رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - الفصل السابع

145 7 6
                                    

-:"ماذا قلت للتو؟!"
انطلق هذا السؤال من فمه دون التفات لانكماشها وخوفها الواضح بينما يكمل:"هل تسكنين وحدك تماما؟!"
أومأت له بصمت فأكمل "لماذا.. أين عائلتك؟"
ابتلعت ريقها وفكرت أن عليها الآن أن تخبره أن الأمر لا يعنيه ولا يجب أن يسأل عن حياتها الشخصية فهي مجرد موظفة عنده..تنفست بعمق لتلقي تلك الكلمات بوجهه وتهرب من أمامه بعد أن تغلق الباب بعنف بشكل مسرحي فقد تمنت دائمًا فعل هذا تنفست بعمق وفتحت فمها لتتحدث
-:"أنا... أنا لا أتفق مع عائلة والدي وأفضل أن أعيش وحيدة"
اتسعت عيناها وهي تحادث نفسها:"من أين أتت تلك الكلمات..أين ما حضرته برأسي..ما الذي أصابني؟!"
كان لا يزال ينظر لها بانزعاج قبل أن يقول "ماذا عن والدتك وعائلتها؟!"
ابتلعت لعابها وردت بحزن: "والدتي توفت ولم تكن لها أي عائلة"
شعرت أنها ستبكي مع تذكرها لوالدتها.. لذا التفتت وهبطت وهي تقول:"شكرا لإيصالي سيد يزيد أراك بالغد"
تاركة يزيد يجلس محاولا استيعاب ما قالته لكنه لم يقدر وطال وقوفه دون سبب فتحرك بسيارته وهو يؤجل التفكير بالأمر إلى أن يصل للبيت
***********
-:"هل تقولين أن تلك الفتاة سليطة اللسان هي من أحضرت لك تلك القلادة القيمة؟!"
قالتها إكرام مخاطبة ابنتها بينما تحدق بالقلادة بانبهار..اقتربت ابنتها لتجلس على الفراش أمامها وهي تقول بحنق:"دعك من القلادة..ليتك رأيتي ثيابها..ليتك رأيتي حذائها..يا إلهي أمي..أراهنك أنه بآلاف الجنيهات.."
كانت عينا إكرام تتسعان تلقائيًا مع كل كلمة تنطقها ولم تكتفي أميرة بل أردفت:"وكل هذا لا شيء بجوار السيارة التي كان يركبها هذا الشاب الذي رقص معها..أو رفيقه..ياللهول..كانت واحدة ضخمة للغاية لدرجة أني تخيلتها تسع عائلتك وعائلة أبي معًا..بينما الأخرى كانت سيارة رياضية سوداء بمقعدين لم أرى لها مثيلا.."
حاولت إكرام ابتلاع لعابها لكنها لم تقدر وهمست بذهول:"لولا ابنة سوسن وصالح..تلك الفتاة التي كانت والدتها تأخذ ثيابك القديمة لأجلها أو تشتري لها من البالة تمتلك كل هذا الآن!!.."
نهضت أميرة وأخذت تتحرك بعصبية بينما تقول:"تخيلي أنني دعوتها لأريها الفرق بيني وبينها كيف أصبح..وكنت أنوي أيضًا إخبارها أني على وشك التخرج من الجامعة وستصبح معي شهادة عالية على عكسها هي وصديقتها البلهاء.."
أفاقت إكرام من ذهولها وسألتها بحدة:"ولِمَ لَم تخبريها يا غبية؟..على الأقل كنت ستغيظيها بعض الشيء.."
نظرت لها وردت:"هل استمعت إلى أيًا مما قلته للتو أمي؟..هل تتخيلي أن شيئًا كهذا قد يؤثر بها الآن؟.."
فكرت قليلا قبل أن تقول:"معك حق..كما أنها هي من اختارت عدم إكمال الثانوية العامة وفضلت ذلك المعهد حتى تتمكن من العمل.."
انعقد حاجباها بينما تكمل بخفوت:"لكن من أين أحضرت كل هذه الأشياء؟..ومن يكون هذا الشاب الذي أخبرتني عنه؟"
عادت تجلس أمامها وردت:"ما فهمته أنه ابن زوجة والدها الجديدة وأنهم عائلة كبيرة للغاية.."
ارتاحت إكرام بجلستها بينما تنظر لها عاقدة حاجبيها وهي تقول بدهشة:"هل تقولين أن صالح تزوج؟!"
أومأت لها بنعم فهمست:"مستحيل.."
استغربت أميرة طريقة حديثها وقبل أن تسأل وجدت عيناها تتسعان بينما تطرق وهي تهمس:"إلا إن كان.."
نظرت لها بعدها وسألتها:"هل تعرفين اسم هذا الشاب؟"
ردت:"أجل..سمعت سالي تقول إن اسمه بدر القديري.."
ضربت إكرام على ساقيها وهي تقول:"كنت متأكدة..إنه ابن وفاء بالتأكيد.."
كانت أميرة لا تفهم أي شيء فسألتها:"وضحي لي ما تعنيه أمي فعقلي يكاد يخرج من رأسي من فرط التفكير.."
تنفست بعمق وردت:"وفاء كانت خطيبة صالح القديمة وقد كانوا على وشك الزواج قبل أن يكتشف والدها مكانها ويمنع اتمام زواجها منه..بعدها اصطحبها رغمًا عنها إلى قبيلته في الصحراء وبعد أيام قليلة عرفت والدتها أنه زوجها رغمًا عنها لأحد أقاربه الذي كان يكبرها بعشرين عامًا قبل أن تموت من فرط حزنها وحسرتها عليها.."
هزت أميرة رأسها بلامبالاة وهي تقول:"هذا شيء عادي فلابد أنهم عائلة غنية وهو رفض تزويج ابنته من رجل فقير.."
ابتسمت بسخرية وردت:"الغير عادي أن السبب بحدوث كل هذا كانت سوسن والدة لولا.."
اتسعت عينا أميرة قبل أن تعقد ساقيها على الفراش وتقول:"أريد سماع تلك القصة.."
أومأت لها وردت:"حسنًا ..لكن أخبريني كيف عرفت سالي اسم ذلك الشاب واسم عائلته.."
زمت أميرة شفتيها ونظرت للباب قبل أن تقترب من والدتها وتقول بخفوت:"ألم أخبرك أن وراء اختفائها وتهربها من ابنك سرًا..فعلى ما يبدو الآنسة الموقرة معجبة به وتلاحقه..فقد بدت على وشك الانفجار وهي تراه يرقص مع لولا.."
أومأت بتفهم وسألتها:"ماذا عن الأحمق شقيقك الآخر..هل بقي ملتصقًا بتلك الفاجرة التي تسكن بعيدًا عن عائلتها؟"
ضحكت أميرة بشدة قبل أن ترد:"ليتك رأيت وجهه عندما رآها تركب سيارة قريب بدر..فقد دعاها قبلها أن يوصلها لكنها رفضت..أراهنك أنه يحادثها ويعاتبها الآن كالأطفال.."
همست والدتها بسخط:"ساذج وأحمق..تمامًا كوالدك رحمه الله..حمدًا لله أن لا أحد يشبهه غيره وإلا كنت التحقت به من فرط حسرتي.."
نظرت لها أميرة قبل أن تقول:"لا تبدين قلقة أبدًا من ضياع تلك المدللة الثرية من بين يدي ابنك على عكس ما توقعت!.."
ابتسمت بخبث وهي ترد:"أنا أثق بابني فهو تربية يداي..ومادام قرر الزواج من تلك الفتاة فلن يردعه أحد.."
هزت رأسها بلا مبالاة وقالت:"كما ترين فالأمر لا يعنيني على أي حال..الآن أخبريني قصة تلك المرأة مع والد لولا.."
تحركت تقترب منها وردت:"سأخبرك..وسأخبرك أيضًا كيف تقومين بإغاظة تلك الفتاة.."
سألتها بلهفة:"كيف؟"
عادت الابتسامة الخبيثة تزين شفتيها وهي تقول:"تتأكدي من إيصال لها ما سأقوله دون أن تنقصي حرفًا واحدًا.."
*********
&&&
كانت تقف في المطبخ وهي تعد الفطور لهم بينما تستمع للحديث الدائر بالخارج بابتسامة واسعة..
-:"اسمع يا ولد يا صالح..صحيح أني وافقت على زواجك من الفتاة لكن إياك والظن بأنكما ستبتعدان عني أبدا"
-:"من قال أننا سنبتعد يا خالة فريال..سنبقى بجوارك فأنتِ تعلمين أني لم يعد بإمكاني الابتعاد عن والداي فلم يعد لهما أي أحد عداي الآن.."
-:"لا هذا لا يكفي يا ولد..عليكما أن تكونا بقربي..لذا فقد قررت أن تقيما معي بشقتي"
-:"وهل هناك فرق بين هناك و هنا..إن الشقة في الدور السفلي"
-: "ها قد قلتها..إذًا لن تبتعد كثيرًا وإن كان بشأن والداك أنا بإمكاني التفاهم معهما"
ابتسمت بينما تضع براد الشاي على الصينية وتلتفت لتخرج من المطبخ متجهة للصالة..وما أن وصلت التفتت لها والدتها وقالت:"اقنعي خطيبك وفاء"
وضعت الصينية على الطاولة الخشبية بينهما وهي ترد:"لن يرفض لك طلبًا أمي..لا تقلقي"
استقامت والتفتت له واتسعت ابتسامتها بينما تكمل:"لقد أخبرني البارحة أنه متأكد أنك ستطلبين بقائنا معك..وهو لن يرفض لك طلبًا"
اتسعت ابتسامة والدتها والتفتت لصالح وردت بينما تمد يدها وتربت على كفه:"وأنا أعدك يا ولد سأجعلك لا تتعرف على الشقة بعد التجديدات التي سأفعلها بها لا تقلق"
كاد يعارضها لكنها أوقفته بقولها:"إياك وأن تعارضني فأنا لن أرضى على أي حال..كما أني لا أفعل هذا لأجلكما..بل أفعله لأجل فريال الصغيرة..ألم تعداني أن تسميا ابنتكما على اسمي؟"
ضحك كلاهما بينما نهض صالح وقبل رأسها ونظر لها قائلا:"ليبارك الله بعمرك خالتي"
استقام واقفًا ثم نظر لكلاهما مكملا:"ما رأيكما أن يكون الزفاف بعد شهر؟"
ابتسمت بينما دقات قلبها تتسارع ثم نظرت لوالدتها التي أشارت برأسها أن القرار لها فعادت تنظر له وكادت ترد لكن طرقًا عنيفًا على الباب أوقفها..فالتفتت هي ووالدتها تنظران للباب بفزع بينما تحرك صالح ناحية الباب..وما أن فتحه اتسعت عيناها بهلع وهي ترى ما كانت تدعوه كابوسها يقف أمامها..لكنها فيما بعد اكتشفت أن ذاك الرجل يعد حلمًا جميلا مقارنة بمن قابلتهم بعدها..
&&&
أغمضت وفاء عينيها محاولة منع الدموع من التسلل بعيدًا عن جفنيها لكنها لم تقدر فكلما تذكرت حياتها البسيطة التي كانت ترتضيها ولا تفكر بتبديلها بأي شيء..كلما تذكرت تلك السعادة التي كانت تسكنها عندها..والأسوأ ابتسامة والدتها..تلك الابتسامة والضحكة المرحة بصوتها الرنان وهي تمازحها أو تعلمها أي شيء..تلك الابتسامة التي لم تعد تذكرها..لا تذكر منها إلا صرختها باسمها عندما لحقت بها إلى القبيلة وتوسلت والدها أن يتركها أو يسمح لها برؤيتها لكنه لم يوافق بجعلها حتى تعبر من البوابة الخارجية وجعل واحدة من الخادمات تدفعها بعيدًا..فما كان من والدتها إلا الصراخ باسمها..سمعت صوت باب غرفتها يفتح فأطرقت غير قادرة على إيقاف بكائها بينما تشعر به يقترب ويجلس بجوارها على الأريكة..لثوان لم يفعل أي شيء إلى أن شعرت بيده تمسح الدموع من على وجنتيها..قبل أن يسحبها ويضع رأسها على صدره وهو يربت على شعرها ليهدئها فتشبثت به محاولة استمداد بعض السكينة والأمان منه..كما كانت تفعل دائمًا..بينما لم يتوقف هو عن التربيت على رأسها والمسح على شعرها إلى أن هدأت قليلا فقال:"سأتحدث مع لولا فعليها أن تعرف كل ما حدث"
-: "لا"
قالتها وهي تبتعد عنه بينما تمسح وجهها ثم نظرت له وأكملت:"لولا صغيرة لن تتحمل معرفة ما حدث خاصة لأنها متعلقة بوالدتها"
ربتت على ساقه وابتسمت باهتزاز وهي تردف:"سأجد طريقة لأتفاهم معها.. أنا متأكدة"
نظر لها صالح مبتسمًا قبل أن يمسك يدها ويرفعها طابعًا قبلة عليها ثم نظر لها بدفء أرغمها على الاحمرار خجلا وتبتسم بهدوء بينما هو يقول بهدوء:"أنا أقدر ما تفعليه وفاء..ولا توجد كلمة يمكن أن تعبر لك عن مدى امتناني لحرصك عليها بهذا الشكل.."
تنهد بتعب بينما يطرق مكملا:"لكنها ابنتي وأنا أعرفها..لن تهدأ إلا عندما تسمع ما حدث..ومن يدري ربما..."
توقف عن الحديث عندما رن هاتفه فأخرجه ونظر له باستغراب وقد لاحظت وفاء هذا فسألته:"من يكلمك بوقتٍ كهذا؟"
كان لا يزال على دهشته وهو يرد:"إنه سميح.."
اتسعت عيناها وهي تهمس:"سميح شقيق سوسن؟!.."
*******
**"صالح كان يحب أمي للغاية وكان يعاملها كأم ثانية له..ما أن تطلب أي شيء منه كان يجعله أمرًا لا رد له..لذا كان دائمًا يخبرني أنه سيسمي أول فتاة ننجبها فريال.."**
كان يتذكر كلمات والدته وهو ينظر لتلك الفتاة المجنونة..هي مجنونة بالفعل..لكنها تتألم لسبب ما..ولسبب ما هو أيضًا يتألم لأجلها..ويشعر بالندم على ما فعله اليوم.. فقد تخيل أنها ستغتاظ وتغضب منه..لكن لم يتوقع أن تحزن بهذا الشكل..كان يراقبها منذ فترة لم يدركها من شرفة طابقه إلى أن شعر أنها تعبت والتفتت تدخل وهي تطرق وتجر ساقيها جرًا للداخل..بقي ينظر بأثرها لثوانٍ قبل أن يسمع رنين هاتفه فأخرجه دون أن يحيد بعينيه عن مكانها بينما يفتح الخط ليأتيه صوت يزيد قائلا:"أين ذهبت يا هذا..حاولت اللحاق بك والاتصال بلا جدوى"
صمت بدر قليلا قبل أن يرد:"يزيد..إن أغضبت فتاة..أمممم...لنقل أنها مراهقة بعض الشيء..كيف من المفترض أن أصالحها دون أن أعتذر؟"
صمت واجهه من الجهة الأخرى فتنهد وقال:"لقد اخترت آخر شخص على وجه الأرض من المفترض أن أسأله سؤالا كهذا.."
-:"بالضبط..لكن تحسبًا إن عرفت أخبرني"
انعقد حاجبيه وسأله:"لماذا؟"
سمع تنهيدة على الجهة الأخرى قبل أن يأتيه الرد:"على ما أظن أنا أيضًا أغضبت فتاة دون قصد.."
*********
-:"كيف تركبين معه بعد أن دعوتك أنا ورفضت ليان؟"
تنهدت ليان بنفاذ صبر بينما تستمع لتأنيب عبدالله لها وهو يكمل:"كيف توافقين أصلا أن يوصلك رجلا غريبًا لم تعرفيه إلا منذ بضعة أيام.."
ردت بهدوء:"إنه مديري عبدالله..وهو أيضًا من عائلة زوجة العم صالح..وهم عائلة محترمة..كما أن يزيد يستحيل أن يؤذيني.."
صمت قليلا قبل أن يقول:"أنت تتحدثين عنه ومعه بأريحية استغربها ليان..من أين تحضرين كل هذه الثقة.."
لم تكن تتحمل المزيد فردت:"عبدالله لدي عمل في الغد وعلي الخلود للنوم..سأحادثك في الغد..تصب على خير.."
قالت كل هذا بسرعة ودون انتظار لرده أغلقت الخط ثم ألقت الهاتف بجوارها واستلقت وهي تشعر بالذنب على إغلاق الخط بهذا الشكل..لكن ماذا يجب أن تقول إن كانت هي نفسها لا تعلم لم لا يمكنها رفض أي شيء يقوله..وكيف قالت أمامه أنها تعيش وحيدة قبل أن يفهم ظروفها..بالتأكيد يظنها الآن فتاة بلا أخلاق..أغمضت عيناها وهزت رأسها بعنف وهي تهمس لنفسها:"لا بالطبع..فهو لا يبدو من هذا النوع وما أن يعرفني سيتفهم أسبابي بالتأكيد ولن يظلمني.."
ارتاحت لهذه الفكرة لكن بقي السؤال يتردد ببالها..لم لا تتوقف عن الاستماع له..لم يرهبها بهذا الشكل..عادت تهز رأسها لكن بهدوء هذه المرة وهي تهمس:"ربما أنا مبهورة فقط به..أو..."
توقفت عن الحديث وفتحت عيناها على اتساعهما ثم استقامت جالسة بحدة وهي تقول:"لا بالطبع مستحيل.."
هزت رأسها بعنف ونهضت تنظر لنفسها بالمرآة بشعرها الملتف حول رأسها كالعادة وبشرتها المشربة بلون أحمر قاني..كانت تحدق بنفسها بذهول قبل أن تبدأ شفتاها بإبراز ابتسامة هادئة وهي تنظر لصورة والدتها:"ولم لا أمي؟!.."
***********
في اليوم التالي..
جلس صالح بتحفز أمام سميح الشقيق الأكبر لزوجته السابقة الذي أصر على المجيء لزيارته لسبب ما رفض إخباره عنه على الهاتف..فاضطر هو للموافقة..ورغم أنه عرض عليه أن يزوره بالورشة أو المخزن..إلا أنه رفض تمامًا وتحجج بكونه سيأتي في وقت باكر..لم يحاول إخفاء حنقه من وجوده الذي يعلم تمامًا أنه ليس لشيء سيحبه..لكنه تنهد وذكر نفسه بأصول الضيافة والأدب كما أن سميح يظل للأسف خال ابنته..لذا عليه تحمله..على الأقل إلى أن يعرف سر قدومه..عاود النظ له وقال: "أنرتنا يا سميح"
كان ينظر لغرفة المعيشة التي يجلس بها بعيون متفحصة وهو يتأمل كل شيء حوله بانبها بينما دخلت سميرة ووضعت صحون الضيافة على الطاولة بينهما ثم التفتت وغادرت فورًا وما أن فعلت نظر له سميح قائلا بسخرية:"يبدو أن الحظ ابتسم لك أخيرا يا زوج أختي.." عاد لتفحص المكان من حوله بينما يكمل:"منزلٌ راقٍ بمنظقة يصعب على أمثالنا الوصول إليها وخدم و..."
-:"أختك رحمها الله" قاطعه صالح عن اتمام كلامه فالتفت له الأخير ليبتسم بهدوء مكملا:"واعتقد أنك لم تقطع كل هذه المسافة لتخبرني بهذه المعلومات..لذا من فضلك ادخل بصلب الموضوع"
ابتسم بسخرية ومظر له بغبطة وحسد قبل أن ترتسم القسوة على ملامحه وهو يقول:"بلغني أن لزوجتك ابن وهو شاب ويقيم معكم بذات المنزل.."
لم يندهش من كلماته فهو يعرف سميح ومسعاه الدائم الذي لم يتوقف عن محاولة الوصول إليه منذ توفت شقيقته..انعقد حاجباه لثانية وهو يفكر بطرده خارج المنزل فهو يعلم السبب وراء حديثه وإلى أين يريد أن يصل..إلا أنه فضل التروي وقال:"لم لا تفسر كلامك سميح..إلام تريد أن تصل؟"
قال بحدة:"ما الذي تريدني أن أفسره بالضبط..الأمر واضح..ألا ترى أن الأمر يمس سمعتها ببقائها بمكان واحد مع رجل غريب؟"
رد بهدوء:"ألا أملؤ عيناك مثلا..ولعلمك هو لا يقيم معنا..فله طابق خاص به بباب خارجي"
كان يعلم أنه يستفزه بهدوئه وهذا ما أراده ليخرج كل ما بجعبته بينما الأخير يقول بحدة:"وإن كان..لا يزال يبقى على مقربة منها..أتذكر أنك رفضت بوضوح بقائها معي بسبب خوفك عليها..والآن لا تخاف عليها من البقاء مع..."
اكتفى بهذا وقاطعه بصرامة قائلا:"كفى سميح.. أخبرني ماذا تريد؟"
ارتاح بمقعده بينما يرد:"أريدك أن تستدعي لولا لنسألها إن كانت مرتاحة بهذا الوضع أو لا؟"
-:"لا داعي لاستدعائي فأنا هنا.."
التفتا ينظرتن للولا التي كانت تقف على الباب بهدوء بينما تنظر لهما بلا تعبير واضح قبل أن تعقد ذراعيها وتتنهد مكملة بهدوء:"وأنا لا أعلم من أوصل لك أني لست مرتاحة ببقائي مع والدي؟"
***********
كانت قد وصلت للمكتب منذ فترة وبدأت بإنجاز مهامها وفي العاشرة تقريبًا وجدته يدخل المكتب..نظر لها قليلا قبل أن يتحرك لمكتبه..فبقيت لثوان لا تعلم ما عليها فعله..عاد هذا الهاجس الذي يطلب منها الهرب بالتردد ببالها دون توقف..لكنها كالعادة تجاهلته وقررت أن تتصرف بطبيعية..نهضت عندها وهي تحمل الأوراق أمامها وتتحرك ببطء ناحية المكتب..وقبل أن تدخل تنفست بعمق ثم قامت بطرق الباب بخفة وما أن سمعت صوته يسمح لها بالدخول فتحت الباب وتحركت ناحية المكتب بينما تقول "صباح الخير سيد يزيد"
كان يجلس بنفس الطريقة التي جعلتها تكتم ضحكتها بينما ينظر لها بعيون ناعسة..ثم للورق قبل أن يتأفف قائلا:"لم أتناول الفطور حتى ليان!"
لم تتمالك نفسها وانفجرت ضاحكة قبل أن تنظر له وترد مدعية الجدية:"هذا واضح!"
وضعت الورق أمامه وأكملت:"سأطلب لك الفطور"
رد:"وقهوة"
ضحكت بخفوت قبل أن تقول:"حاضر.. لكن بعد هذا أنهي تلك الأوراق فعلي تسليمها للمخازن قبل نهاية اليوم"
أومأ لها بعدم تركيز فعلمت أنها سيكون عليها تكرار ما قالته ما أن يتناول فطوره..لكنها التفتت لتخرج
-:"ليان"
توقفت وعاودت النظر له فسألها:"هل تناولت الفطور؟"
ابتلعت ريقها بتوتر لكنها ابتسمت رغمًا عنها وهي ترد:"كنت سأطلب من الساعي شراء فطور لي معك"
أومأ لها ثم أطرق قليلا كأنه يحاول تجميع الكلمات قبل أن يعاود النظر لها مكملا:"أنا لم أقصد أي إهانة البارحة..أنا فقط تفاجأت من كونك تسكنين وحيدة"
هزت رأسها نفيًا وردت:"لا داعي أنا لم أشعر بأي إهانة من حديثك معي"
ثم ابتسمت بهدوء والتفتت لتغادر فبقي هو يحدق بالفراغ..لم يتمكن من النوم طيلة الليل ولم يتوقف عن التفكير بها..والأسئلة لا ترحم عقله الذي لا يجد أي إجابة..بالنهاية تسائل عن سبب اهتمامه الزائد بتلك الفتاة وقرر تجاهل الأمر تمامًا وبعد أن نال حمامًا طويلا جاعلا الماء البارد يصفي ذهنه قرر أنه سيعرف فقط لأنه يريد هذا..ورغم أنه يملك ألف طريقة ليعرف..إلا أنه لم يرد أن يستمع إلا لصوتها العذب بينما الكلمات تتردد من بين شفتيها الكرزية وعيناها المشتعلتان تنظران لعينيه بتردد وهي تخبره بنفسها..
**********
وصلت للشركة متأخرًا على غير عادتها واتجهت فورًا إلى مكتب والدها..كان جسدها منهكًا بسبب عدم نيلها قسطٍ كافٍ من النوم..أو بالأحرى لم تكن الساعة الوحيدة التي استطاعت النوم بها كافية لتستيقظ بنشاط كعادتها..إلا أنها لم تحمل نفس الروح الحماسية النشطة كعادة كل صباح..حتى أنها بقيت بالفراش لساعتين دون حركة..هزت رأسها طاردة تلك الأفكار بعيدًا وما أن وصلت لمكتب مدير الشركة وتنفست بعمق قبل وهي تنظر للباب الذي حلمت دائمًا أن تدخله لأن والدها طلبها فقط ليطمئن عليها كما يفعل مع سالي..فدائما ما كانت تدخله لأجل العمل ولا شيء غيره..كانت تشعر بفجوة عميقة بصدرها عندما تدخله وتجدها تجلس معه يضحكان بينما تتدلل عليه كعاتها لتحصل على شيء ما أو تقنعه أن يفعل لها أي شيء..وكالعادة ما أن ينظر لها تختفي الابتسامة ويسألها برسمية إن كانت تريد شيئًا..
-:"آنسة رحمة.."
أفاقت من أفكارها على صوت مساعد والدها الذي أكمل:"السيد عزام وحيد بالداخل إن كنت تريدين الدخول.."
أومأت له بصمت وأطرقت لثوانٍ تستعيد ثباتها وهدوئها ثم تحركت تطرق الباب قبل أن تخطو للداخل وتتجه نحوه..نظرت له قليلا قبل أن يرفع رأسه لها وينظر للساعة قائلا:"هل وصلت لتوك؟"
أومأت له بثبات فأكمل:"ولماذا تأخرت؟"
عقدت ذراعيها وردت:"ولم قد آتي بالأساس وقد منحت وظيفتي لغيري؟"
ارتاح بجلسته وتنهد لكنها لم تنتظر ردًا واقتربت وهي تسأل:"هل لي أن أعلم إن كنت ستمنحها هي مكاني فماذا سأفعل أنا؟"
رد ببرود:"ستسافرين لتترأسي فرع الشركة في إنجلترا"
اتسعت عيناها لثانية قبل أن تبتسم بسخرية وهي تقول:"أجل تعني تلك التي تنوي بيعها"
نهض عندها واقترب منها يقول بصرامة:"بل أنوي دمجها وسيكون لنا نصيب منها..وقد وعدني مازن بأن تكوني أنت نائبته الأولى فقد أعجب بإنجازاتك واجتهادك..لذا إن نظرت لأرض الواقع ستجدين أني خدمتك بما فعلته فقد منحتك ترقية!"
ضحكت بخفوت قبل أن يكمل:"هل لديك أي اعتراض أو شيء لتقولينه؟"
شدت قبضتاها على مرفقيها وأطرقت تفكر أن الاعتراض أو الصراخ لن يأتي بفائدة..وسؤاله عن سبب تفرقته بينها وبين سالي في المعاملة سيبقى معلقًا دون أي ردٍ واضح..فإن أشفق عليها سيكتفي بإخبارها أنها الصغيرة وأنها متهورة..وأنها..وأنها..ولأجل كل هذا عليها أن تبقى بجواره دائمًا..ابتلعت ريقها وهي تحاول تمالك أعصابها قبل أن ترفع ناظريها وترد بهدوء:"لا اعتراض سيدي"
أومأ وقال بعملية:"هذا جيد..الآن ابدئي بإعداد الأوراق اللازمة للشراكة وأوراق سفرك..فموعد انطلاق طائرتك أنتِ ومازن الليلة"
أومأت له بتفهم ثم خرجت سريعًا دون كلمة إضافية متجهة إلى مكتبها..لكنها توقفت بقربه وهي ترى سالي تقف مع مساعدتها التي تشرح لها بعض الأمور فنظرت لها قليلا قبل أن تهمس:"لم يعد مكتبي"
ثم التفتت وتحركت برأس مطرق ناحية غرفة الملفات..وما أن دخلتها بدأت بتجميع الأوراق التي ستحتاجها بحقيبة التقطتها من أحد الجوانب..بقيت على هذا الحال تجمع الأوراق بعد أن تتفحصها بآلية وهي تحمد الله أنها فضلت العمل مع مازن بهذه الغرفة البارحة..فلن تكون مضطرة على التعامل مع سالي وهو آخر ما توده بهذه اللحظة..
شعرت بحركة من خلفها فالتفتت لتجد مازن يبتسم ببشاشة كعادته..فأغمضت عينيها للحظة تحاول تقبل وجوده معها بنفس المكان دون أن تركض نحوه باكية دون أن تتوقف عن الشكوى مما أصابها خلال الفترة الماضية..إلا أنها ذكرت نفسها بجملته التي لم تكن تفارقه قبل أن يسافر:"أنت أختي الصغيرة"
نظرت له عندها وإحباطها يزداد مع كل ثانية بينما هو يقول بلطفه المعتاد:"أعتذر عن إخافتك رحمة..لكني طرقت الباب عدة مرات ولم تردي.."
ابتسمت وردت:"لا بأس لم تخفني..آسفة على عدم الرد كان عقلي مشتتًا بعض الشيء.."
نظر لها قليلا فابتلعت لعابها قبل أن تكمل:"لقد أحضرت كل الأوراق الهامة وسأذهب إلى البيت لجمع أغراضي وحسب"
تفحصها قليلا فزاد توترها وهي تستشعر رغبته بطرح سؤال إلا أنه اقترب وهو يرد:"يمكنني إيصالك بعد تناول الفطور معا..ثم سأذهب أنا أيضا لإحضار حقائبي وآتي لاصطحابك"
لن يحدث هذا قالتها بسرها قبل أن تقول بهدوء:"لا داعي لهذا..سألاقيك بالمطار"
هز رأسه ورد:"على راحتك..فكرت أن تفتحي شهيتي فأنا لم أتناول شيئا منذ البارحة"
التفت بعدها ليغادر لكنها لم تقدر على الحفاظ على كلمتها وقالت سريعا: "يمكننا تناول الفطائر على الطريق"
كان يعلم أنها لن تقاوم فدائمًا كانت تهتم بصحته أكثر من والدته نفسها فالتفت لها بينما تكمل:"تعلم حتى لا نتأخر"
أومأ لها بابتسامة وقال:"اتفقنا.."
************
-:"لا أفهم للآن لم عليك السفر إلى البلدة.."
خرج صالح من غرفة خلع الملابس وجلس على الفراش يربط حذائه قائلا:"أنا أعرف سميح لن يمرر الأمر ببساطة وسيذهب لعمه عبدالباسط ويخبره بما حدث.."
نهض بعدها واقترب منها مكملا:"وأنت تعرفين كم أحب هذا الرجل وأعامله كوالدي..صحيح أنه لن يصدقه إلا أنه سيعاتبني على عدم إخباره بنفسي وتوضيح الأمر.."
نظرت للحقيبة التي أعدها وقالت:"لا تتأخر وحادثني ما أن تصل لأطمئن.."
ابتسم لها ثم طبع قبلة على جبينها ثم ابتعد يرد:"سأفعل لا تقلقي.."
***
كانت تجلس أمام الحاسوب بغرفتها عندما رن هاتفها للمرة العشرين باسم خالتها فأغلقته وألقته بعيدًا وهي تقول بحنق:"يا لك من امرأة مزعجة..ألا تملين.."
سمعت طرقًا على الباب وقبل أن ترد سمعت صوت فتحه فالتفتت لتجده والدها يدخل حاملا حقيبة صغيرة..نظرت له بينما يقترب منها ويجلس على الفراش أمامها قائلا:"كيف حالك اليوم حبيبتي؟.."
أومأت وردت باقتضاب:"بخير.."
ربت على الفراش بجواره وقال:"هل يمكن أن تأتي وتجلسي بجواري؟.."
نهضت عن المقعد وتحركت ثم جلست بجواره وما أن فعلت ربت على كفها قائلا:"سأذهب إلى البلدة لأقابل جدك عبدالباسط وأوضح له الأمور فأنت تعرفين خالك.."
حركت رأسها بلامبالاة دون أي كلمة فنظر لها قليلا قبل أن يسألها:"هل تذكرين حديثنا آخر مرة لولا؟.."
ردت:"أجل.."
ابتسم وقال:"إذًا أنت تعلمين أني لن أكذب أو أفعل أي شيء يؤذيك.."
أومأت له دون رد فأكمل:"عندما أعود سنتحدث بأمر كان يجب أن أخبرك به منذ فترة طويلة.."
استغربت حديثه إلا أنها لم تعقب بينما هو يقترب ويطبع قبلة على وجنتها ثم نهض ونظر لها قليلا والتفت ليغادر لكنها أوقفته بسؤالها:"هل ستتأخر؟"
التفت ورد:"ثلاثة أيام أو أسبوع على الأكثر.."
أومأت له وابتسمت بوجهها فبادلها الابتسام قبل أن يلتفت ويغادر..وما أن تأكدت من ابتعاده اختفت ابتسامتها وهي تحدق بالفراغ هامسة:"هذا ما أردته بالضبط.."
**********

رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - ريم الحسينيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن