رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - الفصل الثالث

229 12 5
                                    

بوقوفه أمامها أحيا الكثير.. الكثير مما أرادت نسيانه.. أرادت محوه للأبد.. لكنها لم تقدر أبدًا.. لذا كان كل ما أرادته بهذه اللحظة أن تختبئ.. أن تبتعد قدر الإمكان محاولة تجاهل هذه اللحظة أيضا للأبد.. كما فعلت مع كل لحظة مرت بهما معًأ.. لكن مستحيل.. هي لولا.. ولولا لا تهرب.. فالهروب ضعف.. وهي لا تكره بحياتها شيئا بقدر ما تكره الضعف.. ولا تنوي لعن نفسها به لا الآن ولا في أي وقت..
ومع تردد تلك الكلمات ببالها رفعت ذقنها وحدجت الواقفة أمامها بنظرة متعالية وابتسامة ساخرة غير عابئة بأي شيء أو أحد وهي تردد بنفسها "هذه هي إذا"
لم تطل النظر لأي منهما وعادت بنظرها للواقفة بقربها.. تفحصت المرأة التي في منتصف عقدها الرابع بعينيها الزرقاوين الجميلتين.. وثيابها التي رغم بساطتها إلا أن البذخ يتضح عليها.. كانت ترتدي حجابًا بسيطًا.. ولم تتزين بأي شيء عدا الكحل وملمع بسيط.. ورغم بعض التجاعيد البسيطة.. إلا أنها كانت جميلة ولطيفة.. وبدت رقيقة وودودة بتلك الابتسامة البلهاء التي تزين ثغرها.. وهو ما أرادته تمامًا.
-:"عزيزتي"
التفتت لوالدها الذي أكمل بابتسامة لطيفة "سلمي على السيدة وفاء "
تكبدت الكثير من العناء للحفاظ على ثبات ملامحها.. بينما تلتفت لها وتبتسم ابتسامة فاترة وهي تقول بخفوت "مرحبا"
اتسعت ابتسامة وفاء التي اقتربت تحتضنها وهي ترد "مرحبا بكِ حبيبتي"
كانت تشعر بالضيق وبثقل يجثم على صدرها بينما تحتضنها.. وشعرت بالثواني القليلة تمر كالدهر عليها.. إلى أن حررتها أخيرا فتنفست براحة بينما تحافظ على جمود ملامحها وتنظر لوفاء التي بدورها نظرت لوالدها بينما يشير لليان قائلا "هذه ليان التي أخبرتك عنها.."
***
كانت تدعو الله سرًا أن تبقى لولا هادئة فأيًا منهم لم يخطط لهذا.. وما أن قال صالح هذا ابتسمت بارتباك بينما تنظر للسيدة الراقية التي اقتربت منها وسلمت عليها تماما كما فعلت مع لولا.. وما أن ابتعدت نظرت لهما معا وقالت "أنا سعيدة إنني قابلتكما أخيرًا"
أكملت بينما تشير للواقف بقربهم قائلة "هذا بدر.. ابني"
ثم أشارت للجالس بأريحية خلفها تكمل "وهذا يزيد ابن عم بدر.. لكنه بمثابة ابنٍ لي"
***
كان يشعر بالضيق ويفكر جديًا بالاعتذار بأي شيءٍ واهٍ ليغادر فهو لا يتحمل تلك الأجواء.. لكن ما أن سمع جملة خالته التفت ينظر للفتاتين.. لكنه تجمد بمكانه وهو ينظر للفتاة الواقفة أمام خالته بعينيها المتقدتان كالعسل الذائب.. لثوان اختفت أنفاسه وهو يتأملها.. متذكرًا فتاة كان لها نفس طول القامة ونفس لون الشعر ونفس الملامح الهادئة لكن عيناها.. عيناها لم تكونا بهذا اللون الأخاذ الساحر.
***
-:"لم لا نجلس"
خرجت هذه الجملة من الواقف بجوارها والذي كانت تحاول تجاهله قدر الإمكان.. بينما التفتت له ليان وابتسمت وأومأت وقبل أن ترد سمعت صوت عبدالرحمن
-:"نحن سنغادر هيا سالي"
كان هذا ما قاله قبل ان يستحوذ على يدها ويشد عليها ليسحبها وهو يكمل "نعتذر عن إزعاجكم "
ثم التفت لصالح مكملا "لقد سعدت برؤيتك عمي "
أومأ له دون رد ثم التفت للولا التي لم تلتفت له حتى.. فنظر لليان قائلا "أراكما لاحقًا"
لم تحاول ليان أن ترد.. فقط اكتفت بإيماءة بسيطة وابتسامة خفيفة.. وما هي إلا ثوان كان قد ابتعد ساحبًا تلك الفتاة.. وما أن فعل قالت وفاء "لم لا نجلس ونبدأ بتناول الطعام؟ "
أومأت لها ليان وقالت بمزاح محاولة تهدئة الأجواء المشتعلة "ستنقذيني من الإغماء إن فعلنا سيدة وفاء"
ابتسمت لها وردت "رجاءً ناديني خالتي"
**********
-:"لولا جميلة جدًا.. إنها أجمل من أي صورة رأيتها لها.. ماشاء الله !"
ابتسم صالح بينما يستمع لها تتحدث عن لولا بهذه الطريقة العفوية اللطيفة.. فقد بدت متحمسة لمقابلتها أكثر مما تخيل.. وتناست وجوده هو وبدر ويزيد وأخذت تتحدث مع لولا وليان التي تجاوبت معها.. ولم تتوقف عن الحديث والضحك معها.. على عكس لولا التي كانت صامتة ومتباعدة.. ولأكثر من مرة نهضت تقف بعيدا.. ورغم أن ما حدث ربما كان سببًا بتشتيتها قليلا فقد توقع أن تحيل تلك الجلسة جحيمًا.. لكن على العكس كانت تبتسم من حين لآخر بهدوء.. إلا أنه شعر بالحزن يزداد بقلبه.. وبثقل يجثم على صدره كلما نظر لها ورأى علامات الخيبة ترتسم على وجهها.
-:"لكني شعرت إنها حزينة"
قاطعت وفاء أفكاره بهذه الجملة فتنهد بتعب.. وقد شعرت هي بحزنه فسألته "هل للأمر علاقة بذلك الشاب؟"
نهض من مكانه وتحرك ناحية النافذة الصغيرة لغرفته ونظر للخارج.. وهو متأكد أنها تقف الآن أمام نافذتها تتطلع للشرفة المقابلة بحسرة وخيبة أمل.
-:"صالح.. ألا زلت تسمعني"
تنفس بعمق ورد "معك عزيزتي.. وأجل له علاقة.. لكنها قصة طويلة وقديمة ولا أريد إيلام رأسك بها"
-:"لم أسمعك تشتكي بينما أخبرك بكل ما مررت به بغيابك.. وعندما أخبرتك بجملة مشابهة أخبرتني أنك مستعد لسماعي المتبقي من عمرك تذكر"
ابتسم وابتعد عن النافذة وهو يرد "طبعا ولا زلت عند كلمتي"
على الجانب الآخر ابتسمت وفاء وهي تتذكر تلك الكلمات البسيطة التي أسعدها بها أكثر من أي شيء فقد تخيلت بوقتها أنه سيبتعد وسيرحل للأبد ولم تكن لتلومه.. فلا يوجد رجل طبيعي قد يستمع لكل هذا ويرغب بالبقاء بقربها بعدها.. ربما يتعاطف لكن غروره الذكوري سيجبره على الرحيل.. لكن صالح ليس كأي رجل ورغم أنها تعلم كم حزن لأجلها وشعر بالعجز والغضب من نفسه ومن العالم كله لأنه لم يملك القوة ليمنع عنها كل تلك الآلام إلا أنه لم يوقفها عن الحديث.. تركها تقول كل ما بقلبها وبعدها طلب منها أن تنساه وإن لم تقدر فهو سيستمع لكل ما آلمها بغيابه للمتبقي من حياته.. عل هذا يخفف عنها الحزن.. وقد كان هذا كافيًا ليذهب كل الحزن للأبد.. عادت للوقت الحاضر وهي تتنهد وتكمل بكلمات نابعة من قلبها "أنا أيضا.. أود الاستماع لك للمتبقي من عمري"
كان صالح قد جلس وقد شردت عيناه بالفراغ وهو يتذكر كل ما حدث ورغبة ملحة تدعوه لإخراج كل هذا من باله عله يرتاح قليلا لذا تنهد بتعب وهو يرد "إذا اسمعي غاليتي"
*****
وبغرفتها وقفت لولا أمام النافذة المفتوحة تنظر للشرفة المقابلة.. وومضات تتردد ببالها له هو وحده.. مرة وهو يقف بتلك الشرفة يبتسم.. ثم له وهو يشير لها.. ثم وهو يهمس بكلمة حاولت جاهدة ألا تتردد ببالها لكنها لم تقدر.. فقد بقيت تتردد ببطء وبلا توقف كأن عقلها يتفنن بتعذيبها وزيادة ألمها.. وفتح ذلك الجرح الذي ظنت أنها أغلقته وداوته للأبد لكنها كانت مخطئة.. ومع تلك الصورة الأخيرة التي ترددت ببالها له وهو يلتفت ويغلق باب تلك الشرفة لآخر مرة قبل أن يرحل منها للأبد.. ثم له اليوم وهو ينظر لتلك الفتاة.. ثم وهو يمسك يدها ويسحبها ليغادرا.. ورغم أنها حاولت جاهدة تجاهله وعدم الالتفات له لكنها لم تقدر.. ورغم ادعائها العكس إلا أنها رأت كل هذا.. هطلت الدموع من عينيها وهي تستند على الجدار بجوارها.. وتغمض عينيها لثوان محاولة تمالك أعصابها.. وأن تهدأ وتعود لبرودها وتجاهلها لكل شيء إلا أنها لم تقدر.. فازدادت دموعها وبقيت لفترة على هذه الوقفة إلى أن شعرت بالتعب وأصبحت ساقيها غير قادرتين على حملها.. ففتحت عينيها وتحركت تغلق النافذة بهدوء وعيناها معلقتان بالشرفة.. ثم أطرقت والتفتت متحركة ناحية الفراش واستلقت عليه.. وما هي إلا ثوانٍ وراحت بسباتٍ عميقٍ وهي تتخيل إنها كالعادة ستراه بكل أحلامها.. لكن ما حدث إنها رأته يقف أمامها ثم يتلاشى كما يحدث عادة.. لكن ما لم يكن يحدث هو رؤيتها لعينين زرقاوين تحتلان كل شيء من حولها.
*****
-:"أنا اكره شقيقك عبدالله!"
ضحك صدر من الجهة الأخرى للهاتف.. فلم تتمالك ليان نفسها وقالت بحدة "على ماذا تضحك يا هذا؟!"
هدأ ضحكه قليلا بينما يرد "لأنك كلما تحدثتِ معي لابد وأن تقولي هذه الجملة"
ردت بعصبية "لأنها الحقيقة.. أخبرني متى سيسافر ويريحنا من رؤية طلته البهية؟!"
عاد يضحك ثم رد "قريبا لا تقلقي.. هو فقط ينتظر لأنه سيتقدم لخطبة تلك الفتاة قبل سفره"
أومأت ليان بتفهم.. وتذكرت تلك الفتاة التي كانت تقف بقربهم.. وبحسبة بسيطة افترضت إنها هي نفسها.. لكنها لم ترد الإطالة بالحديث عن الأمر فقالت "هذا أفضل.. لأني كنت على وشك قطع علاقتي بك بسببه"
-:"ويهون عليك عبدالله حبيب قلبك؟"
قال تلك الجملة بتملق محاولا استمالتها لكنه فشل كالعادة فقررت إغاظته وردت "أنت بالتأكيد تتحدث عن عبدالله آخر.. فأنت لست حبيب قلبي.. وأجل تهون علي لأجل لولا"
سمعت تأففه الحاد فكتمت ضحكتها بينما تستمع لصوته المنزعج يقول "لا أفهم كيف تتحملينها.. بل وتتمسكي بها ومستعدة للتضحية بأي من أصدقائك لأجلها"
توقفت عن الضحك وردت بشراسة وحدة لم تحاول إخفاء أيًا منهما "لأنها تستحق.. أنا لا اهتم لأي مما تقولونه عنها أو تعتقدونه.. لا يهمني إلا ما أراه بعينيّ وأشعر به بقلبي.."
ضاقت عيناها بينما يزداد غضبها وهي تكمل مشددة على كل حرف "ولا تنسى أن ما أصبحت عليه شارك شقيقك بالتسبب به بنسبة كبيرة"
صمت قابلها على الجانب الآخر وهي لم تنتظر سماع رد وقالت "سأغلق الآن عبدالله وأحادثك في الغد"
-:"حسنا.. سأحادثك في الغد"
لم ترد بأي كلمة وأغلقت الخط فورا وألقت الهاتف بعيدا.. ثم نهضت تعد لنفسها كوب من الحليب ثم اتجهت لغرفة نومها.. وبينما هي مستلقية في الفراش فتحت هاتفها وأرسلت للولا رسالة تطمئن عليها.. لكن ظهر أمامها إنها لم تكن متواجدة منذ ساعات.. فعلمت إنها بالتأكيد نامت ولن تفتح الآن.. أغلقت هاتفها وبدأت بشرب كوب الحليب وهي تتذكر أحداث اليوم.. ورغم حزنها على لولا إلا أنها استمتعت بالحديث مع السيدة وفاء.. بدت امرأة طيبة وبسيطة.. وتمنت من قلبها أن تبدل لولا فكرتها عنها.. تذكرت عندها ذلك الشاب المتجهم.. الذي كلما التفتت له وجدته ينظر لها بطريقة غريبة.. لدرجة أنها شكت أن هناك خطب ما بثيابها أو بمظهرها.. إلا أنها بالمرة التالية عندما التفتت نحوه تعلقت عيناها به لثوان دون أن يشعر.. كان شابا وسيما لكنه متجهم بطريقة غريبة ولا تعلم لم وترتها نظراته.. هزت رأسها بعنف وقررت نسيان الأمر برمته.. تحركت تحضر فرشاة الشعر من على المنضدة الصغيرة القريبة من الفراش وجلست مقابل المرآة المعلقة أمام الفراش وبدأت بتصفيف شعرها ولفه حول رأسها.. وما أن انتهت ونظرت لوجهها لاحت ببالها ذكرى قديمة
&&
كانت والدتها تصفف لها شعرها بينما تدندن بأغنية قديمة كانت تعشقها.. وما أن انتهت التفتت ليان تنظر لنفسها بالمرآة.. كانت والدتها قد قسمت شعرها لبضعة أجزاء وأخذت بلفه حول رأسها بطريقة محكمة.. فانعقد حاجباها بشدة والتفتت لها تقول "لم صففته بهذا الشكل أمي.. أبدو قبيحة!"
اتسعت عينا والدتها وهي ترد "من قال إنك قبيحة.. بل أنتي أجمل فتاة على الأرض"
ابتسمت ليان بخجل ثم أعادت النظر للمرآة وهي تتأمل نفسها لثوان ثم قالت "لكن تلك التسريحة سيئة وتجعلني أبدو قبيحة"
ابتسمت والدتها وأمسكت بوجنتيها بين يديها وهي ترد "لا تقلقي لا أحد سيراك بها.. إنها فقط للصباح وبعدها سننزع الدبابيس من رأسك.. وسترين كم سيكون شعرك مموجًا وناعمًا أكثر من أي فتاة أخرى"
ابتسمت ليان وكادت تقول شيئا لكنها سمعت صوت الباب الخارجي يفتح فصمتت فورًا.. ودفنت رأسها بصدر والدتها وهي تهمس بخوف "أمي.. لا أريد أن أتركك.. أريد النوم بقربك!!"
&&&&
ابتسمت ليان بأسى وهي تتنهد بحزن ثم همست "لقد اشتقت إليك أكثر من أي شيء"
نظرت للتسريحة الغريبة وهي تضحك بخفوت وتتذكر كم عانت بعد وفاة والدتها بتعلمها لكنها أتقنتها بالنهاية.. وأبقت على تلك العادة وستبقي عليها إلى يوم مماتها.. عادت صورة لولا تلوح ببالها.. هي فعلا تتعاطف معها.. فهي الأخرى مرتبطة بوالدتها بشكل كبير.. ولن تسمح أن تحتل مكانها امرأة أخرى هكذا ببساطة.. وربما لو كانت بمكانها وبنفس ظروف تربيتها لفعلت المثل.. لكن العم صالح رجل طيب ويستحيل ان يفعل بها ما فعله والدها.. أو أن يسمح لامرأة كحسنية بالتحكم أو حتى دخول حياة ابنته.. لذا عليها أن تحاول إيصال هذا للولا رغم أنها تعلم الرد مسبقا.. فتلك الفتاة أعند من أن تستسلم أو تقتنع برأي أي أحد عدا نفسها.. ورغم هذا هي تشفق عليها.. يكفيها ما أصابها اليوم.. لذا ستحاول معها بهدوء مرة أخرى.
****
فتح صالح الباب بهدوء ودخل على أطراف أصابعه محاولا ألا يصدر منه أي صوت.. وما أن وصل للفراش جلس عليه بهدوء وهو ينظر لوجه ابنته الغارقة بالنوم.. ثم مد يده يرفع خصلات شعرها المتناثرة عن وجهها.. وجمع شعرها خلف رأسها حتى لا يضايقها بنومها.. وما أن انتهى وجدها تتحرك فخاف أن تستيقظ.. لكنها ضمت نفسها إليه فابتسم وهو يحيط جسدها بالغطاء ويتأملها قليلا.. وهو يتذكر عندما اكتشفت وجود عبدالرحمن كيف تحركت نحوه تلقائيا وكأنها تحتمي به.. فهو الوحيد الذي يعلم كم تألمت منه.. وكم تحطمت أحلامها وكل ما أرادته بلحظة واحدة.
انحنى عندها وطبع قبلة صغيرة على رأسها ثم نظر لها وهمس "ليتني أملك ما أشتري به كل ما يسعدك صغيرتي"
ربت على وجنتها وابتسم وهو يكمل "لكني واثق أن الله سيعوضك خيرا عن كل ما عانيته حبيبتي.. فأنا متأكد أن خلف تلك القشرة الصلبة القاسية لا تزال صغيرتي الطيبة الحنونة موجودة"
عاد يقبلها على رأسها ونهض وتحرك للخارج وهو يدعو الله سرًا ألا يخيب ظنه.
*******
-:"أنا حقًا آسفة على ما حدث اليوم"
تنهد بدر بضجر قبل أن يرد بثبات "للمرة الثالثة سالي لا داعي للاعتذار.. أنا لا أفهم على ماذا تعتذرين أصلا"
صمت قابله على الجانب الآخر فعلم أنه أربكها بسؤاله.. فهي لسذاجتها تظن أن تدخل ذلك الشاب قد أزعجه.. ولا تعلم أنه حمد الله سرًا لأنه تدخل وأبعدها.. فقد كان الاجتماع عائلي وهو لم يردها أن تعرف أي شيء يخص عائلته.. هي تريد أن تتسلى وهو سيمنحها التسلية التي تطلبها..
دخلت والدته عندها فأبعد كل هذا عن باله وقال "سأغلق الآن سالي وأحادثك فيما بعد"
-:"حسنا لا بأس.. تصبح على خير.."
رد سريعًا "وأنت من أهله.." ثم أغلق الخط ونظر لوالدته التي اقتربت منه وجلست بجواره وهي تحدجه بنظرة منزعجة يعرفها جيدًا فقال "إنها مجرد فتاة فاشلة وأنا أساعدها"
ارتفع أحد حاجبيها وزمت شفتيها بينما ترد "أطلب من الفاشلة ألا تتصل بك بالبيت وإلا سأرد أنا عليها وأحرجها"
ضحك بخفوت وهو يعلم أن هذا ما ستفعله.. لن تكون أول أو آخر مرة تحرج بها إحدى صديقاته أو حبيباته.. اقترب منها وأحاط كتفيها بذراعه وهو يقول بمشاكسة "بم أنك ستتزوجين فلا يحق لك تقييد علاقاتي بالجنس الآخر"
اتسعت عيناها لثانية ثم ضربته على رأسه وهي ترد "إن لم أكن أملك ذلك الحق.. فمن يملكه يا ابن وفاء؟.."
ضحك بشدة ثم غمز لها قائلا "لا أمل لي إذا بتنفيذ رغباتي أليس كذلك؟.."
ابتسمت بخبث وردت "إن كان بالزواج فلا مانع عندي ولدي العروس"
أبعد يده عنها وقال سريعا "لا إياك وأن تتعبي نفسك أماه.."
ضحكت وفاء بشدة فابتسم هو الآخر وما أن انتهت تأملته قليلا قبل أن تتنهد وتسأله "إذا هل ستسافر بالغد؟"
أومأ لها ورد "سأسافر مع جناد ويزيد لكن الموعد سيكون بالمساء فجناد لديه بعض الأشغال"
أومأت له بصمت وأطرقت فعلم أنها قلقة عليه لذا اقترب وعاد يحيطها بذراعه وما أن نظرت إليه سألها "هل خذلتك من قبل؟.. أو وعدتك بأي شيء ولم أنفذه؟.."
ردت "لم تفعل من قبل.. وأعلم أنك لن تفعلها أبدًا.."
تنهدت بقلة راحة ثم أكملت "لكنك تعلم أن هذا ليس ما يقلقني حبيبي.. فأنا لا أريد التسبب بأي حرج لك.. والكثيرين سيتخذون زواجي ذريعة لفعلها.."
ابتسم واقترب يطبع قبلة على جبينها ثم ضمها وهو يقول "لن يحدث أيًا من هذا لا تقلقي.."
وضعت يدها على صدره وهي تتمنى من كل قلبها أن يكوت صادقًا فعلا بينما كان بدر يربت على ذراعها محاولًا تهدئتها ثم فجأة قال "لم تخبريني أن ابنته شابة.."
رفعت رأسها ونظرت له باستغراب فأكمل "أعني ابنة العم صالح ظننتها فتاة مراهقة.."
ردت "لا ليست مراهقة إنها في الثالثة والعشرين.."
أومأ بتفهم ثم سألها "هل اسمها الحقيقي لولا.."
ارتفع حاجباها بدهشة لكنها لم تطل الصمت وردت "لا لها اسم آخر لكن لا أحد يعرفه إلا هي ووالدها فهي تكرهه وقد رفض والدها أن يخبرني أنا حتى فقد خاف أن أخطئ وأناديها به لا زلت أذكر ما قاله عن كون ردة فعلها لن تعجبني أبدًا.."
اتسعت عيناه لثانية ثم ابتسم بخبث ابتسامة تعرفها جيدًا وعلى غير المتوقع منها.. ادعت وفاء أنها لم ترى أي شيء وعادت تضع رأسها على كتفه بينما هو يقول بخفوت "سيكون هذا مسليًا للغاية"
***********
بعد مرور يومين..
وقف بدر بشرفة غرفته بقصر العائلة ينظر للجبل القريب وهو يبتسم.. فرغم كل الذكريات السيئة التي يبعثها المكان له إلا أنه يعشقه.
-:"لا يمكنك تخطي أصولك"
التفت لصاحب الصوت الذي كان ينظر للجبل هو الآخر مكملا "مهما سافرت ونلت شهادات عالية ومكانة مرموقة.. لا يمكنك نسيان أصلك"
عاد بدر ينظر أمامه وهو يرد "من أخبرك أني أريد النسيان يزيد"
اقترب يزيد منه وربت على كتفه ثم قال "جدتي استدعت كلانا"
تنهد بدر وشحذ همته وهو يستحضر كل الكلمات والجمل التي حضرها لتلك المقابلة.. رغم أنه يعرف يقينا أنه سينساها فور دخوله.. التفت بعدها وتحرك مع يزيد لخارج الغرفة.
دخل الغرفة الضخمة واتجه لجزء منها يحوي أريكة عريضة بطراز قديم تجلس عليها جدته.. بينما يجلس جناد بجوارها وعمه يجلس على أحد المقاعد وعلى ما يبدو كانوا يتناقشون بأمر ما.. لكن كالعادة بأصوات خافتة بالكاد يسمعها ثلاثتهم.. وما هي إلا ثانية وجدهم يلتفتون نحوه وقد ابتسمت جدته وقالت "هل تنتظران دعوة أيها الشقيان"
تحركا للداخل واتجها نحوها وانحنى بدر لتقبيل يدها ثم طبع قبلة على جبهتها.. وبعدها تبعه يزيد.. وما أن جلسا قالت "كيف حالكما.. ألا تزالان محتالان؟"
رد يزيد "أنا تعقلت منذ زمن جدتي.. لكن بدر لا يزال على حالته"
حدجه بدر بنظرة صاعقة بينما تنهدت جدته وهزت رأسها وهي ترد "كلاكما لن يتعقل إلا بالزواج"
احتقن وجه يزيد عندها بشدة وقد لاحظ الجميع ذلك.. فقال بدر محاولا تخفيف الأجواء "عندما يتزوج جناد أولا فهو كبيرنا"
ردت جدته "لا شأن لك بجناد أيها المحتال.. فهو لا يرفض لي طلبا وعروسه موجودة.. وما أن أرى أن الوقت حان سأخبره وهو لن يرد أمري.. لكن أنتما كالعادة تتهربان"
لاحظ جناد ارتباك يزيد فتدخل هو بصوته الرخيم قائلا "لنؤجل الحديث عن هذا لوقت لاحق جدتي ودعونا نتناقش بما اجتمعنا لأجله"
نظر لبدر ثم لجدته ووالده مكملا "كما كنت أخبركما منذ قليل لقد تقدم رجل طيب بطلب يد الخالة وفاء وهي وافقت وكذلك بدر.. لكن بالطبع كلاهما ما كان ليأخذ خطوة دون علمكما وإذنكما"
ارتفع أحد حاجبي جدته وردت "لا أعتقد هذا فأنا أعرف وفاء.. ومنذ زمن بعيد توقفت عن أخذ رأينا بأي شيء"
-:"بالتأكيد أنت تذكرين السبب جدتي"
التفتوا جميعا لبدر الذي أكمل بصلابة "أنت دونًا عن الجميع تعرفين الأسباب.. وقد كنت شاهدة ورأيت ما أصابها بعينيك"
رغم أن ملامحها لم تهتز وبقيت كما هي إلا أنه كان يعلم أن قلبها رق.. فلطالما أخبرته أن والدته كانت أقرب زوجات أبنائها إليها.. لذا أكمل برفق "لكن والدتي كانت تعلم أنك أبدا ما كنت لترفضي"
ادعت جدته التفكير قليلا ثم التفتت لجناد وسألته "وما رأيك أنت؟"
رد جناد "أنا أخدم العائلة جدتي أينما كانت مصلحتها.. وأطبق القواعد والقوانين على الجميع بلا استثناء"
صمت قليلا ثم أكمل "لكن كما أخبرت بدر من قبل.. الخالة وفاء خرجت عن قواعد وإحكام العائلة منذ زمن.. وبذلك الوقت عفوت عنها جدتي مقابل صبرها كل تلك السنوات وتحملها الكثير.. لذا نحن لا نملك الاعتراض الآن.. ورغم هذا الخالة وفاء لم ترغب بالقيام بأي خطوة بدون علمنا وهو أمر احترمه وأقدره.. لكن بالنهاية أوامرك أنت ووالدي مجابة"
*****
-:"توقفي عن قضم أظافرك سالي.."
التفتت سالي لشقيقتها وتأففت بضيق ثم ردت "لا يمكنني رحمة.. أكاد أنفجر من فرط الغضب"
حركت رحمة عيناها بضجر وهي تهمس "لن ننتهي من هذه القصة"
استندت سالي على الطاولة وقالت بعصبية "أخبرتك أنه يتجاهلني ولا يرد على اتصالاتي وهذا ما تردي به رحمة!.. ألست شقيقتك؟.. لم لا تساعديني؟"
تلفتت رحمة حولها لتتأكد أن أحدًا لم يسمعها ثم اتكأت على المنضدة وقالت بحدة وخفوت "أخفضي صوتك يا غبية لا تنقصنا فضائح بسببك"
لم يبدو عليها الاهتمام بحديثها وعادت ترتاح بمقعدها وهي تحادث نفسها قائلة بحنق "لا أعلم لم يعاملني بهذه الطريقة.. لم يجرؤ أي أحد على فعلها من قبل.."
تنهدت رحمة محاولة التحلي ببعض الصبر ثم قالت "ليس فرضًا على كل شاب أن يحبك أو يعجب بك سالي.."
التفتت لها فأكملت "عليك أن تعتادي أن البعض قد يرفضك أو.."
ولم تكد تنطق بالكلمة التالية وجدتها تقاطعها بحدة "من ذلك الذي يرفضني.. هل فقدت عقلك رحمة؟.. أم تخاليني غبية وساذجة مثلك؟.."
ابتلعت رحمة ريقها والألم يملؤها بينما شقيقتها تكمل بغرور "أنا سالي.. وسالي لا يمكن أن يرفضها أي رجل.."
عادت ترتاح بجلستها وهي تبتسم بثقة مكملة "وسالي دائمًا تحصل على ما تريده.."
تنهدت رحمة وفضلت الصمت فألهت نفسها بالنظر إلى قائمة الطعام فهي تعلم نهاية الحديث معها بمثل هذه الأمور وبقيت تكرر لنفسها أن الأمر لا يعنيها أبدًا.. وأن لديها ما يكفي من المشاكل بحياتها لتهتم بها بدلًا من مشاكل شقيقتها التافهة.. بينما بقيت سالي تفكر بطريقة لجعل بدر هو من يحادثها لكن قطع أفكارها رنين هاتفها وقبل أن تنظر له كانت تعلم من هو المتصل.. لذا ودون تفكير فعلت الوضع الصامت وألقته في حقيبتها الصغيرة ثم أغلقتها قبل أن تعود للبحث عن طريقة تستدرجه بها.. فلن تكون سالي إن لم توقع به في حبائلها ليتبع كل من سبقوه..
********
-:"إذاً فقد اقتنعت أخيرا"
أفاقت من أفكارها على صوت ليان.. والتفتت لها وهي تسترجع جملتها ببالها محاولة تفسيرها.. وعندما فشلت سألتها "ماذا تقصدين؟ "
ارتفع حاجبا ليان بدهشة وهي تستغرب حالتها.. فهي منذ أيام صامتة تمامًا وبالكاد تتحدث.. لكنها خمنت السبب.. فما أصابها كان مباشرة بعد تلك الدعوة الكارثية.. لكنها قررت تجاهل الأمر كما تفعل دائما معها حتى لا تفتح لها بابا لتتذكر ذلك الوغد.. رغم تأكدها أنها لم تنسه حتى الآن.. لكنها استمرت بإتباع سياسة التجاهل علها تفلح كما أفلحت من قبل وقالت "أعني أنك وافقت أخيرا على قصة زواج والدك.. فقد اتصل بي صباحا وأخبرني أن عقد القران سيكون بالغد"
أومأت وردت "أجل.. وقد حضرت أمتعتي"
انعقد حاجبي ليان وسألتها "ألم تخبريني أنك ألغيت فكرة الانتقال والعيش مع خالتك؟"
ردت "أجل فعلت.. أنا أحضر أمتعتي لأننا سننتقل للعيش بمنزل تلك المرأة وابنها"
ابتسمت ليان وقالت "إذا فأنت وافقت أخيرا ولن تفسدي الأمر على والدك؟"
ابتسمت لولا بأسى ثم عادت تنظر للخارج وهمست "ومنذ متى كنت أختار.. أو لا أفسد الأمور ليان؟"
نظرت لها بأسى لثوانٍ وفكرت بمواساتها.. لكن بم ستفيدها الكلمات.. تنهدت ثم قررت تبديل الموضوع وسألتها "إذًا ماذا سترتدين في الغد؟"
عادت لولا تنظر لها فأكملت ليان بحماس "كنت أفكر أن نرتدي نفس اللون بما أن والدك دعانا للغداء بأحد المطاعم الراقية بعد عقد القران.."
أطرقت لولا بنظراتها وردت "لا أظن أن هذا ممكنًا ليان فقد أعددت فستاني مسبقًا ولا أنوي تبديله"
استغربت ليان طريقة حديثها بينما لم تمهلها لولا ونهضت تكمل "يمكنك ارتداء ما تريدينه فلا أحد سيكون متواجدًا عدا أبناء العروس اللطيفة.."
قالت كلمتها الأخيرة بسخرية ثم ابتعدت تشغل نفسها بعمل أي شيء بينما تنهدت ليان وهي تهمس بنفسها "ليكن الله بعون السيدة المسكينة والعم صالح.."
*****
في المساء
وقف بدر ينظر من الشرفة للبعيد كان المكان مظلمًا تمامًا.. فبيوت أفراد القبيلة تبعد عن القصر.. فقط بضعة مصابيح إنارة موضوعة على الممشى المؤدي للقصر.. وكذلك بعضها عند قاعدة الجبل.. تذكر حديث جدته معه بعد أن طلبت من الجميع الانصراف لتنفرد به في الصباح
&&&
نظرت له قليلا ثم قالت "أنت تعلم كم أحب والدتك.. وما مقدار منزلتها لدي بدر "
أومأ لها فتنهدت بحزن وأكملت "وأنا أعلم كيف كان ابني معها.. أنا لم أجرؤ على الاعتراف بالأمر لها أو لأي أحد آخر"
عادت تنظر له وأكملت "قد تخالني ظالمة.. لكن بالنهاية أنا أم وهو كان ابني.. لكن أنت حفيدي.. ولأجلك أفعل أي شيء.. لذا أنا سأوافق لكني لن أبارك هذا الزواج ولن احضره.. سأكتفي بادعاء إني لم اسمع ولم أرى أي شيء"
&&&
تنفس بدر بعمق وهو يفكر أن هذا أفضل من أن تعترض أو ترفض الأمر.. بل إنه أفضل مما توقع.. فقد تخيل معاندة منها.. وإنه سيأخذ وقتا بإقناعها.. فهو يعرف كيف تسير مثل تلك الأمور بعائلته.
رفع يده ينظر لساعته وهو يفكر أن الوقت تأخر.. لكن والدته بالتأكيد مستيقظة تنتظر اتصاله بترقب فهو بالصباح اتصل بها واكتفى بإخبارها أن الأمور سارت على خير ما يرام فقط ولم يسهب بسرد التفاصيل.. لكنها بالتأكيد لن تنام دون أن تسمع منه لذا عليه الحديث معها.. هبت نسمة هواء عندها فنظر أمامه مجددًا وابتسم تلقائيًا ما أن لاحت بباله تلك الفتاة بقامتها القصيرة وشعرها الذي كان يتطاير من خلفها بينما توليهم ظهرها.. بدت حزينة وشاردة طيلة فترة الغداء التي قضوها معا.. هز رأسه بعنف وقرر الحديث مع والدته ليطمئنها.. وبينما يتحرك ليدخل وجد يزيد يقف بشرفة غرفته وهو يحمل إطارًا بيده.. فعلم ما يحتويه فورا.. ورغمًا عنه وقف يراقبه لدقائق بحزن وأسى.. لقد حاول بكل الطرق طيلة الأعوام الماضية أن يخرجه من تلك الحالة.. حتى جناد ووالدته حاولا لكن دون فائدة.. تنفس بعمق وهو يفكر أن عليه إيجاد حل فلا يمكن الصمت أكثر من هذا..
*****
دخل إلى غرفتها وجدها تجلس على المقعد المجاور للفراش وهي تنظر للإطار الصغير المجاور لفراشها الذي يحوي صورة ثلاثتهم.. ابتسم وهو يتذكر أن خالته وفاء تضع نفس الصورة بنفس الإطار وأيضا بغرفة نومها وبمكان قريب من فراش نومها.. وعندها لاحت بباله جملة قديمة لوالده اعتاد أن يرددها على مسمعه
-:"لا توجد إمرأة ستحبك بقدر ما تحبك جدتك وخالتك وفاء.. لذا إياك والوثوق بغيرهما.. فالنساء لا أمان لهم جناد.."
أغمض عيناه لثانية ثم أطرق قليلا محاولا تمالك أعصابه وما هي إلا ثانية وتجاهل ذلك الشعور الدفين السيء الذي لم يحاول تفسيره..
تحرك ناحيتها بعدها وجلس على الفراش بجوارها وقال "توقعت أن ترفضي وأتعب بإقناعك.."
لم تلتفت له ولثوانٍ بقيت صامتة وعيناها معلقتان بالصورة قبل أن تقول بخفوت "يزيد ليس بخير.."
التفتت له بعدها وأكملت "ثلاثتكم لستم بخير.. لكن هو بالذات حالته تسوء يومًا بعد يوم.. ولم يعد بإمكاني الصمت على وضعه أكثر.."
فهم جناد مقصدها فورًا ولأنه يعرف كلاهما علم أنها لو فاتحته بموضوع الزواج ستنتهي تلك الزيارة بطرد يزيد من العائلة للأبد.. فهو لم يرث صلابة الرأس والغرور من أحد غير جدته.. لذا تنحنح وقال "جدتي ما أصاب يزيد ليس شيئًا هينًا جميعنا لا زلنا نتعافى منه.. فكيف به هو؟"
ردت بصلابة "جميعنا أكملنا حياتنا.."
لم تسمح له بالحديث وأكملت "إياك أن تخبرني أنه فعل.. أنت تعلم كيف يعيش منذ ذلك الاتفاق اللعين الذي اضطررنا لإبرامه حقنًا للدماء.."
أطرق جناد وهو يحاول تهدئة انفعاله ثم نظر لها وقال "الزواج ليس حلا بحالة يزيد جدتي صدقيني.. وإلا كنت أجبرته منذ زمن وهو ما كان ليرفض لي أي طلب"
عادت تنظر أمامها وشدت على عكازها وهي ترد "هو كذلك بالنسبة لي.. فهل سترفض لي طلبًا جناد؟"
ابتلع لعابه وقال دون تفكير "بالطبع لا.."
التفتت له ورغم محاولتها أن تبقي على صلابة ملامحها إلا أنها ابتسمت ابتسامة خفيفة فأكمل هو "لكن أتركي يزيد من يختار عروسه"
اختفت ابتسامتها وتنهدت بنفاذ صبر فقال سريعًا "لأجل خاطري دعيه هو من يختار هذه المرة.."
نظرت له قليلاً ثم ردت "موافقة لكن بمقابل.."
تنفس بعمق ثم قال "أخبرتك أني لن أرفض لك أي طلب جدتي.."
كان يعلم مسبقًا ما ستطلبه ولكنها على غير العادة صمتت لثوانٍ ثم ربتت على ساقه وقالت "اذهب الآن للنوم حتى لا تتعب بالسفر غدًا.. وسنكمل حديثنا قبل سفرك.."
رغم استغرابه لحديثها إلا أنه لم يجادلها ونهض يطبع قبلة على رأسها ثم تحرك للخروج من الغرفة وما أن فعل وتأكدت هي من خروجه تحركت تمسك بالإطار وقربته منها وهي تتأمل الصورة وملامح ثلاثتهم الفتية وعقلها يدور كمتاريس الآلات.. فهي ستنفذ ما ببالها أيًا كان الثمن.. وموافقتها على زواج وفاء من ذلك الغريب هو أول خطوة لتحقيق مسعاها..
***********
في مساء اليوم التالي
تثائب بدر بتعب فضحك يزيد بخفوت وقال "لم لم تطلب من والدتك أن تؤجل موعد عقد القران حتى نرتاح قليلا؟"
زم بدر شفتيه بينما ينظر للطريق أمامه ويقود السيارة وهو يرد قائلا "رفض العم صالح"
كتم يزيد ضحكته وقبل أن يقول أي شيء شعر بضربة قوية على رأسه جعلته يرتد للأمام فالتفت ينظر له بشراسة وهو يقول من بين أسنانه "سأرديك قتيلا بعد عقد القران جراء تلك الحركة"
رد دون التفات "أرني ما لديك.. لك انتبه أن أقتلك أنا أولا جراء قلة أدبك.."
ابتسم يزيد بسخرية وعاد ينظر أمامه وهو يقول "انظروا من يمنحني نصائح عن الأدب؟!"
-:"بظرف آخر سأمنحك نصائح عن قلة الأدب"
قالها بدر بمكر جعله يلتفت له فابتسم يزيد بسخرية ورد "إن حدث وحققت أحلام جدتنا يومًا ما فأنا من سيمنحك النصائح أيها الوغد.. هل نسيت أني الأكبر سنًا"
اختفت الابتسامة وابتلع لعابه بتوتر ثم عاد ينظر أمامه وهو يتنهد مكملا "كما أن لي تجربة سابقة إن كنت قد نسيت.."
لم يرد بدر بالبداية لكنه في النهاية قال "على الأقل أصبحت تفكر بالأمر.."
التفت له يزيد فأكمل بخبث "حديثي الوقح أتى بنتيجته.."
ابتسم يزيد رغمًا عنه لثانية فقط ثم خيم الصمت عليهما لدقائق قبل أن يقول بدر "وصلنا.."
أوقف بدر سيارته أمام البناية الضخمة وهبط كلاهما بينما تحرك يزيد لجهته وهو يقول "من الجيد أني طلبت من سائقي أن يتبعنا فسنحتاج سيارة أخرى.."
أومأ له بدر ثم أخرج هاتفه وهو ينظر للرسالة التي أرسلتها له والدته في الصباح تخبره بها بالعنوان وبرقم الطابق والشقة
-:"هل أنت متأكد أنه المكان؟"
التفت ليزيد الذي أكمل "أليس من المفترض أن يكون هناك مركزًا للتجميل أو ما شابه؟!"
ابتسم بدر بسخرية ورد "الزمن تقدم يزيد.. أصبح للتجميل خبيرة متخصصة وأصبح من اللائق لمظهرها العام أن يكون محل عملها بمنتصف بناية حديثة وضخمة"
نظر يزيد للبناية بضجر وقال "أنت الخبير بهذه التراهات هنا.."
ضحك بدر بخفوت ثم ربت على ذراعه ورد "إذا تحرك معي لأمنحك بعض الخبرة عن تلك التراهات فقد تحتاجها بوقت قريب.."
***
كان يزيد بالكاد يتمكن من كتمان ضحكه وهو ينظر لارتباك الفتاة التي استقبلتهم وهي تنظر لبدر.. فما أن رأته يدخل اتسعت عيناها وتحولت وجنتاها للون الأحمر ما أن حادثها وسألها عن موعد خروج الخالة وفاء.. سمعها تتنحنح وهي تقول "والدة حضرتك ستخرج بعد ربع ساعة.."
ابتسم بدر للفتاة فابتلعت لعابها محاولة تخفيف الحرج الذي أصابها منذ دخل هذا الوسيم الاستقبال وأكملت "والآنستان التي ترافقانها تركتهما خبيرة التجميل منذ قليل"
ارتفع حاجباه ولاحت بباله صورة تلك الفتاة ودون أن يفكر قال "هل يمكن أن تخبريني بمكان غرفتهما؟"
ازداد توتر الفتاة بينما ترد "سيدي لا يسمح بدخول أي أحد إلى غرف التجميل.."
اقترب بدر من الطاولة وقال "ألم تخبريني أنهما أنهيتا استعدادهما إذا لا يوجد أي مانع.."
كانت الفتاة تنظر له وقد شعت أنها مسحورة فلم تعلم متى أو كيف أخبرته بمكان غرفتهما.. فابتسم لها ورد "شكرا حلوتي"
ثم تحرك يوليها ظهره مع صديقه بينما الجملة تتردد ببالها بلا توقف وهي تبتسم ببلاهة وتتنهد بحالمية وتهمس "من المحظوظة التي ستستيقظ كل يوم على تلك العيون الساحرة"
***
سحبه يزيد من ذراعه فتوقف وارتد للخلف بينما يسأله "أين تخال نفسك ذاهبًا يا هذا؟"
رد بدر بلا مبالاة "ألم تستمع لحديثي مع موظفة الاستقبال؟"
وضع يزيد يده بجيب بنطاله وهو يبتسم بسخرية ويقول "أجل وفهمت أنك تريد الوصول لمكان أختك الجديدة لكن لم أفهم السبب للآن ولن أتحرك من مكاني دون أن أعرفه.."
-:"أختك.."
ترددت الكلمة بباله ولا يعلم لم.. لكنه شعر بالغضب من وقعها واستنكرها.. فلم يحاول إخفاء حنقه وقال بعصبية "من أخبرك أنها ستكون أختي يا هذا؟"
ارتفع حاجبا يزيد بينما لم يمهله بدر وأكمل "ولكن حتى إن كان ما تقوله صحيحًا.. فعلي الاطمئنان أن أختي الجديدة ترتدي ثيابًا مناسبة ومحتشمة.."
ثم تحرك دون أن ينتظر ردًا.. والذي لم يكن يملكه يزيد في الأصل.. هو فقط وقف يراقب ظهره المنصرف لثوانٍ بتعجب.. ثم ابتسم وتحك يتبعه وهو يتذكر ما قالته تلك الفتاة.. فقد قالت فتاتان.. إذًا فذات العينان الملتهبتان بالتأكيد ترافقها..
********
-:"لا أصدق ما تفعلينه لولا.."
لم تكترث لصراخها ولا لجملتها التي لم تتوقف عن ترديدها منذ رأت الفستان وردت ببرود "ماذا فعلت ليان؟"
نظرت ليان للفستان القصير الذي بالكاد يغطي أعلى ساقيها بينما أكمامه من القماش الشفاف فتظهر ذراعيها وكتفيها وجزءًا من صدرها.. لكن لم تكن الكارثة بأي من هذا.. بل كانت بلونه.. فقد كان لونه أسود قاتم.. لم تتحمل أكثر وتحركت نحوها وما أن وقفت بجوارها قالت بحدة "لقد تحملتك طيلة اليوم وحاولت التفاهم معك وإقناعك بالتعقل واحترام والدك على الأقل.. لكن دون فائدة.."
تركت لولا فرشاة الزينة من يدها عندها والتفتت لها بكامل جسدها وهي تعقد ذراعيها وسألتها "ماذا تريدين مني؟"
تنفست ليان بحدة وردت "أريدك أن تخلعي هذا الشيء في الحال"
ابتسمت لولا ابتسامة جانبية ورفعت ذقنها وهي تقول "ومن سيجبرني على فعلها؟"
ضحكت ضحكة قصيرة ثم التفتت تنظر للمرآة وهي تلهي نفسها بتعديل تبرجها وتكمل "أنت تعرفين لا أحد بإمكانه إجباري على أي شيء"
أغمضت ليان عيناها وهي تهمس "من كنت أخدع.. يستحيل أن تتغيري.. كنت أعلم أنك لن تتركي هذا اليوم يمر هكذا ببساطة.."
التفتت لها لولا وارتفع أحد حاجبيها وردت "إن كنت تخيلت هذا لثانية واحدة فأنت لم تعرفيني بعد ليان.."
التفتت تتأمل نفسها بإعجاب وهي تكمل "لن أكون لولا إن لم أفسد هذه الليلة عليهما.."
***
كان بدر يستمع لكل هذا من الباب النصف مغلق بينما يزيد ينظر له بدهشة.. لكنه لم يكن مهتما بتفسير نظراته.. كان كل ما يشغل باله هو ما استمع له ورغمًا عنه ابتسم وضحك بخفوت ثم تحركت عيناه بالمكان وأول ما سقطت عليه كانت موظفة الاستقبال التي كانت تقترب منهما حاملة صينية بها كأسين من العصير.. عندها عمل عقله سريعًا وتحرك نحوها وما أن وصل إليها قال "هل يمكنني طلب شيء صغير منك؟"
وحدث ما توقعه تمامًا فقد ازداد احمرار وجنتيها واتسعت ابتسامتها وهي ترد "بالطبع أي شيء.."
***
كانت ليان تحاول إقناعها عندما سمعتا صوت طرقات على الباب فالتفتت وقالت "تفضل.."
دخلت فتاة الاستقبال عندها تحمل صينية العصير واتجهت نحوهما وهي ترد "هذه المشروبات هدية من السيد بدر.."
انعقد حاجبي ليان وكادت تسأل من هو لكنها تذكرت أن هذا اسم ذلك الشاب ابن السيدة وفاء.. كانت الفتاة قد وصلت إليهما وقبل أن تتمكن ليان من شكرها تعثرت وسقطت كل محتويات الصينية على لولا..
شهقت بعنف ما أن شعرت بالسائل البارد يغرق ثيابها وساقيها.. لثوانٍ بقيت ثابتة بمكانها بجمود دون أن تأتي بأي ردة فعل.. وأول ما تحك بها كانت رأسها لتلقي نظرة على ثيابها الفاسدة وساقيها الملطختان باللون الأحمر.. ثم نظرت لليان لتتأكد أنها لا تحلم وما أن رأت نظراتها العالقة بساقيها وثيابها بصدمة واضحة.. احتل الغضب كل ذرة من جسدها والتفتت للفتاة الواقفة أمامها وصرخت بها "هل فقدت عقلك وبصرك أيتها الحمقاء الغبية.. ما هذا الذي فعلتيه؟!"
-:"تؤ.. تؤ.. تؤ.."
سمعت هذا الصوت فنظرت لمصدره واتسعت عيناها وتجمدت بمكانها مجددًا وهي تنظر لصاحبه الواقف على الباب متكئًا على إطاره وهو يعقد ساعديه أمامه ويتأملها بنظرات تتنقل من رأسها لأطراف قدميها وكلما تنقلت عيناه لجزء من جسدها شعرت بالحرارة تغزوها به حتى أصبح جسدها يشتعل بطريقة غريبة لم تعهدها قبلًا.. وكل ما كانت تفكر به وللمرة الثانية.. أنها تريد الاختباء.. وهذه المرة لم تسمع ذلك الصوت الذي يدعوها للبقاء بمكانها ورغم هذا لم تقدر على التحرك لخطوة واحدة.. بينما زم هو شفتيه وحرك رأسه وهو يدعي الأسى بينما يقول "يا للخسارة.. لقد كان فستانًا جميلا بالفعل.."
-:"أنا حقًا آسفة آنستي.. لقد فقدت توازني.. لكن بإمكاني إحضار فستان آخر لأجلك"
قالتها الفتاة فأفاقت ليان من صدمتها وفكرت سريعًا أن هذا سيكون أفضل وردت سريعًا "أجل.. أجل.. لنحضر لها فستانًا جديدًا.."
قالت الفتاة بينما تنظر لهما بارتباك "نملك تشكيلة رائعة وحديثة كليًا"
أومأت لها ليان والتفتت للولا وقالت "سأعود في الحال مع فستان جديد بإمكاننا تدارك الأمر قبل وصول والدك.."
ثم تحركت سريعًا برفقة الفتاة للخارج وهي تحمد الله سرًا أن الفستان فسد بهذا الحادث حتى تبدله دون أن تنتبه لعينان صقريتان تراقبانها من بعيد..
كل هذا حدث ولولا تقف كالتمثال بمكانها تتأمل الواقف أمامها وقد تبددت الصدمة وبدأ ذلك الضباب يختفي من عقلها وبدأ بالعمل وبعد فترة قصيرة من التفكير العميق.. اقتربت منه ببطء وهي تدرس تلك الابتسامة الماكرة والنظرة الواثقة حتى تتأكد لما تخاطر ببالها.. وما أن أصبحت على بعد خطوة واحدة منه رفعت رأسها حتى لا تقطع اتصال عيناهما وهي تسأله بخفوت قاتل "لقد خططت لهذا أليس كذلك؟"
اتسعت ابتسامة بدر وانحنى قليلا وهمس لها "وهل تريديني أن أقف متفرجًا بينما أنت تحاولين إفساد ليلة هامة.. إن لم تكن أهم ليلة بحياة والدتي.."
كزت على أسنانها بغضب وهي تنظر للواقف أمامها ثم اقتربت منه أكثر وهمست "ستندم على فعلتك تلك أيها الوغد.. فلا أحد يفسد شيئًا على لولا وينجو بفعلته"
لم يكن بدر يكترث لأي كلمة تتفوه بها.. فقد أسكرته تلك الرائحة التي تفوح منها حتى أثملته تمامًا وقد أصبحت عيناه لا ترى إلا هاتان العينان الأشبه بأقداح القهوة.. وتلك القطعة الماسية المعلقة بمقدمة أنفها.. ثم شفتاها الرائعتان بلونهما الأحمر القاني.. وقبل أن تنحدر نظراته أكثر وجد نفسه يدفع للخلف والباب يغلق بوجهه..
وقف ينظر للباب المغلق لثوانٍ دون أن يأتي بأي حركة وما أن التفت وتقابلت نظراته بنظرات يزيد الشامتة وضحكته المستهزئة والذي توقع أن يغضب ابن عمه على طرده بهذه الطريقة إلا أنه تفاجأ به يبتسم ويتحرك بينما يضحك ثم يجلس بجواره بالصالون المقابل لغرف التجميل وهو يقول "سيكون هذا ممتعًا للغاية.."
******
نظرت لولا بحسرة لم تستطع كتمانها لوالدها الذي خرج من الغرفة القريبة والمخصصة لتجميل العروس التي خرجت برفقته وذراعها معلقة بمرفقه.. أخذت تتأمل ثوبها الفضفاض بلونه السكري.. لم يكن بالطبع ثوب زفاف.. لكنه كان جميلا للغاية بقماشه الناعم الذي يلتف حول قدها النحيل وغطائه الشفاف من نفس اللون الذي يحيط به من كل مكان وحجابها البسيط المشابه لتبرجها..
قبضت يدها بشدة بينما تنظر لتلك الابتسامة اللطيفة التي تشيعها بها بينما تقترب منها هي ووالدها وما أن وصلا إليها اقتربت تحتضنها دون أي مقدمات.. فشعرت بنفس الثقل الذي أثقل أنفاسها يعاود مجددًا وأغمضت عيناها محاولة فرض كل السيطرة التي تملكها على جسدها حتى لا تدفعها بعيدًا.. وما أن ابتعدت أخيرًا فتحت عيناها ونظرت لها بينما تتأملها وتقول بسعادة "أنتِ جميلة دون أي شيء حبيبتي"
حمدت الله أنها التفتت لليان فهي بالكاد كانت تسيطر على جسدها والابتسام أو النطق بأي كلمة مجاملة مهما كانت بسيطة شيئا يفوق كل تحملها..
ربتت وفاء على وجنة ليان وقالت "أنت أيضًا جميلة للغاية حبيبتي.."
ابتسمت ليان بتوتر وهي تحاول كتم توترها وتدعو الله سرًا أن يخرس لسان تلك القابعة بجوارها حتى لا تفسد فرحة تلك السيدة اللطيفة..
-:"هذا هو الفستان الذي أخبرتني عنه لولا؟"
صدر هذا السؤال من صالح الذي اقترب من ابنته يتأمل الفستان الزهري الفضفاض بقماشه الناعم وتنورته الواسعة.. لكنه نظر باستنكار لذراعيها العاريان فهو لم يكن له أي أكمام فقط حمالتين عريضتين متهدلتين على كتفيها.. وقد لاحظت ليان كل هذا وهمست لنفسها "لو كان رآها بثوب النوم ذاك كان سيصاب بذبحة صدرية.. أشكرك يارب على إسقاط تلك الصينية.. سأطعم خمس مساكين لأن دعائي تحقق بلحظتها.."
نظر صالح لعينا ابنته الكحيلتين والتي ملئهما الألم فجأة وهي تنظر له بحسرة وخيبة أمل وقد فهم هو المغزى من تلك النظرة فاقترب وطبع قبلة عميقة على وجنتها ثم نظر لها بحب وقال "ستبقين دائمًا مدللتي لا تقلقي.."
-:"ومدللتي أنا أيضًا.."
التفتا ينظرا لوفاء بنظراتها الدافئة والحنونة التي وزعتها بينها وبين ليان ثم أكملت "أصبحتما الآن بمنزلة بدر ويزيد وجناد عندي.."
استطاعت أخيرًا أن تبتسم.. ولو كانت ابتسامة صغيرة مهتزة بينما تستمع لحديثها.. لكنها كانت كل ما تقدر على فعله وهي تحاول إدعاء التركيز على حديثها الذي لم تنتبه لأي كلمة منه والذي أنهته بطباعة قبلة على وجنتها ثم عادت تتعلق بذراع والدها والتفتا ليتحركا ناحية الشابان الواقفان على الجانب الآخر.. عندها اختفت الابتسامة كليًا وأغمضت عيناها محاولة تهدئة غضبها حتى لا ينفجر رأسها.. كانت قبضتاها تزدادان عنفًا حتى شعرت بأظافرها تخدش راحتا يديها لكنها لم تهتم.. تنفست بعمق ثم فتحت عيناها لتراهما وهما يبتعدان ناحية الباب الخارجي ومنه للمصعد وكل ما تفكر به أن كل هذا كان سيفسد.. تلك الليلة برمتها كانت ستفسد بكل ما بها.. وكانت تلك الابتسامة السخيفة اللطيفة التي تملأ وجهها الجميل ستختفي.. وتلك السعادة التي تحتل قلبيهما وتصل لأي أحد يراهما كانت ستتحول لغضب وحزن مقيت لولا ذاك ال..
-:"أتعلم يزيد؟.."
أفاقت من حنقها وغضبها على صوته فالتفتت بحدة ناحيته تنظر له بينما هو يجلس بعنجهية على المقعد المقابل وينظر لها بابتسامة يملؤها الغرور والمكر.. بقيت عيناه معلقتان بعينيها ثم تنهد مكملا "أخبرت والدتي أن الأمر سيكون مسليا للغاية لكنها لم تصدقني"
فهمت المغزى من جملته فورًا ولم تدخر جهدا بإخفاء نواياها وقالت بنفس الطريقة "أتعلمين ليان؟.."
لم تحاول الالتفات أو الرمش بعيناها حتى فقط ابتسمت بخبث وأكملت "أيًا كان مقدار جموح خيالك.. لن تصلي أبدًا لمقدار التسلية التي تنتظرك على يداي!.."
ابتسم كلاهما للآخر وبينما هي تردد ببالها "ستندم على فعلتك.." وكان بدر يردد "سيكون تهذيبك ساحًرا ولذيذًا يا مشاغبتي.."
وبجوارها كانت ليان توزع نظراتها بينهما بعدم فهم لكنها توقفت عن التحديق بهما ما أن وقعت على نظرات ذلك الشاب المتفحصة لها وكما حدث بالسابق تراجعت خطوة وهي تضم يديها إليها وتتهرب بنظراتها منه وهي تتسائل "لم ينظر لي بهذا الشكل.. هل هناك مشكلة بثيابي أو وجهي.."
وعلى الجانب الآخر كان يزيد يشعر بقلبه سينخلع من صدره وكأنه كان يركض لساعات طويلة بلا توقف بينما ينظر لتلك الفتاة وكل ما يتردد بباله "أيعقل أني أحلم.."
وبين كل هذا وقف جناد يتكئ على منضدة قريبة بينما يضع يداه بجيبا سرواله ويبتسم بظفر وسعادة وهو يراقب ما يحدث ويهمس لنفسه "يبدو أن والدي كان محقًا.. أنا وغد يبتسم له الحظ باستمرار.."
*************

رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - ريم الحسينيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن