الفصل الخامس عشر

430 41 3
                                    

(الفصل الخامس عشر)

نزل ثلاثتهم من السيارة أمام باب البيت، عقد مصطفى بين حاجبيه في شعور غريب، هناك تغييرات ملحوظة على المكان بأكمله، البوابة الخارجية ولونها، باب البيت ولونه، دهان البيت من الخارج، مزروعات الحديقة، مجلس الحديقة، رائحة المكان ما عادت راكدة، بل.. بل منعشة! هناك رعشة طفيفة سرت عبر طول فكه وهو يلِج من باب البيت، كل الألوان أصبحت أكثر إشراقًا، ورغم أنهم في الليل إلا أنه يشعر أن الشمس ترسل بأشعتها في كل الأركان.. التفت بنظره لرزان التي ابتسمت متوترة وهي تبرر:
- حبيت بس أجدد الـ...
- شكرًا يا رزان.

تأثرت من الكلمة، كأنه قال "أحبك"، هكذا شعرت بها! نفت دون حديث كأنها تخبره أنها ما فعلت غير ما وُجب عليها، كان عليها أن تفعل ذلك وأكثر منذ زمن بعيد جدًا، لكنها أصبحت مؤمنة أن لكل شيء وقته. كانت على وشك أن تعرض عليه الاستراحة بغرفته، لكن صوت وصول سيارة حال دون ذلك، انتفضت كل شعرة في جسده وهو يخمن هوية القادمة، دوار خفيف داهمه، لكنه حاول التماسك، كل عواطفه اختلطت، الدموع كأنها تشاركه الاشتياق فاهتاجت بين جفنيه، التوتر كان حليفه، كيف شكلها الآن؟ هل ما زالت سمراء البشرة؟ أما زالت بنية الخصلات؟ طولها.. هل طال عودها؟ نحيفة هي أم سمينة أم عودها مناسب لعمرها وطولها؟! يتساءل عقله كأنه لن يراها بعد أقل من دقيقة، كل الأجواء صمتت، حتى الهواء توقف فجأة يشهد على هذا اللقاء، نعيم يبتلع ريقه غير قادر على مجاراة إفرازاته، ورزان تقف بترقب وخوف من أن تسوء حالة مصطفى نظرًا لشدة التأثر، إضافة لهذا الألم بنهاية ظهرها، والذي لم يفارقها.

ترجلت منال من السيارة، لكن الباب الآخر لم يُفتح، ولم تطل منه أنفال، ضرب قلب مصطفى طبولًا في خشية من أن تكون الفتاة رفضت العودة، لماذا منال وحدها؟ زجاج السيارة أسود من الخارج، لا يسمح لمن بخارج السيارة رؤية من بداخلها، انتبه من دوامته على وقوف منال أمامه، تحمدت الله على سلامته، وباركت لرزان حملها مرة أخرى، أومأت لنعيم بتحية صامتة، ثم تحدثت تشير للسيارة:
- هي.. أنفال نايمة، وصعب أصحيها.
- ليه؟ فيه إيه؟ هي تعبانة؟ فيها حاجة؟
قالها مصطفى مندفعًا إلى السيارة، لكن نعيم أمسك بيده وهو يقول في محاولة لطمأنته:
- خليك يا مصطفى أنا هجيبها.

تحرك تجاه السيارة، وقبل أن يفتح بابها تحركت منال تجاهه، وقفت حائلًا بينه وبين الباب، عقد حاجبيه بعدم فهم، وقبل أن يسأل عما بها قالت:
- حضرتك هتعمل إيه؟
- هشيلها أوصلها أوضتها؟
قالها نعيم بكل مسالمة، فردت وهي تنفي بهدوء تام:
- ما ينفعش يا بشمهندس، حضرتك أنا هحاول أسندها لحد أوضتها.
- إيه ده اللي ما ينفعش!
- حضرتك أنفال ما بقتش الطفلة الصغيرة اللي مشيت من هنا، أنفال دلوقتي آنسة، كبرت وما بقاش ينفع حتى تمد إيدها لحضرتك بالسلام.

كان نعيم على وشك التحدث بعصبية مفرطة لما يسمعه منها، الفتاة هي ابنة صاحبه، أي في مقام ابنته هو شخصيًا، كيف لن تُسلم عليه! حالت دون كل ذلك يد رزان على ذراع نعيم وهي تبرر بهدوء:
- أنفال دلوقتي متربية على مبادئ سليمة يا نعيم، الدين.

قالتها كأنها تستلذ بالكلمة، لم تكن تعلم أن هذه اللذة ستتحول لطمع في سباق، ورغبة جامحة في أن تكون على شاكلة أنفال التي فتحت الباب بهدوء بعد أن استيقظت من نومتها، وقف الكل في ترقب، خرجت قدما الفتاة دون أن يظهر منهما أي شيء، ترتدي جوربًا داخل حذاء رياضي مغلق على قدمها بإحكام! شيء ما واسع بني اللون انكشف بعد أن وقفت أمامهم كونه فستان طويل يصل للأرض، حجاب أبيض طويل يغطي صدرها وظهرها وكتفيها، لا يظهر منها غير كفين صغيرين لفتاة قصيرة الطول، ووجه بدا شاحبًا.

نظرت مباشرة تجاه نعيم الذي انتفض قلبه بداخله، يرغب في ضمها إليه، يود لو يقبل كل إنش برأسها ويرجوها مسامحته، لم يلتفت لثيابها التي تشي كونها ملتزمة كليًا بتعاليم دينها، لم تخبره يداها المتعانقتان أمامها أنها لن تمد يمناها لمصافحته وتتنازل عن مبدئها نظير ألا تحرجه.. لم تخبره عيناها اللتان تناظرانه بتفحص كأنها تبحث عن أبيها فيه غير قاصدة إطالة النظرة، سقطت أعينها أرضًا في الحال لما لم تجد شعورًا يدفعها تجاهه، تحركت خطوة تتمسك بذراع منال التي ربتت على يدها تطمئنها، اقتربت رزان راسمة أجمل ابتسامة قد ارتسمت على وجهها يومًا، أمسكت بذراع أنفال وهي تقول مرحبة:
- نورتِ بيتك يا ست البنات، حمدًا لله على سلامتك.

تطلعت أنفال بوجهها والصمت ما يزال يسيطر عليها، رزان تجالسها طاولة الطعام دون كلمة، تعود من العمل وتراها بالحديقة لكنها تمر دون حديث، رزان تركض خلف مصطفى ترجوه التريث وعدم المساس بالفتاة، رزان تصرخ في منال أن تتحرك بالصغيرة من المكان، رزان تأتي لبيت غريب ضمها هي والخالة عددًا من الليالي دون أن تتحدث إليها، رزان تقف جوار أبيها في صورة جمعت بين ثلاثتهم.. رزان حامل...

كلها ذكريات تحمل اسم رزان، وكلها ضربت ذاكرتها بقوة جعلتها تتعجب المرأة الواقفة أمامها، أهذه المبتسمة هي رزان الجامدة؟! هي رزان الباردة! هي رزان التي لم تشعر تجاهها لا بالحب ولا الكره! لماذا تشعر بالدفء موضع يدها على كتفها؟ ولماذا الصدق ينبعث من بين ابتسامتها؟

انتفضت على صوت لم يفارق سمعها مذ كانت طفلة، اسمها يخرج عن حنجرة ميزت صوتها دون أن ترى صاحبها، الدموع تستعد، الهواء ضرب المكان بقوة كأنه يصفع الأجساد كي تستفيق، رعشة أمسكت بجسدها، ظهر من خلف ذاك الرجل الذي رأته أولًا رجل خطوات العمر بادية على وجهه، صورته تروح وتجيء مع الموقف، ذكرياته المعدودة تضرب قلبها قبل عقلها، اقترابه منها جعلها تعود للخلف خطوة، توقفت وهي تشعر بالسيارة من خلفها، صوته الذي يصرخ ويسب، وجهه الثائر بغضب، آخر لقاء بينها وبينه لم يكن جيدًا بالقدر الذي يجعلها تركض لأحضانه الآن تشكوه أيامها دونه، تعاتبه على غيابه، ترجوه الحنان الأبوي الذي حُرِمت إياه.

وقف مكانه دون قدرة على التقدم أكثر، رؤيته لها خائفة منه بهذا الشكل صلبت جسده وجعلت قلبه يتفتت لألف قطعة، هنا وجرت دموعه، وضعف جسده، فكاد يستسلم للسقوط لولا يد نعيم الذي قال محاولا تقليل حدة الموقف:
- خلونا ندخل جوه، مصطفى تعبان جدًا ولازم يرتاح.

أخافتها جملته، مما يعاني أبوها؟ يبدو متعبًا بالفعل، قبل أن تسترسل في تفكيرها رأته يميل إلى الأرض مستفرغًا، ركضت رزان إليه وأخذت تمسد ظهره، بينما جلس نعيم أرضًا بجواره يمسد ظهره هو الآخر ممسكًا بكتفه يبثه القوة والثبات، يغمغم في أذنه بكلمات تشجيعية كي يبقى قويًا للنهاية، يخبره أنه مر بالأصعب، وأن الحياة بدأت تضحك له بعودة ابنته، كان مصطفى يومئ باستمرار كأنه يحاول تثبيت حديث نعيم داخل عقله، تنفس بعمق، واستند على يد رزان كي يتمكن من الوقوف، آلمت نعيم حركته هاته، لكنه ابتلع غصته وهو يُذَكِّر نفسه أن الجرح الذي تسبب به لصاحبه لم يكن سطحيًا، بل هو غائر، ولا يدري إلى أي مدى سيحتاج للوقت حتى يلتئم، ويتمنى من كل قلبه ألا يترك هذا الجرح ندبة في علاقتهما.

وقف بدوره ينظر لأنفال الباكية والمتشبثة بذراع منال التي تحاول أن تهبها الاطمئنان بالتربيت على يدها، تحدثت رزان:
- خدي أنفال ترتاح من السفر يا منال.

أومأت منال وهي تحتضن الفتاة وتسير بها، بينما بقيت أعين أنفال تحتضن الأرض من تحتها، كلما نظرت لأبيها تراه على آخر حالة رأته بها قبل أن ينقطع كل خبره عنها. وصلت الغرفة التي تحمل من الذكريات سنوات، ومن القصص التي قصتها الخالة عليها كل ليلة عشرات، ومن فروضها الكثير، ابتسمت دون شعور وهي تنظر للستائر التي تحمل رسومات الكارتون المفضل، الحائط كذلك، كل شيء بالغرفة على حاله، تجددت فقط دون أن يمسها أحد بتغيير، اتسعت ابتسامتها حتى صدر لها صوت وهي ترى دمية (شلبي سلوفان) على فراشها، تحركت إليه ورفعته، بدأت تمسد الفرو الخارجي كأنها تبين له اشتياقها، ابتسمت لها الخالة وهي تذكرها:
- ما صليناش العشاء يا حبيبتي.

أومأت أنفال، وتحركت كي تتوضأ، خلعت عنها حجابها، وكأنها لم تفارق هذه الغرفة؛ فقد اتجهت مباشرة لدورة المياه الملحقة بالغرفة، ابتسمت منال لذلك، وقد تمنت من الله أن ينصلح هذا الحال، فعلى ما يبدو أن  التغيير لم يكن بالبيت وحده، بل لحق بأصحابه.

خرجت الفتاة تلف حجابها انتظارًا لانتهاء الخالة من الوضوء، أمتها الأخيرة ثم قررتا النوم حتى إشعار آخر، فالأجساد كما القلوب متعبة...

------*------*------

أنفالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن