(الفصل الثامن)
أنهى محاضرته لهذا اليوم، وخرج قاصدًا المكتبة، لكن رنين هاتفه أوقفه، أجاب فإذا بيزيد يقول دون مقدمات:
- لو فاضي خلينا نتقابل، محتاجك في موضوع مهم.
- نفس الكافيه؟
- نفس الكافيه.
أنهى الاتصال، وعاد أدراجه إلى حيث صف سيارته، وانطلق إلى المقهى الذي أحبه للغاية لكونه شاهدًا على علاقة نقية كعلاقته بيزيد، وجده بانتظاره ويبدو عليه التوتر، تعجب لحركة قدمه السريعة على الأرض، وطريقة مقابلته التي كانت أشبه بطفل افتعل ذنبًا ويخشى عقاب أبيه، عقد بين حاجبيه وهو يسأله:
- فيه إيه؟ أنت كويس؟
- أنا عايز أرجع مصر.
قالها هكذا دون أي مقدمات، بينما كان آدم ثابتًا كأنه لم يستوعب ما قاله يزيد بعد، وفور أن اكتشف كون يزيد انتهى من حديثه سأل بهدوء:
- ده قرار ولا رغبة؟
- الاتنين.
زفر هواء رئتيه، ثم أقبل عليه محاولًا التبرير:
- آدم أنا هنا ما بعملش حاجة، ما ليش لازمة، بطلع من البيت بدون أي وجهة، باخد فلوسي من حساب أبويا في البنك من غير ما أشقى ولا أتعب فيه، برجع البيت أقفل أوضتي ويا بنام يا بذاكر، عايز أحس إني عايش طبيعي يا آدم، عايز أعتمد على نفسي، عايز ألاقي ناس كتير أعرف أكلمهم ويكلموني، عايز أحافظ على لهجتي المصرية اللي حاولت أمي إني ما أبطلش أتكلم بيها، ومع ذلك أحيان كتير بتغلبني الانجليزية، عايز أشوف أصحابي في مصر اللي كل معرفتي بيهم من النت مش أكتر، عايز أشارك في تدريبات الكورة في مصر وأطلع ماتشات كبيرة وأوصل بحلمي إني أكون لعيب كورة كبير أوي ومشهور، عايز أشرب من نيلها يا أخي.
كان حديثه جميعه تحت تأثر، يتحدث دون صمت، يبدي رغباته دون حواجز، حتى إذا ما وصل لآخر جملة قالها بشبه مزاح، مما أضحك آدم عليه. عاد لظهر مقعده في تفكير، ثم نظر تجاه يزيد، وببعض التردد سأل:
- مش محتاج رفيق ليك في الرحلة دي؟
توسعت عينا يزيد بعدم تصديق، وسرعان ما أمسك بيد آدم بين يديه وهو يقول:
- دي مش هتبقى مجرد رحلة، دي هتبقى هجرة.
ضحك آدم مجددًا وهو يرد:
- الشباب المصري كله بيهاجر من مصر لبره، واحنا هنهاجر من بره مصر لجوه.
ابتسم يزيد باتساع، وقال في هدوء:
- يعني.. يعني هنبدأ طريقنا سوا؟
زفر آدم هواء رئتيه ببعض القلق، كيف سيخبر جده بقرار كهذا؟ وهل هو قادر أصلا على خطوة كتلك؟ يعلم أن لا أحد قادر على منعه من العودة إلى مصر إن أراد ذلك، لكنه لا يحب أبدًا ان يصفع يد جده الذي أوصله لما هو عليه الآن، جده لن يسمح له بالذهاب، وهو لا يرغب في البقاء، فما الحل الآن؟ لن ينكر أنه كان يفكر منذ زمن بعيد بالعودة لمصر، لكن ولا مرة وافته الجرأة أن يتخذ قرارًا في أمر كهذا، أما الآن.. الوضع مختلف، لن يكون وحده في هذا القرار، والصعاب إن تقاسمها اثنان أصبحت أخف من أن يتحملها واحد.
لاحظ يزيد شرود آدم الطويل، حاول أن يطمئنه بقوله:
- ما تقلقش من حاجة، أنا هيبقى معايا مبلغ كويس، يعني نقدر بيه نشتري شقة ونفتح لنا مشروع صغير كده، أخلص بس السنة اللي باقية لي وبعد كده أبدأ أدور على شغل مناسب هناك، وأنت هتجهز ورقك والحاجات المطلوبة كلها وتقدم في جامعة القاهرة، مستحيل يرفضوا دكتور جاي لهم من كامبريدج.. ولا إيه؟ واحدة واحدة هنثبت نفسنا هناك، وأول ما أقدر أجمع المبلغ تاني هرجعه لأبويا.
فهم آدم أن يزيد اتخذ قراره فعليًا، وأيقن كذلك أن حالة القلق والتوتر التي كان عليها يزيد فور وصوله كانت لرغبته في أن يشاركه آدم هذا القرار، لكنه اتخذه مسبقًا دون رجعة فيه. مما يميز علاقة بين شخصين أن يكون أحدهما بارعًا في فهم نوايا الآخر، وأن يكون الآخر مدركًا أن ما يحاول قوله مفهوم بالفعل، فلا يحمل أيهما هم الشرح والتوضيح والتبرير.
افترق الصديقان بعدما اتخذا قرارهما، لكن الأمر لن يكون بالسهولة التي تحدثا بها، وهو بحاجة لتخطيط كامل من أجل البدء من جديد.
"المجازفة أمر مثير للحماس، وإن نجح المُجازِفُ فيما جازف فيه ستكون غاية سعادته، لكن لكل مجازفة حدود! فخوض ما غلب سلبياته على إيجابياته ليس بمجازفة.. إنما تهور".
هكذا خط آدم في مفكرته بعد تركه ليزيد، رفع عينيه للسماء فإذا به الغروب، تجهز وصعد أعلى المنزل ليمارس مراقبه عودة الطيور لأعشاشها، لكن قطع عليه خلوته صوت هيا من خلفه:
- كنت أعرف أني سأجدك هنا.
قالتها بلكنة غير عربية، لم يلتفت لها آدم، لكنه تحدث وهو يناظر الطيور:
- منتهى التوهة إنك بره البيت مطالبة تتكلمي إنجلش، لكن جواه عربي، مش كده؟
أضاف سؤاله الأخير وهو يوليها نظره، زفرت تحاول الثبات، ثم جلست مقابله في هدوء، حاولت مشاركته ما يحب بمتابعتها الطيور، لكن الملل زارها سريعًا، قالت دون أن تستطيع إخفاء مللها بالنفخ:
- بقيت بتخرج كتير اليومين دول، مش عادتك يعني!
- مليتي؟
سأل وابتسامة ساخرة احتلت شفتيه، تعجبت من قراءته لها ببساطة هكذا، ردت وهي تنفي الأمر:
- همل من إيه؟! عادي يعني.
صمت الجو بينهما لدقيقة، اعتدل آدم في جلسته، ثم تحدث وهو يوليها نظره:
- عارفة يا هيا؟ الحب ده معناه كبير أوي، الحب يا هيا إنك تشاركي اللي بتحبيه أتفه تفاصيله قبل أهمها، لما تعملي حاجة هو بيحب يعملها بحب، واللي بيتعمل بالحب بيوصل للقلب، إنك تدوري على سعادته، وتهتمي تعرفي كل كبيرة وصغيرة في حياته، تشاركيه أفراحه وأتراحه، تقدمي بدون عد، تسمعيه من غير زهق، حتى الصمت الطويل اللي ممكن يستولي عليه بتسمعيه وكأنه غزل، الحب يا هيا هو روحين اتحدوا واندمجوا لحد ما بقوا روح واحدة مختلطة، واتقسمت الروح دي على جسمين، عشان كده بيوصفوا اللي بيحبوا بعض إنهم جسمين بروح واحدة.
زفر هواءً يهدئ به غصة مرت عبر طول فكه أوجعته، تابع من جديد:
- الحب يا هيا إني أشوف الدنيا بتتمثل في الشخص اللي بحبه، ما فيش حاجة بتيجي قبله، هو رقم واحد، ولو اتحط في مقارنة مع أي حاجة في الدنيا قلبك يتمرد ويقول إن ده خارج المقارنة تمامًا، لأنه ببساطة متفرد في قلبك.
شعرت هيا ببعض الغرابة، أطول حديث دار بينها وبين آدم كان في السيارة، يُعتبر أنه أخبرها كونه لا يحبها، وأنه لا علاقة تجمعهما غير القرابة، والآن يتحدث آدم عن الحب! يا لحظها التَّعِس، لو أن حديث الحب هذا أتى أولًا لفهمت مراده أنه يحبها، لكن الآن ما معناه يا ترى! صحيح أن لا أحد من عائلتها تحدث بشأن علاقتها بآدم واتخذ فيه قرارًا صريحًا إلا أن حديث جدها تلك الليلة كان واضحًا جدًا، فقد أقر بأنه سيجمع بينها وآدم بعد أن تنتهي من تحضيرها لرسالتها هذا العام، لكن آدم لا ينوي تنفيذ رغبة الجد... عجيب! لماذا أسمتها "رغبة الجد"؟ أليست رغبتها هي الأخرى؟!
قطع ذهاب آدم من أمامها وصلة تفكيرها، لكنها أوقفته بقولها:
- الحب أبسط من إننا نصعبه للدرجة دي.
ابتسم دون أن يلتفت لها، ثم أكمل طريقه إلى غرفته، الآن يمكنه تركها خلفه دون الخوف من أن يمس قلبها ألم بسببه، الآن يُجزم أن طريقهما لم يجتمعا قبلًا.. ولن يجتمعا أبدًا.
------*------*------
وقفت أمام زجاج غرفة العناية في جمود، جمود لا يفضح نيران قلبها المستعرة بداخلها، جمود لا يناسب وجع قلبها الآن، جمود لم يفارقها مُذ وقفت الوقفة ذاتها عند باب حبيب قلبها الذي لم يخرج من غرفته حيًا، نفس الحادث، نفس الأسلاك الموصلة بمصطفى، نفس التوقيت، كأن الزمن يدور دورته ويعود عليها بالحدث ذاته، لكنه الآن مع شخص آخر، التشابه بينه وبين الراحل عن العالم أنها أحبته! متى وكيف حدث ذلك! هي لا تدري، لكن ما تعلمه جيدًا أنه ما من شيء تحبه في هذه الدنيا إلا وتفقده...
- حالته بتستقر نوعًا ما، لو فضل على استقرار ده للصبح هننقله غرفة عادية بأمر الله.
يا للقدر! حتى الطبيب هو ذاته! التفتت بجسدها إليه، تطلعت لوجهه لدقيقة كاملة جعلته يتوتر وهو يسألها إن كانت بخير، ابتسمت وهي ترد سؤاله بآخر:
- حضرتك مش فاكرني؟
- آسف.. مش واخد بالي!
قالها عاقدًا حاجبيه، لكنها لم تسترسل الحديث أكثر، اكتفت أن تومئ له، ثم شكرته على ما حاول تقديمه لمصطفى، أكد أنه واجبه ثم رحل عنها.. عادت بنظراتها إلى مصطفى الغائب عن الدنيا، تتساءل إن كان يحلم الآن بعائشة! عاودت ذاكرتها تصوير ليلتها معه بالأمس، لم تره يومًا على هذه الحال، لقد كان يعاني، شعرت به وبكل ما يعانيه، جسده الذي يتصلب ثم يرتخي، حركاته التي لم تكن على استقرار كأنه يتبادل اللكمات في حلبة ويتلاشاها! نبرته وهو يردد اسم عائشة دون وعي، ثم ترديده لاسمها هي كأنه يعتذر، شعورها بشعوره بالذنب بعد ما حدث منه، وتمثيلها النوم كي لا تجعل الذنب يتقاذف من عينيه، كي تعطيه مساحة للهدوء، كي تعطيه سعته من مراجعة ذاته، حتى حينما استيقظ في الصباح الباكر وغادر، كانت تشعر بحركته، لكن المواجهة بينهما لن تكون محاولة إصلاح لو لم يأخذ كل واحد منهما وقته للتعافي، لذا فقد اتخذت قرارها بتركه يتعافى أولًا ثم تحاول من جديد.
هل سيكون هناك محاولات جديدة؟! هكذا تساءل عقلها الذي أبى الصمود أكثر، فأعطى إشارته بتهيج جفونها، فراحت تبكي، تبكي بصمت، تحول البكاء لشهقات، والشهقات لنحيب انتهى بصياح جعل الممرضات يجهزن لها غرفة بعد أن حقنها الطبيب بمهدئ أودى بعقلها لبحور الركود التام.
------*------*------
ولجت من بوابة المدرسة، وكعادتها منذ يومين تدور بعينيها ملعب المدرسة بحثًا عن سارة التي لا تعلم عنها شيئًا منذ آخر مرة سقطت فيها أمام صفها بعد أن انتشلها الإعياء من حالة الوعي إلى اللاوعي، هذه المرة لم يشأ الله أن يخذلها، فهي صادقة النية في أن تصبح صديقة لتلك الفتاة التي تشعر تجاهها برابط غريب، متشابهتان لحد كبير، وهي التي ظنت أنها الوحيدة التي تحمل من هموم الدنيا أعتاها! وجدتها تجلس في ركن بعيد، لم يُسعفها الوقت كي تذهب إليها وتحاول محادثتها، فقد أعلنت المعلمة طابور الصباح، وقفت في صفها وأعينها لا تغفل عن تلك الآلة المتحركة، ولما انتصف اليوم وأتت الاستراحة ركضت إلى حيث تجلس سارة في ركن منعزل عن الجميع، حتى عن مجموعتها، ألقت بالسلام وجاورتها الجلوس، تحدثت بعد صمت لم يطُل:
- أنا والدتي توفت بعد ولادتي على طول، ما لحقتش أشوفها، ووالدي...
ابتلعت غصتها وهي تتابع:
- والدي ما أعرفش عنه غير اسمه اللي لاحق اسمي، ما أعرفش حصل معاه إيه، وما أعرفش ليه أنا هنا بعيد عنه، بس خالتي منال دايما تقول إنه في مكان أحسن من مكاننا، لسه بتعاملني على إني البنت الصغيرة اللي عمرها عشر سنين.
زفرت بقلة حيلة وهي تبرر سريعًا:
- بس أنا بحبها أوي، هي ما بتقصرش معايا في حاجة خالص، العتب الوحيد عليها هو إنها مخبية عني حقيقة الوضع اللي عايشينه دلوقتي.
جالت بعينيها ملعب المدرسة الفسيح، ثم عادت تقول:
- بس أنا مش زعلانة، بحاول أتعايش وأثبت نفسي في الحياة، أكيد هييجي يوم وأوصل فيه للمكان اللي أستحقه بعد كل اللي عانيته في السكوت.
التفتت بجذعها إلى سارة، مدت يدها في تردد تمسك بيد سارة المستسلمة لها لأول مرة، تابعت قولها:
- وأنتِ أكيد هييجي اليوم اللي ترتاحي فيه من وجع مدفون جواكي ورافضة تشاركي بيه اللي حواليكِ.. بس اتشجعي، اتشجعي عشان الحياة دي ما بتقبلش الضعيف يا سارة.
كادت أن تقول شيئًا آخر، لكن صياح الفتيات في الملعب حال دون حديثها، كان هناك فتاتان تتشاجران، ومجموعة فتيات يحاولن فض النزاع، ركضت إحداهن، لكن الأخرى لحقت بها، جذبتها من حجابها فألقت بها أرضًا، ونتج عن فعلتها أن سالت دماء الفتاة عن وجهها مما جعل سارة تنتفض في موضعها وعقلها يصور لها آخر مشهد بينها وبين الدماء...
حينما تلبسها الرعب والجمود من مظهر جدتها المُلقاة على الأرض ركضت للداخل، هالها رؤيتها لأبيها ممسكًا بأمها من تلابيبها وينهال عليها ضربًا، وبينما تحاول الأم تخليص نفسها دفعته إلى حائط كان يبرز عنه مسمار بدا أن شيئًا ما كان يُعلق به، فاقتحم المسمار رأس أبيها مما جعل عينيه تجحظان، وفجأة سقط على الأرض بدوره غارقًا في دمائه، تحولت أعينها إلى الفراش الذي تنام فوقه هبة -أختها الكبرى- الباكية، تنظر تجاهها بأعين زائغة، جسدها مُخدَّر، ووجهها مليء بدموع القهر والخوف، أعينها ثابتة على سارة، التفتت حيث أمها التي تحاول الوقوف بثبات بعد أن فقدت توازنها بسبب الضرب الذي تلقته رأسها، بينما عند جهة أخرى تقف امرأة في عقدها الخامس ربما، ممسكة بشيفرة ومقص، وأعينها جاحظة على مظهر الرجل المرمي بالأرض، استعادت المرأة وعيها فركضت من المكان إلى حيث لا تدري سارة، ركضت سارة إلى أختها تحاول معرفة ما بها، فهالها مظهر دماء تتقاطر من بين فخذيها، اتسعت أعينها في رعب حقيقي، التفتت لأمها تستنجد بها أن تلحق بأختها، فما رأت غير أمها واقعة أسفل الفراش الذي تنام فوقه هبة، تعافر شيئًا ما، وسائل غريب يخرج من فمها ممزوجًا بالدماء، بينما تكونت كدمة حول عينيها، ووقع عنها حجابها فيه بعض من خصلاتها التي مزقها والد سارة، عادت سارة بنظراتها لأختها، فوجدتها على حالها من البكاء الصامت، لكنها دارت برأسها حتى أصبحت تنظر لسقف الغرفة..
لا تعلم سارة من أين واتتها جرأة وشجاعة الركض بين كل هذه الجثث حتى خرجت للشارع، راحت تصرخ بصوتها كله، الجميع ركض إليها يرى ما بها، لكنها لا تفعل شيئًا غير الصراخ، تصرخ وتصرخ حتى وقعت بين أيديهم فاقدة للوعي وللصوت.
نفس حالة الذعر، نفس اهتياج الأعصاب، نفس ما حدث لها منذ أيام قلائل عاودها أمام أعين أنفال التي فقدت القدرة على تحمل مظهر سارة، فسقطت الفتاتان أرضًا فاقدتان للوعي.
------*------*------
رفع هاتفه طالبًا يزيد الذي أجاب سريعًا كأنه كان بانتظار هذه المكالمة، تحدث آدم بعد أن زفر هواء رئتيه:
- عرفني المطلوب مني أنفذه بسرعة قبل ما أغير رأيي.
ابتسم يزيد باتساع، ثم أخبره بكل التفاصيل، إضافة لمواعيد الحجز المتاحة لهذه الفترة، اتفقا كذلك على تقاسم مصاريف الإقامة، وبدأ كل واحد يبحث عبر الإنترنت عن أماكن سكنية مناسبة لبدايتهم في وطن وُلدوا فيه لكنهم ترعرعوا خارجه.
ذهب آدم حيث تجلس زوجة عمه رفقة جده، لا يعلم كيف سيبدأ الحديث، لكن لا بد وأن يبادر اليوم حتى يتسنى له إقناعهم حال اعترضوا رغبته، جلس وسأل عن عمه، فأخبرته زوجة عمه أن لديه عملًا متأخرًا الليلة، أومأ في صمت، حاول إيجاد بداية مناسبة، لكن اقتطع جده عليه حيرته وهو يسأل:
- إيه اللي شاغلك؟
نظر تجاه جده بتعجب، هذا الرجل يُجيد قراءة النفس بطريقة لا تُصدق، يكاد يجزم أنه يعلم ما يدور برأسه الآن، تحدث قبل أن يفقد القدرة على الحديث:
- عايز أنزل مصر.
شهقت زوجة عمه، بدا على وجهها الفزع ما إن أنهى آدم قوله، حولت نظراتها للجد الذي ينظر أمامه بتعابير وجه خاوية، ثم ابتلعت ريقها وهي تسأله بتوتر:
- ليه؟ ليه يا حبيبي عايز تسيبنا؟
- أسيبكم إيه بس يا مرات عمي! أنا كل ما في الموضوع إن واحد صاحبي عرض عليا أنزل مصر معاه فترة، نبني نفسنا فيها ونشوف الوضع، إذا ما ارتحناش هنرجع أكيد.
لا يدري كيف باح بالحقيقة دون محاولة واحدة في المراوغة، ألأنه ما اعتاد الكذب أبدًا! أم رغبته في إيصال رسالة أنه كبُر وما عاد صغيرًا ليتحكم جده بحياته؟ حقًا لا يعلم، لكنه يدرك جيدًا أن سلك الدروب المستقيمة لا يوقِع.
شرود عقله هذا منعه من الانتباه لحالة زوجة عمه المتوترة أكثر من حزينة، لكنها عادت تسأل:
- ولو ارتحتوا؟!
ابتسم لها وهو يتحدث بهدوء وإقناع:
- الشباب المصري بيطلعوا من مصر للغربة عشان يبنوا نفسهم، أهو أنا زيهم بالظبط، لو حالي ظبط في مصر يا هرجع، يا هبعت لكم تيجوا تعيشوا معايا.
- كلنا هننزل.
تفوه بها الجد مما جعل عيني السيدة جميلة تتسعان، وجسد آدم قد تخشب، عقله لم يسعفه للتفكير في سبب قرار جده هذا! وذهاب جده بعد إلقائه كلمته لم يجعل هناك أي مجال لسؤاله عن السبب، هكذا هو دائمًا، لا يُبدي أسبابًا، ولا يُريح عقلًا. وفي خضم ذلك كله فهذا خبر سعيد على قلبه، ولا يدري لذلك سببًا!
------*------*-----
أنت تقرأ
أنفال
General Fictionمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...