(الفصل العشرون)
سكنت قدماه عند أحد الأرصفة، لم يستطع الحركة أكثر، يشعر بإعياء شديد، هناك بعض غثيان يراوده، ودوران طفيف يشوش رؤيته، وهناك قشعريرة تسري بجسده كأن البرد يلسعه، رغبة كبيرة في الصراخ، البكاء، اللوم، العتاب، رمي حمول، تخفيف أثقال، بوح، كل الرغبات تتجه ناحية تفريغ طاقة، لكنه لن يستطيع فعل أي منها! نزل بطوله إلى الرصيف جالسًا عليه، السيارات تركض من أمامه، وهو ينظر لأسفلت الطريق كأنه يسأله الطريق لأمه، الغريب أنه ينتظر حقًا إجابته، لكن الصوت الذي اخترق صمته وأذنيه لم يكن غير يزيد الذي سأل:
- ليه كده؟لم يصله رد، وبقيت الأجواء صامتة إلا من أصوات السيارات المارة، رد آدم فجأة:
- بقالي يومين بسأل نفسي السؤال ده "ليه كده؟" ليه الأب ما يكونش رحيم على ابنه، ما يصاحبوش ويشاوره في أمور حياته من غير ما يفرض عليه حاجة هو مش عايزها؟ ليه لما تلاقي سعادتك في مكان ما يخربهاش عليك غير أقرب حد ليك؟ ليه ست كل طموحها في الحياة رضا جوزها وسعادته وهدوء بيتها يتضحك عليها وتعيش على وهم موت ابنها مع جوزها؟ ليه طفل ما كملش عشر سنين يتحرم من حضن أمه، ويكبر على حقيقة إنها ميتة، وبعد سنين طويلة يكتشف إن ده كان وهم، ليه كده؟ ليه لما تحاول تفوق اللي قدامك بحقيقة معينة يصمم يغلط؟ ليه ما عملوش لرأيي ورغبتي حساب؟ ليه كده؟ ليه ما توقعوش رد فعلي ده؟ ليه يا يزيد؟ ليه أنا؟
صمت تام عم المكان، حتى السيارات ما عادت تمر، كأن الطريق ضلت طريقها لأجل بعض الهدوء لآدم، تحدث بعد فترة وجيزة:
- عايز أنزل القاهرة.
- رجلي على رجلك.
قالها يزيد دون تردد، ونبرته كلها حزم، كأنه يوصل رسالة أنه لا مجال للنقاش في أمر كهذا، لم يرد آدم، فقط تنهد بقوة وهو يومئ مؤكدًا على ذاته أن ما فعله اليوم ليس خطأ، بل هو عين الصواب.انتقل مع صاحبه لبيته، وقبل أن يدخلا الشارع الذي هو الطريق للبيت رآها من جديد، تسير بمشية معتدلة، بذات الثياب التي رآها عليها هذا الصباح، تحمل حقيبة بيدها والغضب يقفز من كل خلايا وجهها، ازدادت سرعة خطوته رُغمًا عنه رغبة في معرفة سبب غضبها، وكأن القدر أراد أن يحقق له رغبة من رغباته فراحت هي تقول لمن تجاورها المسير:
- على فكرة أنا هحرجكم كلكم لو صممتوا على اللي في دماغكم.
- أنا اللي مش عارفة أنتِ جايبة دماغك دي منين، يا بنتي ما ده اللي بتعمله كل عروسة، ولا أنتِ مش عروسة زي باقي العرايس؟ وعلى فكرة بقا لو ما عملتيش ميك أب ولبستِ فستان زي الناس فاللي هيشوفك هيقول عريسك بخيل، ما دفعش فلوس كوافير ولا فستان زي الناس، يعني خطيبك اللي هيشرب الكلام يا أستاذة.عقد بين حاجبيه تعجبًا وهو يسير من خلفهما صحبة صاحبه الذي يراقب ردود أفعال آدم بتعجب هو الآخر، لماذا لا تريد أن ترتدي فستانًا في حفل خطبتها! ولماذا هي رافضة لمستحضرات التجميل! هذه الفتاة حولها هالة غريبة تُثير فضول آدم. بقيت الفتاة صامتة حتى وصلت بيتها، وتابع آدم ويزيد سيرهما لبيتهما، سأل آدم على حين غفلة:
- هو إيه السبب اللي يخلي واحدة مش عايزة تلبس فستان ولا تعمل ميك أب؟
- يمكن مش موافقة على الجوازة.
قالها يزيد رافعًا كتفيه للأعلى، فرد آدم هو الآخر وما زال شاردًا:
- بس ليه سكتت لما اللي معاها قالت إن الكلام هيكتر على خطيبها! ما هي لو مش موافقة على الجوازة يبقى مش هتهتم للي هيتقال عن الراجل!
- يمكن ملتزمة ومش عايزة رجالة تشوفها بالميك أب.
قالها يزيد عفويًا، ثم تابع مباشرة:
- وغالبًا ده السبب، لأن لبس البنت دي كده من يوم ما جيت هنا، مختلفة عن كل البنات اللي شفتهم في حياتي حقيقي.
التفت آدم فجأة تجاه يزيد، هناك غضب طفيف احتل قلب آدم وهو يسمع مديح يزيد بالفتاة، غيرة لا سبب لها تولدت داخله وهو يسمعه يتحدث عن اختلافها، لكن قبل أن يلفظ أي كلمة تدارك نفسه سريعًا ودخل لغرفته دون المزيد من الحديث، حالته غير مستقرة، ولا يجب أن يُعلِّق نفسه وفكره بفتاة ستكون على اسم رجل آخر نهاية الأسبوع، ثم ما باله أصلا يشغل باله بها وهو لم يرها سوى اليوم! ألهذه الدرجة أنت مشتت يا آدم! تبحث عن أي ثغرة لتشغل نفسك بها بعيدًا عن مصيبتك! مثير للسخرية!
أنت تقرأ
أنفال
Ficción Generalمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...