رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - الفصل العشرون

232 11 0
                                    

يا أمنيتي الغالية..
سامحني علي الرحيل..
لست المُلام ولا أنا..
ولا تسئ الظن بالمصير..
كان البشر هم السبب..
كان الناس من اعترضوا الطريق..
من عاشوا بخيري استكثروا علي الفرحة ومنعوا عني ما أريد..
لكن اعلم أني أحبك وأنك كنت خلاصي الوحيد..
***
بعد مرور أسبوعين..
كانت تجلس بضجر تقلب بين قنوات التلفاز تبحث عما تشاهده.. فمنذ أن عادا من ذلك المنزل الذي لم تتجول به أو تتفقده حتى.. بقيت جالسة على الأريكة نظرت للمنزل من حولها كان بنفس الشارع الذي يوجد به منزل والدته.. والتصاميم وتقسيم المنزل مشابه تمامًا له لكنها لم تكترث.. تنهدت بينما تنظر لغرفة المكتب التي يجلس بها وتستمع لحديثه مع تلك المدعوة سالي التي ظهرت لها من العدم.. لتزيد توترها وارتباكها خلال الأيام الماضية.. فمع استيقاظها باليوم التالي لزواجها وجدت السيد زوجها لديه مهمة أخرى عدا عن تأديبها كما يحب وصف ما يفعله بكل وقت شاغر لديه.. وعندما لا يكون شاغرًا يتفرغ لإغاظتها بقصد أو دون قصد.. لا يمكنها التوقف عن الاشتعال من فرط الغضب بينما تسمعه يحادث تلك الفتاة.. لا تدري ما الذي جعله يغير رأيه بالتخلي عن العمل معها.. تنهدت بضيق وقررت النهوض والبحث عن غرفة نومها على الأقل بدلاً من الجلوس بسخط.. لكنها لم تستطع تجاهل غضبها بل أنه تزايد وهي تتذكر أنه لم يكلف نفسه عناء إخبارها بمكان غرفتها حتى.. صعدت للطابق الثاني وبدأت بالبحث بنفسها إلى أن وجدتها وقررت أخذ حمام دافئ والنوم.. على الأقل يمكنها النوم بسلام بينما هو مشغول بفتاته..
وقفت أسفل المياه لفترة لم تحسبها فقد كان المكان الوحيد الذي يهدئ توترها على الأقل بغيابه.. ولكن في النهاية تعبت من الوقوف وقررت الخروج.. كان كل شيء حولها مبهر تمامًا كما حدث منذ دخول بدر حياتها.. كل شيء أنيق وقيم.. لكنها لم تعد ذات الفتاة التي تنبهر بكل هذا.. نظرت لنفسها بالمرآة وهي تشعر أن حتى شكلها تغير.. لكنها لم تطل الوقوف ورتدت مأزرها وتحركت لتخرج بينما تجفف شعرها.. لكنها وجدته يستلقي بينما ظهره يستند على ظهر السرير وهو يمسك بالحاسوب ويعمل عليه.. لم تتفاجأ من هذا ولا من كونه نصف عارٍ.. لم تتفاجأ من أي شيء فقد كان هذا ما يحدث كل يوم مر عليها منذ زواجها به.. لذا قررت تجاهله كما كانت تفعل طيلة الفترة الماضية.. فرغم كل ما أصبح بينهما إلا أن علاقتهما تنتهي مع انتهاء حدود الفراش.. بعدها هو يجلس متباعدًا منشغلاً بالعمل أو الحديث على الهاتف.. وهي تجلس بأي مكان تحاول شغل نفسها عن التفكير به لكنها تفشل فشلاً ذريعًا وتعود بدلاً من هذا تعدد خيباتها وتضيف عدم قدرتها على تجاهله لقائمتها الطويلة.. تمنت أن يمنحها الهاتف حتى لتتحدث مع أي أحد لكنها لم تتجرأ على طلب أي شيء.. فقد كان واضحًا.. هي معه لتعطي فقط ولن تأخذ إلا ما يمنحه وهو لا ينوي منح أي شيء.. كانت قد تحركت ناحية الخزانة تبحث عما ترتديه بينما تتذكر كيف يعاملها منذ ذلك اليوم.. فما أن يقبلها أو يلمسها لا تشعر بنفسها ولا تعلم أي جنون يصيبها.. ليس فقط تركه يفعل ما يريده.. بل إنها تتجاوب معه وتحاول التقرب منه بشتى الوسائل التي تعرفها.. لكن ما أن ينتهي كل شيء يتركها وحيدة بالغرفة.. وحتى إن عاد ينام بالجانب البعيد من الفراش.. لمرات عدة بكت وارتجفت ليس من البرد القارس الذي يحتل جسدها وروحها ما أن يتركها.. بل ندمًا على ما أضاعته بيديها.. وافتقادًا لوالدها وليان وحتى الخالة وفاء.. على الأقل عندما كانت تبكي أو تغضب أو تحزن بالماضي كانت تجد من يربت عليها ويمنحها دعمًا أو حتى يوبخها على أخطائها.. لكن بدر لم يعد يهتم لها.. لا لغضبها ولا لحزنها..
توقفت عن الحركة وأغمضت عينيها وهي تقبض بشدة على الثياب بيدها.. لقد أصبحت لا تتوقف عن لوم نفسها.. لا تتوقف عن الندم على ما أضاعته.. ورغم أن كل هذا صحيح إلا أنها تعبت.. فلا اللوم يتوقف ولا التفكير يتوقف.. وذلك القابع بالخارج يمنحها بكل ثانية إحساسًا بالحقارة والدونية.. صحيح أنه تزوجها لكنه لا يشعرها أنها زوجته بل جاريته يأمرها لتطيع.. وهي ليست كذلك..
بكت لفترة قصيرة ولم تحاول كتم شهقاتها فهي تعلم أنه لن يهتم فكم من مرة بكت بجواره ولم يحاول حتى الالتفات لها ولم تشعر أن جسده تأثر بأي شكل.. كل يوم يمر عليها بقربه لا تتوقف عن السؤال من هذا الذي تزوجته؟!.. لم يكن ذات الرجل الذي عرفته منذ أشهر فعدا صفعها مرة إلا أنه أبدًا لم يكن بهذا البرود المؤلم.. وكان الرعب الحقيقي مع السؤال التالي إلى متى سيستمر كل هذا؟..
بعدها بفترة طويلة خرجت ترتدي منامة طويلة ومغلقة فهي لا تريده أن يقترب منها وتمنت أن تصله هذه الرسالة رغم علمها أنه لن يهتم لم تريده.. لم يلتفت لها حتى وبعد أن استقرت بالفراش على جانبها توليه ظهرها لم تشعر بأي حركة منه.. حاولت النوم لكنها لم تقدر ورغمًا عنها سألته: "ألم يتصل بك والدي أو يسأل عني؟"
لم يرد بالبداية لكنها سمعت تنهيدته قبل أن يرد: "إن كان اتصل فهو اتصل بي أنا.. ولا حق لك بسؤالي عما قاله.."
انتفضت عندها والتفتت له بحدة بينما تصرخ: "إنه والدي أنا.. ومن حقي السؤال عنه!!.."
التفت لها رافعًا أحد حاجبيه بينما يقول بتحذير: "لا ترفعي صوتك فريال!.."
كانت الشياطين تتلاعب برأسها عندها لكنها كانت تعرف ما ستتلقاه إن أغضبته.. فخلال الأيام السابقة تعلمت أن الصفعتين التي تلقتهما منه هما أقل ما قد يمنحه لها.. وعليها حمدالله أنه للآن لم يفعل الأسوأ ومحاولة تجنب هذا.. لذا تنفست بعمق قبل أن تقول: "أنا أريد هاتفي.."
عاد للنظر لحاسبه وهو يرد ببساطة: "لا.."
تناست رعبها وهي تصرخ: "لا يمكنك فعل هذا بي!.."
لم يمنحها أي ردة فعل فعادت تصرخ بعنف أكبر: "أنت حصلت على ما تريد.. لم لا تطلقني وتتركني!!.."
فجأة وجدت ذراعه تقربها منه بسرعة.. قبل أن يلتفت لها لتقابل ذات النظرة التي ألجمتها طيلة الأسبوعين السابقين بينما هو يقول بخفوت: "لا تخبريني ما علي فعله.. أنا فقط أفعل هذا وأنا قلت لك.."
ثم صرخ بوجهها بعنف أوقف قلبها: "لا ترفعي صوتك أسمعت؟!!.."
انهمرت دموعها على وجنتيها بينما عاد هو يكمل بخفوت: "فأنت لا تريدين إغضابي فريال!.."
حاولت التراجع والابتعاد عنه لكنها لم تقدر على الحركة.. لم تقدر على منع دموعها فقط ازدادت مع تعالي شهقاتها وهي تقول: "أنا أريد أبي.. أريد ليان وخالتي وفاء وسميرة.. أريد العودة لبيتي!.."
سمعت ضحكته الهازئة قبل أن يرد: "كان عليك التفكير بهذا باكرًا فريال.. أنت فقدت حقك بالبيت كما فقدت حقك بهم!.."
أغمضت عيناها محاولة أن تصمت وتتراجع لتنام وحسب علها لا تستيقظ.. لكنها لم تقدر فألقت رأسها على صدره ورغمًا عنها همست: "لا أصدق كم أنت قاسٍ.. لا أصدق أنك ذات الشخص!.."
شعرت بصدره يتوقف عن الحركة أسفل رأسها لثانية قبل أن يعاود الحركة وهو يحيطها بذراعه ويرفع ذقنها لتنظر له وعندها توقفت عن البكاء ما أن رأت عيناه تلتمعان بزرقتهما مع ابتسامة هادئة لا تشوبها أي سخرية بينما يهمس: "لقد حذرتك فريال!"
لم تعلم كيف لكن عقلها ترجم كل هذا لمواساة صامتة منه.. انعقد حاجباها بينما تنظر له قبل أن يقطع تفكيره بقبلاته التي وزعها على وجهها ببطء ورقة قبل أن يصل لشفتيها ليأخذهما بقبلة طويلة جامحة وقبل أن يحررهما كانت تستلقي أسفله ويده كالعادة تمارس سحره الخاص على جسدها قبل أن يبتعد ويبتسم بسخرية قائلا: "هل تخالين أن ذلك الشيء الذي ترتديه سيمنعني عنك فعلاً؟!.."
كانت تغمض عينيها بينما ترد: "لا داعي لتذكرني بفشلي الذريع بكل لحظة بدر.."
فتحت عيناها ما أن سمعت ضحكته العالية وابتسمت رغمًا عنها وهي تشعر أن الجليد المحيط بقلبه تحطم القليل منه فلأول مرة يضحك معها بهذه الطريقة المرحة منذ تزوجا.. ما أن توقف نظر لها وهدأت ملامحه بالتدريج لتعود لما كانت عليه لكنه بقي ينظر لها لمدة طويلة وهي تشعر أنه يقرأ ما جال ببالها وقبل أن يعود لبروده سألته: "كيف تعرف ما يجول ببالي؟.."
ابتسم بسخرية قبل أن ينحني ويهمس قرب شفتيها: "ربما سأخبرك يومًا ما فريال.."
ثم عاد لتقبيلها بينما ينزع عنها منامتها دون عناء.. كانت تحب تلك الساعات القليلة التي يلمسها بها.. تحبها ولا تريدها أن ترحل فرغم قسوته وبروده معها إلا أنه بتلك الساعات لا يشعرها سوى بالكمال.. ومع كل لمسة وكلمة ناعمة يسمعها إياها كانت لا تشعر بالدناوة بل أنها مميزة بالبداية استغربت قدرته على إثارة الأمرين بداخلها.. أنه يحتقرها وأنها مميزة لديه بنفس الوقت لكنها تعبت من محاولة فهمه وارتضت بما يفعله وحسب.. لكن لكل شيء نهاية ومع انتهاء تلك العاصفة المليئة بالعاطفة.. نهض عنها وتركها منقطعة الأنفاس لكنها لم تبكي كعادتها بل ابتسمت فقبل أن يبتعد طبع قبلة عميقة على جبهتها وهمس: "أنت رائعة.."
لم تصدق لثوانٍ لكن بداخلها رددت حتى إن كان حلمًا هي راضية به بل إنها ابتسمت بسعادة وصوت ضحكته مع تلك الجملة يترددان بعقلها دون سبب فأيًا منهما لا يدل على أن شيئًا تغير لكنها نامت دون أن تبكي لأول مرة منذ أسبوعين..
***
كانت تجلس بالغرفة الخاصة بها بمنزلهم الشاطئي أو محبسها الانفرادي.. فمنذ استيقظت في اليوم التالي لشجارها مع عزام وجدت نفسها هنا محاطة بالحرس من خارج البيت الموجودين بكل جهة.. والخدم من الداخل الموجودين بكل ركن.. ولا تكاد تنهض من فراشها وتتحرك نحو الممر حتى تجد ثلاثة على الأقل يسألونها أين هي ذاهبة.. فقررت أن تتوقف عن الخروج تمامًا ويبدو أن هذا أراحهم.. فلا أحد سألها أن تخرج فقط يضعون لها الطعام ويخرجون ليعودوا بعدها بساعة لحمل الطعام الذي بالكاد تتناول منه شيئًا.. فكرت أن تسألهم أين سالي لكن لم تتعب نفسها.. فقد توقعت أنها باعتها ببساطة واختارت صف والدها.. فكل ما أخبرتها به بتلك الليلة أن تستمع لأيًا كان ما ستطلبه منها وألا تحاول العناد.
لكن السؤال الذي كانت تحاول إبعاده عن بالها دون جدوى أين مازن؟.. هل يا ترى يبحث عنها؟.. بالتأكيد يفعل.. حتى لو أخبره عزام بكل ما أخبرها بها عنها وعن والدتها لن يتوقف عن البحث عنها لكن ما الفائدة؟.. فهي لن ترضى أن تسيء له ولسمعته.. هي لم تعد تريد أي شيء عدا الابتعاد عن كل هذا.. تريد أن ترحل عن كل شيء.. لكن كلما اقترب عقلها من فكرة الانتحار تتخيل والدتها أمامها.. وتتذكر كم المرات التي جلستا معًا بها تتابعان الأخبار ويتصادف وجود خبر انتحار.. وعلى الرغم من أنها تكون متعاطفة مع الموقف بأسره.. إلا أنها كانت تؤكد لها أن النفس لا يجب أن تكون رخيصة على صاحبها بهذا الشكل بمجرد تفكيره كم هي غالية عند الله وكم حرم قتلها دون حق.. أغمضت عينيها ودفنت رأسها بذراعها الموضوع على ركبتيها.. صحيح أنها لم تتمكن من قتل نفسها.. لكنها لم تتمكن أيضًا من ألا تتمني الموت بكل لحظة.. لم تتمكن من منع نفسها من اليأس والإحباط.. فإن خرجت من هنا ما الذي ستفعله؟.. أمنيتها الوحيدة لن تتحقق.. ذلك الخاتم سيبقى بيدها ذكرى لما فقدته.. لا شيء خارج هذا المنزل لتخرج لأجله.. لذا الأفضل أن تبقى بداخله آملة ألا يقترب منها ذلك الرجل أو ابنته أو أي أحد.
***
أخذ بالطرق على الباب لفترة طويلة دون أن يتلقى أي رد.. وعندما كاد أن يحطمه وجده يفتح ليظهر أمامه يزيد بشعر مشعث وعيون حمراء دالة على عدم نومه.. وما أن رآه ترك الباب مفتوحًا وتحرك للداخل فتبعه قائلًا: "إقامتك في المدينة أنستك أنك لابد أن تقول تفضل.. ولا أعلم كيف أنستك أني كبيرك وبإمكاني قتلك بسبب تجاهلك اتصالاتي.."
ألقى جسده على الأريكة ونظر أمامه يرد: "لا رغبة لي في الحديث.."
جلس أمامه واضعًا ساقًا فوق الأخرى ليجبره على النظر له وقال: "لقد كنت مسافرًا وكذلك كان بدر وكلانا كنا قلقين عليك.. واضطررنا للاتصال برجالك لنعرف أنك بخير وأنك فقط لا ترغب بالحديث.. هل أنت بكامل قواك العقلية لتبرر فعلتك بتلك الطريقة؟.."
صمت تمامًا فعلم أنه بالفعل غير قادر على الحديث وفكر قليلاً قبل أن يسأل: "ألم تجدها؟.."
هز رأسه بنفي فأكمل: "ألم تراقب عائلتها؟.. فربما كانوا يخفونها بمكان ما.."
رد: "راقبتهم وتأكدت أنهم لا يعرفون مكانها.."
صمت جناد قليلا قبل أن يسأله بحذر: "ما الذي حدث يزيد؟.."
نظر له فأكمل: "لقد كنتما بخير بينما نجلس هناك بذلك الزفاف.. ماذا حدث بعدها؟"
أغمض عينيه ورد: "حدث ما حذرتني منه.."
أومأ بتفهم وقال: "علمت بأنك كنت متزوج؟.."
ابتلع لعابه ورد: "بل عرفت كل شيء.."
ضاقت عينا جناد بينما ينظر له بعد أن رفع عينيه وفهم ما كان يعنيه فتنهد وسأله: "أخبرني ماذا حدث بالتفصيل.."
***
في اليوم التالي..
كانت قد استيقظت ولم تجده لأول مرة منذ تزوجا فقد كانت دائمًا تستيقظ لتجده في المنزل.. لكن يبدو أنه بدأ بمزاولة عمله وعاد لمكتبه.. ومع تذكرها لما حدث البارحة علمت أنه بالتأكيد هي ممنوعة من الخروج.. لذا الأفضل أن تنهض وتستكشف المنزل علها تجد شيئًا ينسيها وحدتها وكآبتها.. ما أن انتهت من ارتداء ثيابها تحركت للطابق السفلي تتفقده.. لكنه كما الحال بمنزل خالتها وفاء مقسم لعدة غرف للاستقبال والطعام.. الفارق الوحيد وجود مكتب ضخم بالتأكيد أضافه بدر لأجل عمله.. قررت الاتجاه للمطبخ لتتفقده.. لكنها توقفت ما أن سمعت صوت جرس الباب.. استغربت الأمر بالبداية لكن تخيلت أن بدر نسي المفتاح فاتجهت للباب لتفتحه.. لكنها تجمدت ما أن رأت وفاء تقف على الباب وتبتسم لها بود.. شعرت بالخجل والخوف ولم تعلم ما عليها فعله إلى أن قالت وفاء: "ألن تدعيني للدخول يا فتاة؟.."
تراجعت تسحب الباب معها وهي ترد: "تفضلي إنه بيتك.."
دخلت بالفعل ونظرت لها قليلا قبل أن تقول: "لقد ظننتك أذكى بأن تفهمي رسالتي لك لولا.."
شعرت بالأسى لمجرد سماع اسمها بتلك النبرة الحانية لكن انعقد حاجباها بعدم فهم فاقتربت وفاء منها وأكملت: "تذكرين عندما أخبرتك تلك قصتي مع والد بدر.. وأكدت لك أن ما فعله بي ينظرون له بشكل وطريقة أخرى بالقبيلة وأن بدر يبقى ابن القبيلة؟"
عندها عادت بذاكرتها تلك الجمل التي قالها بالليلة التي سبقت زواجهما وتذكرت ما قاله البارحة بينما وفاء تردف: "وابن القبيلة مهما تمدن وتحضر تبقى قواعدها محفورة بباله.. يبقى كبريائه الذي لايقبل إهانة حاضرًا معه.. وتبقى نفسه التي لا ترضى بالتلاعب به موجودة وأنت فعلت الاثنين"
لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء تمامًا كما فعلت بالليلة السابقة وهي تقول: "لقد كنت مخطئة لكني لم أعلم أنه..."
لم تستطع إكمال جملتها فأحاطتها وفاء بذراعيها وهي تحتضنها وتربت على رأسها وظهرها لتهدأ ورغم شعورها بكم الخطأ الذي ارتكبته بحق تلك المرأة وعلمها أنها لا تستحقها.. إلا أنها لم تتمكن من مقاومة عطفها وحنانها الذي كانت تحتاجه الآن أكثر من أي وقت لذا دفنت رأسها بصدرها لتبكي بينما وفاء تهدهدها وتربت على رأسها برقة دون أن تشتكي أو تلوم.. فقط تركتها تبكي لتفرغ كل ما بصدرها..
بعدها بفترة قصيرة..
"كان عليك ان تفهمي أن التلاعب مع بدر ثمنه باهظ لولا.."
قالتها وفاء بينما ترفع الينسون عن النار وتصفيه بعدها.. ثم تحمل الكوب وتضعه أمامها حيث تجلس على الطاولة الرخامية مطأطئة الرأس وبالكاد توقفت عن البكاء.. فتحركت هي تجلس بجوارها وما أن فعلت التفتت لها فأكملت: "هو حذرك مرارًا من هذا.. وبعيدًا عنه هو.. ما فعلته وما نويت فعله أمر سيئ للغاية لولا.. الجميع بلا استثناء كان سيتضرر حتى أنتِ.."
التقطت نفسها تحاول تمالك أعصابها بينما ترد: "هو محق.. لقد كنت غبية وأضعت كل ما أملكه"
-:"أنتِ لم تضيعي شيئًا"
التفتت لها وجدتها تحتسي الشاي قبل أن تتكئ برأسها على كفها المرفوعة وهي تكمل: "ربما أضعت بالفعل بعض الأشياء.. لكن لازال أمامك فرصة لتستعيدي كل شيء إن وجدت الطريقة"
ارتجفت شفتيها وردت: "أبي يكرهني وبدر لا يكترث لأمري.. وليان لابد أنها لن تغفر لي ما فعلته.. أنا لا أعرف كيف تطيقين الحديث معي حتى بعد أن عرفت ما كنت أنوي فعله"
ضربتها على رأسها بخفة فالتفتت لها لتجدها تقول: "لأنك حمقاء!"
صمتت قليلا قبل أن تربت على ذراعها وتكمل: "ولأنني أحبك.. وكذلك الجميع قد يغضبون منك بعض الشيء ولفترة.. لكن في النهاية ما أن تثبتي ندمك سيسامحونك"
فكرت قليلا ورغم أن المؤشرات لا تدل على هذا إلا أنها تمنت لو تصل لتلك النقطة مرة أخرى.. فالتفتت لها وابتسمت ترد: "حسنًا قبل أن أسألك كيف.. هل شرح يزيد لليان الحقيقة؟.. على الأقل يمكنني مصالحتها أولاً"
مطت وفاء شفتها قبل أن تعاود احتساء الشاي فاستغربت وسألتها: "ما الأمر؟!"
التفتت لها فأكملت: "يستحيل أن تكون لم تتفهم الأمر"
تنهدت وفاء قبل أن ترد: "لقد أخبرتك أنك فقدت بعض الأشياء لولا.. ومن الواضح أن ليان إحداها"
***
-:"ما رأيك آنسة سالي؟"
سألتها مصممة الأزياء بينما ينظر الجميع من حولها لفستان الزفاف الأسطوري وعيونهم مليئة بالغيظ والحسد ناحيتها.. فابتسمت بسخرية بينما تنظر للفستان الأشبه بفساتين الأميرات.. الذي عملت عليه خمسون عاملة لتنهيه بالوقت المناسب بأوامر صارمة من السيد رمزي.. بعد أن أقنعته أن الزواج منها هو ما سيفيده فقط إن حقق لها بعض الشروط.. أولها زفاف أسطوري يتحاكى به الجميع وها هو الزفاف سيكون بعد يومين.. وقد أنتهت كل الاستعدادات كما اقتربت نهاية خطتها..
-:"آنسة سالي؟"
التفتت تنظر للمصممة وردت: "لا بأس به.."
ألقت نظرة أخيرة عليه قبل أن تتحرك ناحية غرفة تبديل الملابس.. وما أن انتهت تركته بعد أن طلبت منها إرساله للفندق مباشرة.. وما أن خرجت واستقلت سيارتها أرسلت رسالة لهاتف عبدالرحمن
:"المبلغ جاهز وكذلك عقد المصنع.. قابلني في الغد بهذا العنوان"
وبعد أن انتهت أرسلت لوالدها رسالة أخرى
:"أوراق التنازل جاهزة.. سأسبقك لمنزل الشاطئ وأنتظر حضورك"
وبعدها ألقت الهاتف بجوارها وتحركت تسبق الريح نحو المنزل.
***
بعدها بساعات..
طلبت منها الخادمة أن ترتدي ثيابها وتنزل لأن والدها يريدها وهو ما فعلته بآلية فقد قررت ألا تقاتل أو تعاند وانتهى الأمر.. ما أن وصلت لغرفة الاستقبال وجدت عزام يجلس بجوار سالي التي قالت: "تعالي رحمة"
اقتربت منهما دون تفكير وجلست أمامهما بصمت.. ولثانية تخيلت أن سالي تتفحصها بقلق قبل أن تتناسى الأمر ما أن وضع عزام بعض الأوراق قائلا: "وقعي هذا"
نظرت للأوراق لكنها شعرت أن رؤيتها مشوشة فسألت: "ما هذا؟"
-:"عقود تنازل"
أتتها الإجابة ولم تحرك بها أي شيء لكنها سألت مجددًا: "عن ماذا؟"
-:"عن كل شيء"
رفعت عينيها عندها تنظر له ثم لسالي التي قالت بعملية: "اسمعي رحمة أنا أعرف أنك تحبين الحقائق.. والحقيقة الوحيدة الثابتة هنا أن لا حق لك بهذا المال أو المصانع والشركة.. لا حق لك بأي شيء.. لذا لابد أن يعود الحق لأصحابه.."
حاولت ابتلاع لعابها لكن حلقها كان جافًا كالصحراء مع هذا ردت: "الأموال كانت لفريدة وفريدة هي والدتي.."
-:"إذًا خافي على سمعتها.."
التفتت تنظر لعزام وفهمت التهديد قبل أن يفسره.. فهو سيفضح والدتها إن لم تتنازل ولن يتوانى عن فعلها.. لذا ودون أن يكمل حديثه التقطت القلم الموضوع أمامهما وخطت بتوقيعها على كل الأوراق دون تفكير.. وما أن انتهت سحب عزام الورق وابتسم بانتصار بينما ينظر للأوراق قبل أن ينظر لها ويقول: "من الآن لا حق لك بأي شيء.. حتى المجوهرات وثيابك لا يمكنك أخذها"
نهضت بعدها وقد فهمت ما يعنيه وقررت أنها لن تمنحه فرصة طردها وإهانتها أكثر فالتفتت لتغادر.. لكنها توقفت وعادت تنظر له وهي تقول: "قبل أن تموت والدتي.. أخبرتني أنك يومًا ما ستتلقى الضربة القاضية التي ستقسم ظهرك وتحطم غرورك من أشد ما تحبه.. فاحذر لأنها أبدًا لم تقل شيئًا إلا وصدقت به"
التفتت بعدها واتجهت للباب لتغادر تاركة إياه متسع العينين.. بينما نهضت سالي تحمل هاتفها وتتجه للشرفة وهي تقول: "سأخبر رمزي أننا انتهينا"
لكنه لم ينتبه لها ولا لأي كلمة قالتها.. كان ينظر بأثر رحمة ويتخيل فريدة هي من تنصرف.. فقد كانت تسير تمامًا مثلها.. مهما كان حجم الألم كانت دائمًا تسير منتصبة الظهر مرتفعة الرأس.. ولسان حاله يقول أنها محقة.. فريدة أبدًا لم تقل شيئًا إلا وتحقق.
***
عندما خرجت رحمة من المنزل نظرت للمكان حولها بخواء قبل أن تبدأ بالسير دون هدف.. كان المكان مخصصًا لقضاء إجازة الصيف لذا كان فارغًا تقريبًا بهذا الوقت من السنة.. ورغم الهدوء المخيف المحيط بها إلا أنها لم تكن تكترث أو تنتبه.. كان السؤال الذي يتردد بعقلها هو أين ستذهب؟
لم تعتد المبيت عند أحد ولا يمكن أن تطلب من أحدٍ أن يسمح لها بالإقامة بمنزله.. وإن تمكنت من إجبار نفسها على هذا فكيف ستعيش فيما بعد؟
توقفت بمنتصف الطريق ولأول مرة هي رحمة لا تملك خطة.. لا تملك مال.. لا تملك سيارة لتقلها.. لا تملك أي شيء!.. حتى ذاك الاسم الذي يتبع اسمها لم تعد تملكه
وعندها تحركت لتجلس على الرصيف بتعب.. تنظر للأرض تحاول استيعاب الحال الذي وصلت إليه.. تحاول إلقاء اللوم على نفسها لكن ما ذنبها.. هي بالتأكيد لم تختر كل هذا.
إذًا هل تلقي اللوم على والدتها؟.. لا يمكنها إلقاء اللوم على فريدة التي لم تسئ لها يومًا ولم تشعرها أبدًا بأي شيء عدا الاهتمام والحب.. لو كانت فريدة حية الآن ما كان كل هذا أصابها.
وبالتأكيد لن تلقي اللوم على عزام وابنته.. فكلاهما فعل ما يليق به.. عدم استغلال الموقف ليس من ضمن صفات أي منهما.
إذاً هل تلقي اللوم على القدر؟..
لم تعرف ولم تستطع أن تفكر أكثر فقد بدأ المطر بالهطول كأن السماء تبكي لأجلها.. ضمت ساقيها إليها وانحنت برأسها تستند عليهما محاولة إقناع نفسها أنه كابوس مزعج ستخرج منه.. فأغمضت عينيها بشدة تحاول إخراج نفسها من كل هذا.. لكن صوتًا مألوفًا نادى اسمها وتسلل ببطء خلال ذلك الظلام المحيط بها حتى أصبح واضحًا وقويًا.. وعندما أدركت صاحبه كانت قد بدأت الشعور بيده الموضوعة على كتفيها تحاول إيقاظها.. ففتحت عينيها لترى وجه مازن القلق رغم الظلام.. بينما يتنهد براحة ويقول: "حمدًا لله"
ثم عاد ينظر لها وسألها: "هل أنت بخير؟"
لم تستطع الرد.. كانت لا تستوعب وجوده حتى وقد شعر هو بهذا.. لذا سحبها ونهض يحيطها بذراعه وقادها للمقعد المجاور للسائق قبل أن يلتف سريعًا حول السيارة.. وما أن استقل بجوارها التقط معطفًا من المقعد الخلفي ووضعه فوق جسدها وأزاح المقعد للخلف وهو يربت على رأسها قائلاً: "لا تخافي أنتِ بأمان رحمة.. نالي قسطًا من الراحة"
رغم أنها كانت تعلم أنه حلم إلا أنها امتثلت لكلماته.. وعادت تغلق عينيها وتغط بالنوم.
***
ما أن عاد للمنزل وجدها تجلس بغرفة المعيشة ويبدو عليها التوتر.. لم يلقي التحية عليها حتى وتحرك ناحية غرفة النوم بالطابق الثاني.. لكن لم يكد ينتهي من خلع ثيابه وجدها تدخل الغرفة خلفه لكنه لم يكترث أيضًا.. حل الصمت لفترة قبل أن تسأله: "هل وجدتم ليان؟"
لم يرد فتحركت تقف بجواره وقالت: "بدر تحدث معي!"
التفت لها ورد: "لا أعلم كم مرة علي إخبارك أن هذه الأسئلة لم تعد متاحة لك"
التفت بعدها ليتجه للحمام لكنها تعلقت بذراعه ووقفت أمامه وعيونها مليئة بالدموع بينما تقول بصوت مهزوز: "بدر رجاءًا.. سأفعل أي شيء فقط أخبرني هل وجدها يزيد.. هل عرف مكانها؟!"
نظر لها قليلاً قبل أن يتنهد ويرد: "إنه يبحث عنها لكنه لم يجدها للآن"
ثم تركها واتجه إلى الحمام تاركًا إياها تحدق بالفراغ أمامها..
خرج بدر بعدها بفترة قصيرة ليجدها تجلس على الفراش بوجه باكي وما أن رأته نهضت تتجه له وهي تقول: "أعد لي هاتفي رجاءًا.."
تنهد بنفاذ صبر وقبل أن يرد أكملت: "ربما ستتصل بي.. بالتأكيد ستفعل.."
ابتسم بسخرية قبل أن يقترب منها ويرد بمنطقية: "هل نسيتِ ما فعلتيه بها؟!.. كيف تتوقعين أن تتصل بك؟!.."
تركها واتجه للخزانة لكنها لم تيأس وتبعته وهي تقول: "ليان طيبة ولا تملك صديقة غيري كما لا أملك غيرها.. بالتأكيد ستغضب مني لكن بالنهاية ستتصل بي.."
لم يلتفت لها بينما يرد ببرود: "ولنفترض أنها فعلت ما الذي يضمن لي أنك لن تستغليها مجددًا أو تفسدي الأمر أكثر.. لا يمكنني الوثوق بك فريال.."
ارتدى السترة القطنية والتفت لها بينما تبكي وما أن تمكنت من الحديث همست: "بدر أنا..."
-:"أنت ارتكبتِ خطئًا جسيمًا.."
قاطعها بقوله قبل أن يقترب منها وينحني قليلاً ليهمس: "ما فعلتيه بي وبوالدك وما كنت تنتوينه لا يوازي عندي ما تسببتِ به ليزيد وتلك الفتاة.. فمن يدري أين ذهبت وما أصابها بسبب غبائك اللعين.."
هتف بالجملة الأخيرة بوجهها جعلها تطرق بخزي بينما تركها وغادر الغرفة بأسرها بعد أن ألقى عليها نظرة ساخطة لم ترها لكنها شعرت بها وما أن أغلق الباب بعنف خلفه انتفضت ونظرت لأثره وهي تهمس ببكاء: "ما الذي فعلته؟!.."
***
تحرك جناد يدخل غرفة جدته التي نهضت واقتربت منه وهي تنظر للباب من خلفه قبل أن تسأله بغيظ: "ألم يحضر معك؟!"
هز رأسه نفيًا فقالت بحدة: "أرأيت أفعال أبناء عمك.. الأول يتزوج دون حضوري.. والثاني يرفض القدوم لمقابلتي ويرفض حتى الرد على مكالماتي!!"
رد بهدوء: "بدر استأذنك من قبل وأخبرك إنه يرغب بالفتاة وأنت وافقت.. وأخبرك أيضًا بظروف عائلة والدتها الذين يحاولون استغلالها وابعادها عنه لذا اضطر للزواج منها.. مع هذا هو استأذنك على الهاتف قبل أن يعقد القران وأخبرك أنه سينتظرك إن أردت لكنك أخبرتيه ألا يعطل الأمر وباركتِ الزواج.. لذا لا داعي لتغضبي منه جدتي.."
نظر لها قليلاً بينما كانت هي لا تزال مغتاظة.. لكن ما أن تفهمت تلك النظرة بعينيه سألته: "هل تظنني السبب وراء اختفاء تلك الوضيعة أنت الآخر؟!.."
زم شفتيه ورد: "أنت صرحت بوضوح أنك لا ترغبين بها.. وأخبرتني أن أحاول تأجيل الأمر متذرعة بكونه قد يعيد التفكير بالأمر رغم أنه يعد أمرًا مستحيلاً.. فأنت تعرفين يزيد وتعرفين كم هو عنيد خصوصًا حيال الأمور التي يريدها"
ضاقت عيناها لثانية قبل أن تقول: "هل تعلم.. أنا سأبحث عن المسئول عن ابتعادها فقط لأشكره على خدمته لي بإقصائها من حياته.. فقد أفقدته عقله من بضعة أسابيع وحمدًا لله أنها لم تبقى أكثر"
تحركت بها تلتفت وتبتعد بينما يرد: "علينا البحث عنها بالفعل لكن لنعيدها"
عادت تنظر له وقبل أن تعارضه أكمل: "تلك الفتاة لا يجب أن تبتعد عن أنظارنا من الآن وصاعدًا"
انعقد حاجبيها بينما تحاول فهم ما يقوله فاقترب منه ليردف: "عدا عن كون حفيدك حرفيًا سيحطم كل شيء ليجدها وقد أوقف حياته وعمله وكرس كل شيء حوله للبحث عنها"
توقف أمامها وأكمل بخفوت حذر: "تلك الفتاة إن فتحت فمها وأطلقت لسانها مع الشخص الغير مناسب ستتسبب لنا بالكثير من المتاعب!"
****
في اليوم التالي..
لم يكن حلمًا!!
كان هذا ما يردده عقلها عليها طيلة الساعات الماضية منذ أن استيقظت لتجد نفسها بجواره في سيارته ليتحركا بها من تلك القرية السياحية البعيدة لأقرب مدينة وقد استغرق الأمر ساعات طويلة قضت معظمها في النوم الغير منتظم.. وما أن تفتح عيناها تسمعه يهمس لها بكلمات مطمئنة لكنها لم تفسرها.. التفتت تنظر للنافذة وتعلقت عيناها بالساحل قبل أن تهمس: "توقف مازن.."
التفت لها وسأل: "هل قلتِ شيئًا؟.."
نظرت له بعيون خاوية وعاد الغضب يحتله وهو يرى تلك الكدمات التي تملأ وجهها بينما تهمس: "أريد الجلوس على الساحل لبعض الوقت.."
كان يريد الذهاب بها للمشفى لكنه لم يستطع رفض أي شيء لها لذا أوقف السيارة بجانب الطريق وهو يفكر أن بضع دقائق لن تضر كما أن الوقت لا يزال باكرًا..
ما أن توقف هبطت من السيارة تتجه لأحد المقاعد الخشبية وجلست عليه وعيونها تنظر للبحر وحسب دون أن تفكر بأي شيء حتى مع شعورها به بجوارها بقيت صامتة لفترة قبل أن تغمض عينيها وتفتحهما لآخر مرة لكن لا شيء تغير وعندها همست: "كل ما حدث لم يكن كابوسًا!.."
لم تكن تنتظر أي رد وبقيت تحدق بالفراغ أمامها قبل أن ترى ظرفًا يمده لها فالتفتت له لتجده يبتسم لها قائلاً: "إنه من والدتك.."
اتسعت عيناها بصدمة قبل أن تعاود النظر له فأكمل: "أخبرتني أن أعطيه لك في الوقت المناسب.."
ارتجفت يديها بينما تمدها لتمسك بالظرف وبعدها نهض هو يقف على مسافة مناسبة منها حتى يمنحها بعض الخصوصية وقد كانت ممتنة لهذا..
ترددت لبرهة لكنها بالنهاية فتحته وأخرجت الورقة بداخله وبدأت بقرائتها ومع أول جملة وقعت عيناها عليها ابتسمت وهطلت دموعها بنفس الوقت..
-:"كيف الحال يا رحمة السماء بفريدة!..."
***
جلست وفاء أمامها في النادي وهي تشعر بالعجز أمام عيناها الذابلتان مطرقتان منذ أن اصطحبتها من المنزل لم تبارحا الأرض.. رغم رفض ابنها المطلق لخروجها لتكراره أنها معاقبة ويجب أن تشعر بمدى خطئها ناحيتهم إلا أنها ما أن رأتها بهذه الحالة علمت أن بقائهم بالمنزل لن يفيد لذا أقسمت بأنها ستغضب عليه إن لم يتركها لتخرج معها مما اضطره للموافقة بامتعاض على ألا تتأخرا.. لكن منذ ساعتين كانتا تجلسان وهي بالكاد ترد أو تتحدث.. مدت يدها لتضعها على كفها وما أن نظرت لها ابتسمت تقول: "لا تخافي ستكون بخير.."
ارتجفت شفتاها وضمتهما معًا بعنف فعلمت أنها تمنع نفسها بصعوبة من البكاء قبل أن ترد بخفوت: "أنا السبب.."
هزت رأسها وهي تغمض عيناها بينما تكمل: "إن أصابها مكروه لن أسامح نفسي.. أنا بالفعل لا أسامح نفسي على تحطيم سعادتها.."
آلمها قلبها على حالتها وحاولت أن تبتسم وهي تقول: "أنت بالتأكيد لست السبب لولا.. لقد حدث سوء فهم و..."
-:"لقد كذبت عليها.."
قاطعتها بقولها قبل أن تنظر لها ودموعها تتساقط وهي تكمل: "أخبرتها أن يزيد كان متزوجًا من امرأة ولديه طفلة ولم أحاول تفسير ما حدث.. لأوصل لها أنه أخفى الأمر عليها ليس خوفًا من ردة فعلها بل لأنه لا يكترث لأمرها.. وبالنسبة لارتباطه بها فهو يتلكأ لأن جدته ترفض وجودها وهو لا يمكنه عصيان أوامرها ولا يعلم كيف من المفترض أن يبعدها عنه.."
وضعت يدها على فمها بينما تنهار باكية وتردف: "لقد صدقتني لأنها تثق بي وتظن أني لن أفعل شيئًا يؤذيها لكني تقصدت إيذائها تمنيت أن تنتهي علاقتها به بسبب كلامي وكذبت على نفسي بأني لا أفعل وأني فقط أحاول إلهائها عني.."
كانت غاضبة منها بالفعل لكن لومها الآن لن يفيد بأي شيء فربتت على يدها وقالت: "توقفي عن البكاء لولا فلا فائدة منه.."
رفعت عيناها لها فأكملت سريعًا: "اسمعي أنتِ صديقة ليان المقربة وبالتأكيد تعرفين عنها أمكثر من أي أحد.. أليس كذلك؟.."
أومأت لها فأردفت: "إذًا انهضي واغسلي وجهك وأنا سأطلب لنا طعام الفطور مع كوبين من القهوة لنفكر بهدوء معًا أين يمكن أن تكون قد ذهبت.."
فكرت لولا قليلا ومسحت وجهها بينما تهمس: "أنت محقة.. لابد أن هناك أحدًا أخبرتني عنه أثناء حديثنا يعرف مكانها على الأقل.. فقد كانت لا تخفي عني أي شيء.."
ابتسمت لها وفاء بتشجيع قبل أن ترد بحماس: "إذًا ماذا تنتظرين يا فتاة؟!.. انهضي لتغتسلي لنبدأ فورًا.."
أومأت لها سريعًا ونهضت تتحرك بينما تعتصر ذاكرتها بالتفكير باسم أي شخص ذكرته ليان أثناء أحاديثهم معًا..
-:"كيف الحال لولا؟!.."
توقفت بمكانها ورفعت عيناها تنظر للواقف أمامها وقد اتسعت عيناها بينما اقترب منها بابتسامة وأكمل: "ألن تردي التحية؟!.."
ابتلعت لعابها وهمست: "عبدالرحمن!.."
***


رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - ريم الحسينيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن