(الفصل الثالث)
اتخذت طريقًا وجهته المكتبة المجاورة للمدرسة لشراء بعض المستلزمات التي تنقصها، وما إن انتهت حتى عادت مباشرة إلى منزلها حيث استقبلتها منال بقلق جم وهي تسألها:
- أنتِ كنتِ فين؟ وإيه اللي أخرك بالشكل ده؟ المفروض كنتِ تكوني هنا من نص ساعة.
- عديت على المكتبة اشتريت حاجات كانت نقصاني، قلت لحضرتك إني هروح المكتبة قبل ما أمشي الصبح.
زفرت الأخيرة شهيقًا ينم عن استرخائها، لقد كاد قلبها يتوقف خوفًا كما عادتها منذ سنوات، إن خرجت الفتاة يبقى القلق ينهش قلبها حتى تعود، ولو كان الأمر بيدها لما جعلتها تخرج أبدًا، لكنها لن تظلمها وتمنعها عن متابعة التعليم بسبب هلاوس عقلها التي لا ترحمها منذ سكنت هذا البيت بصحبة الفتاة، يكفي أنها بصعوبة استطاعت جعلها تعتاد المدارس الحكومية بدلًا عن الخاصة التي تختلف كليًا وجذريًا. لقد حصلت على أوراق بكفالتها من إحدى المؤسسات من السيدة رزان، والتي لا تعلم كيف أخرجتها لها بهذه السهولة والفتاة لم تذهب لأي مؤسسة بالأصل! كان شرط رزان الوحيد حينما طلبت منال أن تكفل الفتاة أن تخرج منال وزوجها بها من الإسكندرية كلها، وقامت بإعطائهم مبلغًا من المال من أجل الحصول على مسكن حيث سيذهبون، كان ذلك الحل الأمثل لضمان حياة هادئة ومستقرة من أجل الصغيرة.
تعلم أنها تضيق الخناق على أنفال بطريقتها المبالغ فيها، لكن ما من طريقة أخرى لحمايتها من بطش هذه الحياة. تحدثت أنفال بأسف:
- أنا آسفة يا خالتي، ما كنتش أقصد أقلقك كده.
- ما تتأسفيش يا حبيبتي، أنا اللي قلقت زيادة، يلا.. يلا خلينا نجهز الغدا سوا.
ابتسمت أنفال وقد زارها الشغف سريعًا، لطالما كان أمتع أوقاتها هو الوقوف بالمطبخ وتجهيز الطعام بصحبة الخالة منال، رغم ركود حياتها وتيهها عن أسباب طريقة عيشها هذه إلا أن هناك الكثير من الأشياء المبهجة لحياتها، والتي تكمن في تفاصيل صغيرة للغاية.
بسيطة هي، بسيطة للحد الذي يُثير الرَّيبة! ليست بهادئة أبدًا، لكنها تعشق الهدوء، تتمرد على التقيُّدِ رُغم نقمها على الحرية المطلقة، هشة للدرجة التي تجعل عبرات عينيها جلية في وضح الضحكات، لكنها تضحك بكل قوة، تكتب وهي أكثر الناس كُرهًا للكتابة، تثور وهي أكثر البشر رغبة في السكينة، كل شيء بها متناقض للحد الذي يجعلها غامضة.. حالاتها مثيرة للشغف، وللحيرة أيضًا...
أنهت تبديل ثيابها وتأدية فرضها، ثم ركضت إلى المطبخ، وبدأت وصلة جديدة من المرح اليومي في تجهيز الطعام، حتى إذا ما انتهيا وتناولا طعامهما بصحبة العم محمد الذي عاد من أجل تناول الغداء- أعدت أنفال الشاي وجلسا يتابعان أحد البرامج على شاشة التلفاز، في الحين الذي غادر فيه الرجل من أجل متابعة العمل، ساعة أخرى من اليوم قد انقضت، فتحركت إلى غرفتها كي تنهي مذاكرة دروسها، العام القادم هو الأخير، ولا بد من اجتهاد أكبر كي تصل لما ابتغته منذ التحقت بالثانوية، شردت بعقلها في مستقبل بعيد، تقف فيه وسط ساحة واسعة جدًا، ترتدي قبعة فوق حجابها الطويل، وتعتلي فساتينها الفضفاضة سُترة برتقالية، تُشير لبعض الموجودين حولها فوق لوحة ما، ثم تنتقل بكامل جسدها لتشير بيدها إلى بقعة بعينها، تشرح تفاصيلًا بأرقامٍ دقيقة، يومئ لها الجمع وهم يلقبونها بالمهندسة، ثم يذهب كل واحد لعمله، وما إن ينتهي البناء الضخم الذي رخصت أرضه بالكامل، وفي الوقت ذاته تبحث بعناية ودقة عن مئة أسرة بسيطي الحال، يقاسون الحياة وصعابها، يملكون من الأبناء من لديهم أحلام يرونها صعبة المنال- تهبهم الشقق التي سعت بذاتها أن تجعلها مناسبة لسكنهم وراحتهم، ثم ترفع رأسها للسماء في صمت وهي تعلن من داخل قلبها أنها ترجو أن يكون عملها هذا في ميزان حسنات كل من الخالة منال والعم محمد وأمها وأبو... أبوها! أبوها!! ذاك الذي لا تعرف عنه شيئًا! ذاك الذي لا تقول عنه الخالة إلا أنه في مكان أفضل كما تقول عن أمها، هذا يجعلها توقن أنه ميت كأمها، لكن شيء ما يجعلها لا تصدق ذلك...
نفضت رأسها سريعًا، لتصل لحلمها لا بد أن تسخر له عقلها ومجهودها، ما الذي تفعله الآن! أتحلم على حساب وقتها! استفيقي يا أنفال، لكن هيهات.. شرَّف على عقلها ذاك الموقف الذي تقابلت فيه مع سارة، الفتاة التي تسمع ولا تتكلم، بل ولا تتفاعل، ترى ما السبب في ذلك؟! هكذا سأل عقلها الذي ما يزال بحاجة للوقت كي يفهم الأمور بشكل سريع دون سؤال الكبار، أتت على عقلها صورة الخالة منال، لملمت حاجيتها وذهبت إليها حيث تجلس بصالة المنزل تقطف أوراق الملوخية، تلك السيدة رغم ما تقدمه لها من مساندة ومساعدة ورغم محاولاتها التي لا تنتهي كي لا تشعرها بما فقدت من دفء العائلة- إلا أنها تعاني كل الويلات مع نفسها، وحيدة هي في هذه الدنيا، لا تملك غير... لا تملك شيئًا على الإطلاق، تود بفضول غريب أن تعرف كل ما يتعلق بالخالة، لكنها تخجل من سؤالها عن ذلك، فهي قد علمتها ذات يوم أن لكل امرؤ خصوصياته التي لا يجب أن يتعدى عليها الآخرون، حتى وإن كانوا مقربين. زفرت شهيقًا أذهب عنها توترها، ثم ذهبت تجاورها الجلوس، اعتدلت السيدة منال وهي تسأل عما إن كان هناك ما ينقصها، نفت وهي توضح بهدوء:
- عايزة أسألِك عن حاجة، فيه بنت جديدة في المدرسة عندنا، كانت منطوية أوي وقاعدة لوحدها، سمعت أصحابي بيقولوا إنها بنت ملاجئ و...
انتبهت لتغير تعابير الخالة التي بدا عليها التوتر، لكنها تابعت دون تعليق:
- أنا رحت قعدت معاها وحاولت أكلمها بس ما كانتش بترد عليا، ولما المِسْ جت وقلت لها إني حاولت أتكلم معاها قالت لي إن البنت دي ما بتتكلمش.
تبدلت تعابير الخالة للشفقة في الحال، ثم عادت للتوتر حينما تابعت أنفال بتساؤل:
- بس أنا أعرف إن اللي ما بيتكلموش ما بيسمعوش، بس البنت دي بتسمع، لأن لما المِسْ نادت عليها بصت لها، إزاي بتسمع وما بتتكلمش بقا؟!
وضعت السيدة منال ما بيدها قبل أن توضح بهدوء محاولة ألا تتطرق في قولها لأمر الملجأ الذي تتربى فيه الفتاة:
- أحيانًا بيحصل في حياة بعض الناس مواقف بتكون صعبة، صعبة أوي وما بيقدروش يستوعبوها، فالنتيجة إنهم ممكن يفقدوا النطق، وممكن كمان في بعض الحالات التانية يكون الشخص اللي ما بيتكلمش ده شخص انطوائي بطبعه، ما بيعرفش يتعامل مع المحيط اللي حواليه، ما بيعرفش يتكلم، فبيفضل السكوت، والسكوت بيكون مع قدرته إنه يتكلم.. بتختلف الحالات دي يا حبيبتي من حد لحد تاني، وده على حسب حياة كل واحد.
فهمت أنفال ما قالته الخالة جيدًا، لكن السؤال الذي تخشاه الخالة بكل أسف قد ألقته أنفال مباشرة:
- طب هما كل اللي أبهاتهم وأمهاتهم مش معروفين أو ميتين بيروحوا ملاجئ؟
الفتاة كبرت، هل حان لها أن تعرف الحقيقة اللاذعة التي ستجعلها تعتزل العالم على أقل تقدير لرد فعلها؟ أحان وقت سحب روحها من بين أضلعها وهي حية؟ لماذا الحقيقة دائمًا ما تكون لاذعة وقوية، تخلف غالبًا التخريب والدمار! ألا يمكن للزمان أن يعود مرة أخرى فتحيا مع الصغيرة الحياة من جديد في هدوء؟ ألا يمكن أن تمر الحياة بهما على وتيرة الهدوء ذاته دون كشف أوراق الحقيقة المرة؟ عقلها لا يرحمها، وكوابيس خسارتها أنفال لا تعتقها، لقد باعت الدنيا مقابلها هي فقط، وكدت واجتهدت في الخياطة بعد أن افتتحت لها السيدة رزان مشغلًا صغيرًا قُرب بيتها كي تعول منه تعليم الصغيرة وكسوتها، تاركة حمل البيت من مأكل وخلافه على زوجها الذي استطاع ببساطة الحصول على ذات عمله القديم هنا أيضًا (عامل نظافة).
الصغيرة لم تعد صغيرة يا منال.. هكذا حدثها عقلها المشوش قبل أن تنتبه منتفضة في فزع على يد أنفال تناديها:
- خالتي أنتِ كويسة؟
أومأت وهي تبتلع لعابًا مُرًا بسبب الحقيقة المدفونة أسفل لسانها، معدتها بدأت تؤلمها بشدة، أمسكت بها فانتفضت أنفال تساعدها على الاستلقاء، ثم ركضت للمطبخ تصنع لها نعناعًا مغليًا، قدمته لها في قلق، فتناولته منال مبتسمة، ثم مسدت خصلات أنفال وقد اتخذت قرارها أخيرًا، الفتاة كبرت بما فيه الكفاية، ومن حقها أن تعرف الحقيقة كاملة.
تحدثت منال تطمئنها على صحتها، ثم طلبت منها بهدوء أن تفتح ضلفة في خزانتها، أخرجت منها صندوقًا خشبيًا صغيرًا، فتحته السيدة منال أمامها، ثم أخرجت منه بعض الصور القديمة، قدمتهم لها فبدأت أنفال بتقليب الصور، والخالة تتحدث عن كل صورة، وأدمع أنفال تتكون فوق جفنيها:
- دي صورة لوالدتك قبل ولادتك بشهر ونص، ودي أنتِ بعد ولادتك بشهرين، كانت والدتك فارقت الحياة وراحت تقابل وجه كريم.
هنا وانهالت عبرات أنفال، بينما تابعت السيدة منال وهي تعرفها على صورها في مراحلها العمرية، حتى وصلت لصورة تجمع بين رجل ملامحه محفورة بذاكرتها، وبجواره امرأة في حلة رسمية، خصلاتها فحمية داكنة، وأعينها خضراء تناسب بشرة حنطية، ملامح هادئة، لكنها جدية للغاية، كأنها ماكينة عمل وليست امرأة بمشاعر وقلب، هكذا شعرت تجاهها من صورة! نفس الشعور الخاص بالصغر، لكنها لم تكن واعية كفاية لأن تصف هذا الشعور، تابعت منال:
- ده.. ده أبوكِ، ومراته، الست رزان.
قربت أنفال الصورة لعينيها تدقق في ملامحه، قُبس من ذكرى تراه فيها خلف نافذة مكتبة بالبيت الكبير، بينما تلعب هي في الحديقة الواسعة، ترفع يديها مشيرة له ضاحكة، فيردها مبتسمًا بهدوء تام، قبس آخر يراودها وهي تراه يطل على بابها يرى إن كانت نائمة، فلما وجدها مستيقظة سألها السبب، ردت أنها أرادت شرب الماء فقط، فناولها واحدة ثم دثرها حتى نامت من جديد، قبس جديد يلوح أمام ذاكرتها وهو يجالسها على سفرة طعام واحدة في صبيحة إحدى الأيام، لا يتناول طعامه، بل يتحدث عن العمل مع زوجته التي تأكل إلى جوارها، ذهب دون التحدث إليها، وقد أزعجها ذلك. يعود دون التحدث إليها، وكان هذا يؤلمها، ثم نهاية يلوح أمام عقلها صورة أخيرة له وهو يأتي ناحيتها وملامحه بها غضب لم تعهده به من قبل، غضب جعل فرائصها ترتعد خوفًا، الخالة منال تحملها، السيدة رزان تُحايله أن يهدأ، غمغمات بصوت عال غير مفهومة بصوت محموم بنيران الغضب تصم آذانها، ثم بيت جديد بمعالم لم تعهدها من قبل، والخالة منال معها، ثم لا شيء... لا تذكر أي شيء آخر، أي موقف يجمعها بأبيها، أي ذكرى تشفي فؤادها المشتاق لضمة أبيها التي لا تذكر أن جربتها، لكن ذاكرتها خانتها إلى هذا الحد، حتى انتقلت للعيش في هذا البيت.
انتشلتها منال لأحضانها تهدئ من نحيبها الذي علا صوته، بقيت تُبَسْمِل وتستعيذ من الشيطان، قرأت الرقية فوق رأسها حتى انتظمت أنفاس أنفال، وراحت في نوم عميق كلف السيدة منال كتمان السر لليلة أخرى.
------*------*------
انبثقت أجفنها مع سماعها همسات الفجر، تحركت تنوي الوضوء والصلاة، لكنها توقفت تلقي نظرة على الخالة مستلقية إلى جوارها، تعجبت أن تنام الخالة معها، لكن سرعان ما استوعبت أنها هي من غفيت بغرفة الخالة، أين نام العم محمد إذًا! تذكرت ما حدث في الليل قُبيل سقوطها تحت سيطرة سلطان النوم، فعاد وجع قلبها من جديد، وعادت أجفنها تهدد بسقوط العبرات، لكنها نفضت عقلها سريعًا وهي تتحرك ناوية تأدية الصلاة، جذبت عباءة واسعة تعود للخالة، ولفت رأسها بحجابها حذرًا من أن يكون العم محمد بالخارج، وبالفعل وجدته نائمًا فوق مقعد الصالة، تأذت لما فعلته بالرجل الطيب هذا، رغم أنه لا يتفاعل معها ولا يحادثها كثيرًا لكن هالة الحنان والطيبة تحاوطانه، يجمعها به الطعام في كل مرة، لكن ولا مرة كان يذهب معها ومنال للتنزه مثلًا، وبعد أن استطاعت فهم بعض أمور الدين والحرام والحلال في أمر الخلوة عرفت وتأكدت أنها بين أيدٍ أمينة، لقد رافقتها منذ ولادتها إلى الآن، قامت برعايتها لما فقدت أمها ثم أبوها!
انتبهت مما سقطت فيه على صوت الخالة التي تقف أمامها معاتبة:
- مش تصحيني طيب عشان أصلي معاكِ وناخد ثواب الجماعة.
ابتسمت أنفال وهي تومئ معتذرة، ثم أشارت برأسها في أسف تجاه العم محمد، ربتت منال على رأسها بحب وهي تقول:
- جه متأخر امبارح، عرضت عليه ينام في أوضتك بس رفض ونام هنا، وأنا استغليت الفرصة عشان أفضل نايمة جنبك.
قالت آخر جملتها في محاولة لإزالة الحرج عن أنفال التي ابتسمت لها ممتنة ودخلت تجهز للصلاة. أمَّتها منال حتى انتهيتا من الصلاة، ولجت بعدها للمطبخ تُعِد إفطارًا باكرًا، اليوم هو الجمعة، تنوي عرض الخروج على الخالة منال لاستنشاق بعض الهواء، وافقت الأخيرة مرحبة بعد أن استأذنت زوجها الذي اعتذر لعدم قدرته على مرافقتهما، وقد اتخذت قرارًا بإنهاء أمر حيرتها اليوم، لن يكون هناك ما هو أسوء مستقبلًا من أن تكتشف الفتاة الحقيقة كاملة من غريب، ولن تلومها إن اختارت دربًا غير دربها.
جلستا أسفل شجرة عتيقة تحتل جانب حديقة مزهرة ومرتبة الطاولات، طلبتا بعض التسالي مع الصودا، زفرت منال في توتر وهي تحاول أن تبدأ الكلام، لكن أنفال سبقتها معترفة:
- أنا مش فاكرة حاجات كتير لبابا، يدوب كام حاجة يتعدوا على صوابعي، مش عارفة ليه بس.. بس أنا ما بكرهوش رغم إنه ما عمليش ذكريات كفاية تفكرني بيه، بس برضو ما بحبوش، كأنه حد عادي، ماما اللي يمكن ما شافتنيش أصلا ولا حسيت بيها وبحنيتها اكتشفت إني بحبها، بحبها أوي.. هي ما اختارتش تسيبني، وما كانش قدامها فرصة تسيب لي ذكرى حلوة في قلبي وعقلي تفضل معايا لما أكبر، لكن بابا كنت قدامه سنين كتير، ما زرعش فيهم اللي يفكرني بيه حتى.. بس حضرتك...
قطعت قولها وهي تقدم يدها ممسكة بيد منال متابعة:
- فضلتِ معايا من صغري، ما سبتنيش، كل وقت كنت بحتاج لحنان ما كنتيش بتبخلي عليا.
ضغطت على يد منال وهي تتابع:
- أوعدك إني عمري ما أنسى أبدًا بأمر الله إنك كنتِ أمي وأبويا اللي حرمني منهم الموت يا خالتي.
كانت دموع السيدة منال تجري فوق وجنتيها تحفر أخاديدها بدقة، لطالما شهدت تلك الأخاديد دموع الليالي العجاف على زوج همه في الدنيا راحتها وسعادتها، يكد ويشقى من أجل مواكبة الحياة، لا يشكو بور أرض الإنجاب لديها، ولا يفكر في استبدالها بمن تهبه ما يحلم به ويتمناه كأي رجل، تبكي حرمانًا من الأمومة كاد يكون أبديًا لولا كفالتها أنفال، تبكي إخفائها حقيقة أن الحقيقة الوحيدة التي تعرفها أنفال هي أن عائشة أمها، هي تحبها لأن رحيلها لم يكن لها يد فيه، لكن لو علمت أنها سبب حياتها الآن لكرهتها وكل ما يتعلق بها. ليس هناك ما هو أصعب من حِملٍ تحمله لا يخصك أصلا، لكن ضميرك الآدمي يُحتم عليك الصبر والتحمل من أجل عيشة كريمة لأناس يعنون لك الحياة.
جففت أنفال عبراتها وهى تقول مازحة:
- أنا قلت لك تعالي نتفسح ونتبسط مش تعالي أنكد عليكِ يا منولة.
ضحكت منال وهي تضغط على كف أنفال بين يديها في وعد صامت بينها وبين نفسها، لتحيا ما تبقى لديها تزرع حبًا في قلب تلك الفتاة، لا يهم أي شيء آخر.
------*------*------
مرَّ يومي الإجازة في محاولة من أنفال ألا تُظهر ما يعتمل نفسها من أمر حياتها، واجتهاد من السيدة منال كي لا تُفلت زمام الحقيقة عن لسانها فتُجرد الصغيرة من بقايا حب لأبيها في قلبها وحب متأصل لأمها في روحها، لكن ما دام هناك حِرص على سر ما فبالتأكيد ستفضحه الأفعال يومًا ما.
ولجت من باب المدرسة إلى فصلها، أخرجت أدواتها استعدادًا لقدوم أستاذ المادة، لكن الطالبات هللن في صياح سعيد بخبر عدم حضور الأستاذ اليوم، زفرت وهي تستعد لساعة من الفراغ، لكنها تذكرت مفكرتها الصغيرة فأخرجتها على عجلة ناوية اللجوء لصديقتها المخلصة -الكتابة- كي تنتشلها من حالة الركود التي كادت تسقط فيها.
خطت فوق السطور بهدوء: "لا أقسى على المرء من أن يحبس شعور الوجع بين حنايا صدره، ثم يجبر وجهه على رسم ملامح تخص شعورًا آخر تمامًا..."
كادت أنفال تتابع، لكنها لمحت سارة التي مرت بالطرقة التي يطل عليها زجاج النافذة الجالسة بجواره، لململت أغراضها سريعًا كي تلحق بها، أخذت تبحث بعينيها عنها، لمحتها في آخر الطرقة تنوي الجلوس إلى السلم المؤدي للدور الثاني، تنهدت قبل أن تتحرك إليها وفي نيتها أن تشاركها ما تعانيه، فهي تؤمن أنه لو لم يكن المرء قادرًا على معالجة جروحه فليبادر بعلاج جروح الآخرين، وبهذا تضمن لنفسها انشغال تام عن معاناتها التي قد تُشفى دون دراية منها مع مرور المواقف.
جاورتها جلستها، وكالمرة السابقة لم تُعِرها سارة انتباهًا، أخرجت أنفال مفكرتها، قلبت عدة صفحات، ثم قدمتها أمام وجه سارة التي نظرت للحروف دون قدرة على تجاهلها، قرأت وأجفنها تهتز بعنف كأنها ترى حدثًا عصي الإيلاف: "الضعيف فاقد للحقوق ومُجرَّدٌ من الخِيارات، مصيره الوحيد أن يُهرس بين أفواه الأقوياء بلا رحمة."
لاحظت أنفال انفعال سارة مع كلماتها، فسحبت مفكرتها، قلبت عدة صفحات أخرى، ثم أعادتها أمام عينيها من جديد، لتقرأ مرة أخرى: "من أراد أن يطعن الحياة في مقتل فعليه ألا يُشعِرها بالانتصار عليه مهما بلغت قساوتها."
تشنج جسد سارة مما أثار تعجب أنفال التي سحبت المفكرة سريعًا، أرادت أن تقترب من سارة لكن الأخيرة بدأت تهتز بشيء من الخوف، الخوف هو كل ما ظهر فوق تقاسيم وجهها المُتعَب، خافت أنفال من أن يحدث شيء لم يكن بحسبانها، فانتفضت تركض حيث غرفة المعلمات، أتت بتلك المعلمة التي أخذتها الأسبوع الماضي، ولما رأتها المعلمة سارة على هذا النحو ركضت تجاهها، بدأت تربت على ذراعيها، وتغمغم بكلمات لم تفهمها أنفال، هدأت الفتاة بعض الشيء، ونظرات المعلمة تجاه أنفال جعلتها تتحرك سريعًا من المكان إلى صفها، لا تفهم شيئًا مما حدث، هذه الفتاة غامضة للغاية، ويربطها بتلك المعلمة شيء أكثر غموضًا.. الآن فقط انتبهت أنفال أن هذه المعلمة جديدة بالمدرسة كلها، لم تظهر سوى عندما أتت تنادي سارة ثم أخذتها ورحلت! ما الذي حدث لكِ لتصبحي على هذا الحال يا سارة!
------*------*------
في منزل معزول بعض الشيء إلا عن منزل جار وحيد يسكن بيتًا فرغ من ساكنيه عداه، تطالع السماء وهي ساكنة فوق فراشها المقابل للشرفة، تتفحص النجوم التي تخبو وتلمع في فضاء واسع، يطرق باب عقلها صوت أمها تقول في حزن لحالها:
- يا بنتي الجواز ده قطر، يا تلحقيه في الوسع يا يفوتك.
وكان ردها الدائم على مثل أقوالها هذه:
- يا ماما قطر إيه بس؟ الزواج ده رزق يا ست الكل، وبعدين لو هو قطر.. يرضيكِ يعني أركب قطر وأنا مش حاسة بالأمان؟ افرضي قلب بيا؟ الواحد يختار الأمان قبل المخاطرة يا ماما، دي حياة كاملة، وأنا مش مستعدة أولادي يبصوا لي بخذلان لإني اخترت لهم أب ما يصلحش يكون أب، أنا بختار أب لأولادي قبل ما بختار زوج ليا يا ماما.
تتنهد الأم وتفر مغادرة وهي تلوح بيدها وتغمغم بما لا تفهمه، ثم تأتي جدتها وتقول بغضب كأنها عالة عليها:
- أنتِ لو ما بطلتيش تتبتري على النعمة هتزول من وشك، شايفة نفسك على إيه يا ختي عشان كل ما يجيلك حد ترفضيه زي ما يكون وباء! ولا ناوية تحنطي جنب أمك؟
دمعة تضرب أجفنها طلبًا للتحرر، لكن كبرياءها المعتاد يمنعها، فتعود الدمعة حارقة لخلايا قلبها وهي تتذكر قول أبيها لها:
- يا بنتي المواصفات اللي أنتِ حطاها في دماغك مش موجودة في زماننا ده، كلنا مليانين عيوب وأخطاء، والست تقدر تغير من جوزها وطباعه للأحسن بأسلوبها، فكري يا بنتي، ده راجل مرتاح في المادة، ومتعلم أحسن علام، ومحترم مش ناقصه حاجة.
يُتعبها قلبها وعقلها وهي تعاود ذكرى تلك الرؤية التي جلستها معه، لم تشعر بالارتياح تجاهه، محترم لنفسه، متعلم لنفسه، مقتدر ماديًا أيضًا لنفسه، ما شأنها هي بكل هذا! كل ما يبحث عنه أهلها في الرجل ليس إلا كماليات، لكن أساسيات بنائها لأسرة لم تجدها متوافرة في أي ممن تقدموا لطلبها.
زفرت هواءً يثقل حملها، ثم تحركت لدورة المياه تتوضأ، أقبلت إلى ربها مناجية، ترجوه أن يُنير طريقها لما فيه الخير لها، وتُشهده على عدم راحتها لذاك القادم لطلبها.
سكنت إلى فراشها تسبح في نوم عميق بعد أن قرأت سورة الملك بترتيل اعتادته منذ كانت في صفها الثاني الإعدادي، تحديدًا منذ اليوم الذي تعرفت فيه على خلود، تلك الفتاة الورِعة التقية، صاحبة الكلمة الطيبة والعمل الصالح، من لا يُسمَع لها صوتًا في الطريق العام، ولا يُرى على جسدها من ثياب تصفه أو تُشفه للأعين، ولا تُضيع وقتها فيما لا يُفيد، ولا تُضيع صلاة الظهر في مسجد المدرسة حتى لو هددها المدرس بإنقاص درجاتها، فهي ترى فرض الله أولى من العلم وإن كان طلب العلم طاعة وازدياد قرب لله، وإصرارها نتيجة لأن لديها دروس بعد المدرسة وإلى أن يؤذن العصر.
سحبت خلود عدة فتيات في طريقها من إصرار على القرب من الله ورضاه، وكانت من بينهن هي.. أنفال.. صاحبة الأعوام الخمس بعد العشرين.
------*------*------يتبع...
أنت تقرأ
أنفال
General Fictionمرحبًا أيها العابر.. كيف حال قلبك الآن؟ لا تبتسم هكذا؛ أعلم صدقًا أنك لست بخير. لا داعي أيضًا أن تخبرني عِلَّة قلبك، فأنا غالبًا أعلمها: هناك طعنة من صديق داهمك على حين بغتة، أو ربما خذلك أخوك الذي يشاركك الفراش، أم أن قريبك قال فيك ما ليس فيك؟ حسن...