ما أن خطت لداخل المنزل تلفتت تنظر حولها للمكان الهادئ فاستغربت..فهي تعلم أن والدها سيذهب للعمل بالتأكيد فعليه البدء بتصفية المخزن والبحث عن مشتري لمنزلهم والمحل والمخزن..نظرت لأعلى الدرج وهي تبتسم بسخرية وتهمس لنفسها: "يبدو أن العروس لا تزال نائمة"..
تجاهلت الأمر وتحركت تبحث عن المطبخ فهي منذ أتت تتناول الطعام وحدها بغرفتها ولا تسأل عن أي أحد منهم على الرغم من هذا فقد استغربت اختفاء تلك المرأة التي رأتها في أول يوم فلم تكن هي من تدخل الطعام لها..بل فتاة بجنسية فلبينية لا تتحدث معها فقط تترك الطعام وتخرج..بقيت تبحث عن المطبخ إلى أن توصلت لدرج صغير خلف الدرج المؤدي للطابق الثاني..نزلته بهدوء لتجد نفسها بممر قصير وعلى الجانبها الأيمن كان هناك غرفتان مغلقتان بينما على الجانب الأيسر باب واسع مفتوح فتحركت ناحيته..لكنها توقفت ما أن سمعت الحديث الدائر خلف الباب
-:"أتمنى أن يساعدني هذا على مسامحة نفسي سميرة"
توقفت سميرة عما كانت تفعله وأخبرت الفتاة العشرينية أن تكمل هي عمل الغداء بانجليزية ركيكة ثم التفتت لوفاء وهي تنتوي اسماعها ما تكره لكنها توقفت ما أن رأتها بتلك الحالة وشعرت بالأسى على حالها..كانت تتكئ برأسها على كفها وعيناها سارحتان بالفراغ..تنهدت بحزن على حالها ثم اقتربت منها وجلست بجوارها وهي تقول:"متى ستنسين وفاء إن كان هو نفسه نسي الأمر؟"
التفتت لها ومقلتاها الزرقاوتان تسبحان ببركتين من الدموع بينما ترد باختناق:"يستحيل أن ينسى سميرة..ألا تذكرين كيف عامله أبي هو وعائلته..ألا تذكرين ما أصابهم بسببي؟"
ربتت على كفها وهي تقول:"بالتأكيد نسى وفاء..لقد مر على هذا زمن كبر كلاكما خلاله.."
زمت شفتيها بانزعاج بينما تكمل:"وقد أنجب خلال تلك السنين أنثى عقرب صغيرة تشبه والدتها وجدتها وخالتها..صدق من قال البنت لأمها!"
كزت لولا على أسنانها بينما تهمس بسخط وهي تحرك رأسها مقلدة صوت سميرة:"أنثى عقرب مثل أمها!"
توحشت عيناها بينما تكمل:"سأريك ما ستفعله بك العقرب!!"
فكرت بالمغادرة لكنها فضلت أن تقف وتتحمل لتستطيع اكتشاف ذلك السر الذي يأبى أي أحد إخبارها به..عادت للتركيز على التنصت عليهما فسمعت وفاء تقول:"لولا ليست سيئة..هي فقط مدللة بعض الشيء.."
ردت سميرة:"لا فائدة منك وفاء..ستبقين طيبة وحمقاء!"
كانت لولا قد ملت وتحركت لتغادر على أطراف أصابعها حتى لا يكتشفوا أنها سمعت ما قالتاه..وما أن وصلت لغرفتها أجبرت نفسها على غلق الباب بهدوء..لكن ما أن التفتت ألقت الحقيبة الصغيرة من يدها بعصبية ثم اتجهت للفراش والتقطت إحدى الوسائد وكتمت صراخها بها بينما تجلس عليه وما أن أبعدتها تمتمت بسخط:"تلك الحقيرة تتجرأ وتذكر والدتي بسوء..لا عقرب غيرها تلك العجوز ذات البشرة المجعدة!!"
نهضت من مكانها واتجهت لخزانة الملابس ووقفت أمام المرآة..ورغمًا عنها ابتسمت وهي تنظر لنفسها.. لا تعلم لم لكن كلما كانت تقف أمام تلك المرآة كانت تبتسم وذلك بمرات لا حصر لها.. فمنذ أن أتت وهي لا تستطيع التوقف عن الوقوف أمامها..فأخذت تبدل ثيابها واحدًا تلو الآخر وتلتقط عشرات الصور لنفسها..زمت شفتيها عندها وهي تتذكر أن هاتفها لم يعد يليق بها وقريبًا عليها تبديله لكن كيف؟..هذه هي المشكلة!
*******
وقفت داخل المكتب بعد أن أغلقت الباب وهي تأخذ نفسًا عميقًا فقد بقيت تدور خلفه لمدة ثلاثة ساعات دون راحة أو توقف..بينما يعرفها على العمال ويخبرها بما عليها فعله والذي لم يكن به الكثير من الصعوبة.. فبالإضافة لتنظيم مواعيده وكشوفات الحضور والانصراف والحصر بأسماء العمال..فهي أيضًا ستتعامل مع رئيس المخازن لتأخذ كشفًا مفصلًا بالكميات الموجودة وأيضًا ستقوم بتنظيم أوراق المخالصات والعقود الجديدة مع التجار..هل نست شيئا؟!
تساءلت بينما تنظر للمفكرة الصغيرة التي دونت بها كل هذا بينما تضع القلم على شفتيها وتهمس لنفسها:"هناك شيء آخر أنا متأكدة..ماذا كان..ماذا كان؟!"
نظرت له فوجدته قد التفت لها بينما يتكئ على المكتب العريض..وقبل أن ينتابها التوتر بسبب نظراته ابتسمت واتسعت عيناها وهي تهمس:"تذكرت!"
ثم دونته سريعًا قبل أن تنسى مجددًا..
-:"تذكرت ماذا؟"
كان يراقبها منذ لاحظ توقفها فالتفت ليسألها عن السبب لكنه كالعادة انشغل بمراقبتها..فقد كانت تعقد حاجبيها بينما تدون شيئًا ما بتلك المفكرة الصغيرة..وما أن رفعت عينيها له احمرت وجنتاها بشدة ثم اتسعت عيناها وابتسمت وعادت تنظر لتلك المفكرة..ومع سماعه لتلك الهمسة الخافتة لم يستطع منع نفسه عن سؤالها فرفعت عينيها له وارتبكت قليلا قبل أن ترد:"لقد كنت أدون ما طلبته مني حتى لا أنساه..وقد فاتتني نقطة ولكني استطعت تذكرها"
حدق بها لثانية قبل أن يتحرك ناحية مكتبه وهو يقول:"لقد وضحت لك كل مهامك وأتمنى أن تنجزيها على أكمل وجه"
سمعها ترد:"سأبذل جهدي سيدي أعدك"
التفت لها ثم أشار للمكتب العريض وقال:"هذا مكتبك والحاسوب عليه مجهز بكل البرامج التي قد تحتاجيها بعملك وأسفله زر صغير ما أن تضغطي عليه يأتي عامل لأخذ طلبات المشروبات وإن أردته أن يشتري لك طعام أو ما شابه يمكنك إرساله"
أومأت له بارتباك فسألها:"هل لديك أي مشكلة أو استفسار؟"
أومأت بلا فالتفت ودخل المكتب وأغلق الباب..بينما هي بقيت واقفة تحدق بالباب المغلق قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا وهي تلتفت ناحية المكتب وتنظر له قليلا.. قبل أن تتحرك نحوه وتجلس على المقعد المريح وهي تهمس لنفسها:"هيا ليان تشجعي يمكنك ذلك.." ابتلعت ريقها وأغمضت عيناها لثانية بينما تهمس بارتباك "تناسي فقط أمر سيد الظلام.."
*********
ما أن استطاعت تمالك أعصابها بعد أن عادت لمكتبها تفاجأت أن والدها يريدها بمكتبه..فلم تجد بدًا من الذهاب إليه وهي تتمنى أن يكون غادر..فهي لا تعلم ردة فعلها إن رأته مجددًا..لم تتجرأ على سؤال مساعد والدها إن كان لا يزال معه أو لا..ودخلت المكتب بعد أن طرقت الباب لتستأذن ثم خطت للداخل..وما أن فعلت علمت أن أمنيتها لم تتحقق..فما كانت لتخطئ هذا الصوت بنبرته الهادئة الواثقة أبدًا..ابتلعت لعابها وهي تتجه ناحية المكتب وتحاول ادعاء الثبات قدر إمكانها..نظرت له لثانية وابتسمت بأدب بينما بادلها هو الابتسامة مع نظرة مستغربة.. فحاولت صر انتباهها عنه كليًا والتفتت لوالدها وقالت:"هل طلبتني سيد عزام؟"
التفت لها ورد برسمية:"أجل رحمة.. أطلعي السيد مازن على مخططات فرع الشركة بإنجلترا واشرحي له الوضع هناك"
أومأت له بتفهم بينما نظر لها مازن وابتسم فذاب قلبها بصدرها من مجرد تلك الابتسامة التي لطالما منحها لها بينما يقول:"لم أعرفك رحمة"
-:"أجل وهذا آلمني للغاية" همست بها بداخلها لكنها أجبرت نفسها على الحفاظ على ابتسامتها الهادئة بينما يكمل:"أعتذر لك..لكني سعيد برؤيتك"
كانت نفس الأعراض التي لطالما تصيبها ما أن تراه أو يتحدث معها..رجفة بقلبها مع تسارع نبضاته..وتجمد بأطرافها مع شعور بضباب لذيذ يملأ عقلها ونفسها..لكنها جاهدت وبذلت كل طاقتها ألا تبدي أيًا من هذا وهي ترد: "أنا أسعد سيد مازن.. إن أحببت يمكننا الشروع بالعمل فورًا"
***********
بعد أن استطاع أخيرًا التخلص من تلك العلقة المسماة سالي تحرك وغادر فورًا ناحية المحل وفتحه..فبعد أن اتصل بمالكه القديم علم أن العقود كان يضعها بأحد أدراج المكتب..جلس على المقعد وفتح الدرج المنشود وهو يفكر كيف سيكون اسمها..فتح المغلف البلاستيكي الذي أخبره عنه والتقط الأوراق من داخله وأخذ يقلب بها إلى أن وجد ضالته..نظر للاسم بفم مفتوح لم تلبث أن تحولت لابتسامة قبل أن ينفجر ضاحكا وهو يرجع ظهره للخلف ويرتاح بمقعده قائلا:"هذا هو إذًا.."
نظر للورقة قليلا ثم ضحك قليلا بينما يكمل:"لكنه ليس بهذا السوء.."
التمعت عيناه بخبث بينما يكمل بشر:"لكنه كذلك بالنسبة لك..وإلا ما كنت أخفيته بهذا الشكل!"
*********
ما أن دقت الساعة الخامسة تحركت ليان لتغادر المكتب..وقفت قليلا قبل أن تخرج وترددت وهي تلتفت تنظر لباب مكتبه الذي اختفى خلفه منذ الصباح ولم يخرج..ابتلعت ريقها وفكرت أنه ربما عليها إعلامه بذهابها..لكنها تراجعت وهي تفكر أن الأفضل لها أن تغادر فلا داعي لهذا..تحركت بعدها سريعًا لتخرج قبل أن تبدل رأيها..وهي تفكر أنه لا داعي في الأساس لإخباره فهو بالتأكيد يعلم أن الجميع يغادر بمثل هذا الوقت..أومأت لنفسها وهي تصدق على كلامها بينما تخرج مع العمال من المحزن الضخم..كانت هناك سيارة مواصلات تنتظر بالخارج لتوصل الجميع إلى بيوتهم..فلا مواصلات تأتي لهذا المكان بوقت متأخر كهذا..وقد كان هذا من سوء حظها..فمن بين كل العمال كانت هي الفتاة الوحيدة..لكنها شحذت همتها وركبت متجاهلة نظراتهم المتسائلة وألهت نفسها بمحاولة الاتصال بيابسة الرأس لكن كالعادة لم تتلقى أي رد..
*********
نظرت لصورتها المنعكسة بتلك الثياب الرائعة الناعمة والمؤلفة من كنزة فضفاضة من الشيفون تضيق عند الخصر بقماش مطرز ومخرم على الذراعين والكتفين يبرز بشرتها الخمرية..مع بنطال من الجينز الفاتح وحذاء عالي من القطيفة مفتوح من الأمام يبرز طلاء قدميها اللامع كانت تبدو رائعة به..وقد اكتملت روعتها بتبرجها الناعم الذي جعلته هادئا بينما طلت شفتيها بلونها المفضل الأحمر القاني..وتركت شعرها ينسدل على كتفها وظهرها بعد أن سرحته بمكواة الشعر..كانت راضية تمامًا عن النتيجة النهائية ومستعدة لتنفيذ خطتها..سمعت طرقًا على الباب فظنته والدها وردت دون اكتراث "ادخل"
سمعت صوت الباب يفتح والصوت الهادئ يقول:"لولا..هذه أنا ليان"
أنت تقرأ
رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - ريم الحسيني
Actionمقدمة السلسلة *** تجمعنا الأقدار وتفرقنا.. تتلاعب بنا كبيادق الشطرنج برقعة كبيرة اسمها الحياة بعضها تسعدنا.. بعضها تحزننا.. وبعضها يصيبنا بالحيرة فلا هي سعيدة.. ولا هي حزينة . بل تتخبط بين السعادة والحزن.. بلحظات السعادة تتناسى كل الحزن.. وبلحظات...