطبة من رجل رفضها دون تزيين أو تجميل للأمر، ابتسم وهو يرفع يده حيث يرتدي خاتمها، خلعه ببطء مميت، ثم رفع يدها وهو يضعه فيها قائلًا بنبرة متشفية:
- وأنا دلوقتي بقيت مبسوط، كده تعادل.

نظرت لخاتمه بين يديها، ثم رفعت نظراتها المليئة بالدموع إليه تسأل دون النطق عن مقصده، المكان هدأ تمامًا من كل الأصوات، والكل في ترقب، تراجع آدم خطوة للخلف وهو يرد على سؤال لم تسأله:
- أنا مش موافق أرتبط بواحدة مش حاسس تجاهها بأي شيء، أنا كده لبيت رغبة جدي وما كسرتش كلمته، وافقته على تحديد مصيري وحياتي عشان ما يكسرش ابني في المستقبل ويحرمني منه زي ما حرم أمي مني انتقامًا منها عشان اتجوزت أبويا، أبويا اللي رفض أبوه يحدد له حياته.

التفت بنظراته لجده الثابت تماما في مكانه، قال وهو يقترب منه:
- بس أنا بقا مش زي أبويا، أبويا حاول ياخد السماح منك بعد ما اختار رزان، رزان اللي قتلتها وهي على وش الدنيا بخبر موت جوزها وابنها وأنت خاطف ابنها ومسفره بره مصر، ومفهم ابنها إن أمه وأبوه ماتوا في نفس الحادثة.

ضحك بقلة حيلة شاعرًا أن غصته تزداد ودموعه على وشك السيلان، أضاف:
- أنا مش زي أبويا، أنا مطيع، وحققت لك رغبتك، لبست حفيدتك دبلتي، ولبست دبلتها، خطبتها رسمي قدام كل الناس، وانفصلت عنها قدام نفس الناس.. وده مش انتقام للي عملته في حياتي، ده رد دين ليك في رقبتي.

قال جملته وتراجع خطوتين للخلف، فأصبح بين هيا وجده، نظر تجاهها وهو يقول مبتسمًا:
- قلقك كان في محله يا بنت عمي، بس أنا سبق وقلت لك فكري في اختياراتك عشان الاختيار الغلط مش هيبقى صح بعد ما تندمي عليه.

أومأ يؤكد كلامه، ثم غادر المكان كله تاركًا سيارته، وقبل أن يخرج من باب البيت الكبير، أخرج محفظته، فتحها وأخرج منها فيزا البنك التي خصصها له جده، وضعها على أول طاولة أمامه ثم خرج تاركًا الصمت يضرب قلوب البعض وعقول البعض الآخر.

ركض يزيد خلفه، لم يقترب منه يجاوره المسير، فقط بقى في ظهره، يسير خلفه دون صوت، يعطيه مساحة أكبر للصمت، ما هو بحاجته الآن ليس إلا العزلة، وهو لن يحرمه إياها، لكنه سيكون على مقربة منه حماية له من نفسه.. هذا هو المعنى الدقيق للصداقة.

------*------*------

يتبع...

أنفالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن