رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - الفصل الخامس

178 9 3
                                    

-: "سالي"
انتبهت من أفكارها والتفتت تنظر له.. ثم أغمضت عينيها بضجر وهي تفكر أنها تناسته تماما رغم أنه يجلس امامها.. تنهدت بملل وقالت: "ما الأمر عبدالرحمن لقد أخفتني بصراخك"
نظر لها وبدا على وشك الانفجار وهو محق في ذلك.. فهي تتجاهله تماما بالفترة الأخيرة وبصعوبة تمكن من إقناعها أن تلتقيه اليوم.. الغريب في الأمر أنها تتمنى أن ينفجر ويمل ويتركها.. فملاحقته لها تأخذ حيزًا من وقتها وتفكيرها وهو أمر لا تريده.. عليها صب كل تفكيرها وتركيزها على بدر وكيفية الإيقاع به.. فهي لن تستسلم حتى يلاحقها هو بدلا من عبدالرحمن.
وجدته ينظر لها بتلك الطريقة التي تكرهها فهي نظرة تعني إنه تمالك أعصابه.. وكالعادة يرد ببرود ودون التفات لأي شيء قالته قبلها وهو أكثر ما كانت تكرهه به.. فهو بارد ويحكم السيطرة على مشاعره وردات فعله بشكل لا يطاق.. على عكس بدر الذي مع مراقبتها له اكتشفت كم هو شخص مجنون وغير متوقع.
-:"كنت أسألك متى سأتمكن من رؤية والدك حبيبتي فأنا مستعجل وعلي أن أسافر قريبا"
تنهدت وردت بحدة: "كم مرة علي أن أعيدها عليك عبدالرحمن.. والدي طلب تأجيل الموعد لانشغاله"
نظر لها قليلا ثم قال: "أنت تكررين هذه الجملة منذ فترة سالي.. ألم يفرغ والدك من عمله طيلة هذا الوقت؟"
تأففت بينما ترد: "أجل لم يفرغ للآن.. هل تظنني كاذبة؟!"
ارتاح بمقعده وعيناه تدرسانها بذات الطريقة التي تخنقها وترعبها بنفس الوقت فهي دائمًا تشعر أن تلك الواجهة الأنيقة التي يضعها تخفي أسفلها شيء أسوء بكثير مما تتخيل.. ابتسم عندها فحاولت ألا تبدو مرتبكة بينما يقول: "لا بالطبع.. لكن أريدك أن تحاولي معه مرة أخرى.. أنا سأسافر بمنتصف الشهر القادم وهذا سيمنحك شهرًا كاملاً"
أومأت له وردت: "حسنًا سأحاول.. الآن اعذرني علي الذهاب"
نهضت بعدها تحمل حقيبتها فنهض معها وقال: "دعيني أوصلك"
ردت: "لا لا داعي.. فأنا سألتقي بشقيقتي ونذهب بعدها للتسوق.. أراك لاحقا"
وتحركت دون انتظار لرده تسرع الخطى ناحية الباب.. وما أن خرجت اتجهت لموقف السيارات واستقلت سيارتها الصغيرة.. وما أن أصبحت بداخلها أخرجت هاتفها وأجرت مكالمة.. وما أن أتاها الرد قالت بتملق: "سهير حبيبتي كيف حالك؟"
-:"بخير آنسة سالي كيف حالك أنت؟"
مطت شفتيها وقالت: "ألم أخبرك أن تناديني بسالي وحسب عزيزتي"
ضحكة صدرت من الجهة الأخرى ثم أجابت الفتاة: "حسنا سالي.. كيف هي أحوالك؟"
ردت: "بخير.. أمممم.. عزيزتي كنت أتساءل هل بدر بالمكتب اليوم؟"
-: "لم يأتي للآن ولا أعلم إن كان سيأتي أم لا"
عضت لسانها محاولة كتمان غضبها.. فعلى ما يبدو هو طلب منها ألا تخبرها بوجوده لكنها لن تستسلم.. لذا رسمت ابتسامة صفراء على فمها وهي ترد: "حسنا عزيزتي لن أعطلك عن عملك أكثر وسأغلق وأحاول التواصل معه"
-:"حسنا إلى اللقاء"
أغلقت الخط بعدها ونظرت للهاتف بينما تطرق بأصابعها على المقود محاولة الإتيان بحل.. فعلى ما يبدو هو مل من ملاحقته لها وهي عليها أن تجد طريقة لتتمكن من الذهاب له دون أن يتمكن من ردعها.. عندها أتت الفكرة وضربتها كالصاعقة فانطلقت سريعا قاصدة شركة والدها.
*******
كانت لولا تحدق به بصدمة وهي تحاول استيعاب تلك الجملة.. هذا الوغد مديرها هي.. ابن المرأة التي تكرهها أكثر من أي شيء وأقسمت على تدمير حياتها يصبح مديرها.. يأمرها ويهينها دون أن تملك قدرة على إيقافه.
-:"لن يحدث!"
همستها باصرار بينما تقترب منه وعينيها معلقتان بعينيه الساخرتين وهي تكمل بتشديد "على جثتي إن منحتك هذه الفرصة!!"
ابتسم بدر بينما يراقبها عن كثب كانت لا تضع أي مستحضرات ويبدو عليها الإرهاق.. فقد أخبرته الطبيبة أن الأدوية التي تناولتها أثرت على حيوية جسدها وستحتاج بعض الوقت لتتعافى.. ورغم كل هذا إلا أنها بدت رائعة وخاصة مع تلك الشرارات القاتلة الصادرة من عينيها.
ظل صامتا لبعض الوقت ثم قال: "كنت أتوقع هذا.. لذا قررت إغلاق المحل كليًا وفصلك من العمل فأنت فتاة مهملة ولا تصلح لأي عمل"
كزت على أسنانها وهي تحضر الكلمات اللاذعة التي سوف تمطره بها.. لكنها تذكرت ليان فالتفتت تنظر لها وجدتها تراقب الموقف بارتباك.. فعادت تنظر له لكن قبل أن تقول شيئا وجدته يقول: "لا تقلقي بشأن الآنسة ليان فهي ستعمل..."
-: "معي.."
التفتا ليزيد الذي أكمل: "ستعمل ليان معي فأنا بحاجة لمساعدة"
بدا بدر متفاجئا لكنه لم يهتم.. وعاود النظر للولا التي صبت تفكيرها على الواقف أمامها وكم المصائب والمكائد التي ستعدها لأجله هو ووالدته.. فإن كانت لن تعمل سيصبحان هما شغلها الشاغل.. ابتسمت عندها بخبث بينما كان يراقبها هو بصمت.. ثم اقترب منها وانحنى قليلا هامسًا لها "يمكنني قراءة أفكارك بوضوح هل تعلمين هذا هرتي؟"
همست بنفس الطريقة: "مهما حاولت لن تتخيل ما ينتظرك على يد مخالب هرتك!"
وابتسم كلاهما بنفس الطريقة لبعضهما بتوعد وترقب لما سيحدث.. أما ليان فقد كانت تحاول تشتيت تركيزها ما بين الشجار والقلق على وظيفتها التي فقدتها للتو وحصولها على أخرى.. لكنها لم تقدر أن تركز فكل ما كان يدور ببالها كيف تبعد نظرات يزيد.. والأغرب أنها كانت تحاول إبعاد نظراتها هي الأخرى عنه.. لكنها كانت لا تصدق ما حدث.. ففجأة الرجل الذي احتل أفكارها طيلة الأيام الماضية بسبب تلك النظرات التي يشيعها بها أصبح مديرها وستضطر للتعامل معها أغلب وقتها.. وبعيدا عن كم الرعب الذي احتلها خوفا مما هو قادم.. إلا أن سؤالا يلح عليها وخافت من إيجاد إجابة له أو طرحه حتى بينها وبين نفسها.. لم هي سعيدة هكذا؟
توقفت أفكارها ما أن رأت لولا تلتفت لها وتقول: "سأغادر هل أنت قادمة معي؟"
ابتلعت ريقها وقبل أن ترد وجدت الصوت الرخيم يصدر مجددا من على الباب: "ألم تستمعي لما قلته؟"
التفتوا جميعا للواقف متكئا على الباب الزجاجي بأريحية بينما يكتف ذراعيه أمامه.. ولا تعلم كيف بموقف كهذا شعرت بالأسف على حال الباب الذي يتحمل هذا الرجل بضخامته التي لم تشهد لها مثيلا.. هزت رأسها لتعاود التركيز على ما يحدث حولها.. وهي تراه يقترب من لولا ويقف على بعد مسافة منها و يقول بهدوء وصرامة: "لقد قلت أنها ستكون مساعدتي وستبقى معي فلا شأن لك بها!"
دائما ما تكسر لولا كل القواعد.. هذا ما كانت تفكر به ليان فمهما كان الشخص الذي يقف أمامها قويًا ومحقًا فهي تملك ألف طريقة لإسكاته لكن ما رأته صدمها.. فقد تراجعت أمام نظراته المحذرة والتفتت لها كأنها تطلب منها الدعم فاتسعت عيناها أكثر وهي لا تعلم كيف عليها أن تتصرف.. لثوانٍ بقيتا تحدقان ببعضهما قبل أن تعاود الالتفات وتنظر ليزيد الذي ابتسم وقال: "أرى أن يوصلك بدر لأننا سنغلق المحل ونبدل نشاطه كما ذكرنا"
ابتلعت ريقها وهي ترمقهما بحنق بالذات ذلك الضخم بملامحه المتوحشة.. لا تعلم كيف لكنها أجبرها على التراجع والتوقف عن الحديث تمامًا.. تحركت تتفاداهما وتغادر وقررت أخذ سيارة أجرة دون انتظارٍ لذاك الوغد.
ما أن غادرت لولا تبعها بدر ووقفت ليان تنظر له بترقب وهي لا زالت لا تصدق ما حدث.. بينما بقي يزيد ينظر لها لثوان قبل أن يقول "اتبعيني"
والتفت ليغادر لكن عندها انفكت عقدة لسانها وسألته: "إلى أين؟"
توقف والتفت لها قائلا: "سأريك مكان عملك وأعرفك بطبيعته"
ارتبكت قليلا بينما تسأله: "ماذا عن المحل؟"
رد: "أحد رجالي سيتولى أمره ليان"
كادت تسأل مجددا لكنه أوقفها قائلا بحدة: "كفاك أسئلة ليان.. اتبعيني وحسب!!"
تراجعت بخوف بينما التفت هو مغادرًا.. فوقفت تفكر لثوانٍ وبداخلها جزئين يتصارعان.. أحدهما يأمرها باتباعه والآخر يتوسلها ألا تفعل ويخبرها أنها ستندم على اتباع ذلك الرجل.. لكن ما أن رأته يرتدي نظارته الشمسية بهدوء والتفت ليشير لها أن تقترب تناست كل شيء والتقطت حقيبتها وتبعته.. فتح السيارة بالمفتاح الإلكتروني وركب بمقعد السائق والتفت ينظر لها لثانية.. ثم نظر أمامه مجددا وهو يبتسم بظفر بينما سعادة لا يعرف مصدرها تحتله..
***************
كانت وفاء تجلس بالشرفة وتنظر للخارج بشرود إلى أن شعرت بحركة من خلفها فالتفتت لتجد صالح.. ابتسمت بوجهه بينما هو يقترب منها قائلا: "كان الأمر لا يستحق وجودي.. لكن ذاك الشاب لا زال جديدًا لذا يرتبك من أي شيء"
جلس أمامها فابتسمت وهي ترد: "المهم إن الامور حُلت"
قال: "أجل لا تقلقي"
نظت له قليلا وبدا عليها التردد إلا أنها استعانت بالله وتنحنحت قبل أن تضع كوب الشاي بالنعناع أمامها وتقول: "كنت أفكر.. لم لا نتشارك أنا وأنت ويزيد؟"
انعقد حاجبيه بشدة بينما يسألها: "نتشارك بماذا؟"
ردت: "يزيد كان قد أخبرني إنه يريد فتح معرض خاص به ويتبع مخازنه.. لكنه بحاجة لشخص موثوق وخبير ليديره لانه لن يستطيع الظهور بالواجهة.. وأنت تملك خبرة بالموضوع فما رأيك؟"
كان الاعتراض واضحا على وجهه كما اتضح الانزعاج من انعقاد حاجبيه مع هذا رد بهدوء: "أنا لا أريد أن يرتبط عملي بيزيد أو أي أحد من أبنائك وفاء.. عندها سيعتقدون إني استغل زواجنا لأحصل على منفعة شخصية.. كما أن مخزني ومحلي بحال جيد والحمد لله"
انعقد حاجباها بشدة بينما ترد بحدة: "ومن قال أن أحدًا منهم بإمكانه قول كلمة واحدة عنا صالح؟!.. لا أحد يحاسبني كيف اتصرف بالمال الذي دفعت ثمنه غاليًا وقد كانوا شهودًا على ما أصابني لأحصل عليه رغم معرفة الجميع أني لم أطلب أيًا من هذا.. كما أني لا أقبل حتى أي تعليق من أحد غيرك أنت وبدر وجناد ويزيد.. والثلاثة يشاركوني أفكاري ولا أحد منهم يرى بذلك أي خطأ"
ابتسم وهو ينظر لعينيها اللتين ضاقتا بينما تتحرك للأمام والخلف بانفعال واضح وهي تتحدث.. كانت كلما تغضب أو تنفعل تتحرك بانفعال بذات الطريقة منذ عرفها وهي صغيرة.. فما أن تكون على حق يستحيل أن يغلبها أحد بالكلام.. احمرت وجنتاها فجأة واتسعت عيناها وهي تقول بأسف: "أنا أعتذر حبيبي على رفع صوتي.. لكن أنت تعلم لا أتحكم بنفسي ما أن انفعل!"
ابتسم وارتاح بمقعده بينما يرد: "إن كنت بكل مرة ستنفعلين ستعتذرين وتقولي حبيبي بهذه الطريقة فلا مانع لدي.. المهم ألا يؤثر هذا على صحتك"
ابتسمت بخجل ونهضت من مكانها ثم جلست على ذراع المقعد: "اسمع صالح.. أنا أراك أفضل رجل في العالم.. كما أرى أولادي الثلاثة رغم كل عيوبهم ومساوئهم التي أحفظها عن ظهر قلب"
نظرت له بأسف وأكملت: "لكن لو لم أكن بحياتك.. لو لم تكن أحببتني وكنت مستعدا لمحاربة العالم لأجلي كنت ستكون بمكانة أخرى غير هذه"
ربت على يدها وهو يقول: "أنا راضٍ ِبكل ما حدث لي.. كما أن الله جمعنا بالنهاية وعوضني بلولا"
ردت: "إذًا فكر بلولا.. ستكون سعيدة عندها.. ألم تخبرني من قبل أنها تهتم بالمظاهر؟"
صمت قليلا وكاد يرد.. لكنه توقف ما أن دخلت زوبعة غاضبة يتطاير الشرر من عينيها.. ولكنها توقفت ما أن رأت المنظر أمامها و لثوان حدقت بهما بصدمة.. ثم ازداد الغضب بينما تكتف ذراعيها وتبتسم بسخرية وهي تقول: "صباح الخير أبي العزيز.. هل أعطلك عن الاهتمام بعروسك"
تنحنح بحرج بينما نهضت وفاء وهي تشعر بالخجل.. ورغم أنها تقصدت إحراجهم ليبتعدا عن بعضهما إلا أن غضبها لم يهدأ.. بل إنها تمنت أن تندفع وتدفعها من الشرفة فربما يكون القدر رحيمًا بها وتموت لترتاح مما سيصيبها على يديها.. سألتها وفاء بارتباك: "ظننتك ستتأخرين في العودة عزيزتي"
ارتفع أحد حاجبيها وردت بحدة: "لماذا يا زوجة أبي.. ألا تريديني أن أعود للبيت؟!"
اتسعت عيناها بصدمة.. بينما نهض والدها بنفس اللحظة التي دخل بها بدر الشرفة بابتسامة متسلية.. فالتفتت له وهي تشيعه بنظراتها القاتلة ثم ابتسمت ذات الابتسامة الساخرة والتفتت لوالدها وقالت: "رحب بمديري الذي لم يعد مديري أبي!"
ولم تلتفت لنظراته المتسائلة.. والتفتت تضرب الأرض بعصبية بينما بدر ينظر بأثرها باستمتاع فقد أرغمها بالنهاية على الركوب معه بعد أن أوقف سيارة الأجرة وأنزلها منها رغم ممانعتها..
-:"ماذا حدث بدر؟"
التفت لوالدته التي أكملت: "لم لولا غاضبة؟"
رد: "سأخبرك أمي.. لكن هل تحادثتما بالأمر؟"
ابتسمت بحماس وهي تتناسى كل شيء.. ثم غمزت له دون أن يشعر صالح وهي تقول: "كنت أحاول إقناعه لكنه رفض بدر.. أقنعه أنت"
ابتسم بدر بينما ينظر لصالح الذي كان مرتبكا بعض الشيء ثم قال "دعنا نتحدث عمي"
************
جلس يزيد على مقعده بأريحية ثم أشار للمقعد أمامه قائلا "اجلسي ليان"
تحركت وجلست أمامه وابتلعت ريقها بتوتر وهي تنظر للمكان من حولها.. كانت لا تصدق أن مكتبًا كهذا يمكن أن يحتل مكانًا كذاك الذي رأت واجهته.. فمن الخارج كان مستودعًا كبيرًا بباب ضخم وبمكان شبه خالٍ بقرب الطريق الدولي.. من الداخل كان مليئًا بالأخشاب التي تحتل كل ركن به رغم اتساعه.. وجميع العاملين به من الرجال.. في البداية نظروا لها بصدمة قبل أن يعاود كل منهم الاهتمام بعمله.. وهي لم تحتاج لأن تفسر سبب تصرفهم الغريب.. فقد كان يزيد يمشي أمامها وتوقعت أنه أرعبهم بطريقةٍ ما.. بقيت تتبعه إلى أن وصلا للجانب الآخر من المستودع لتجد سلمًا معدنيًا يفضي لطابقٍ علوي صعدت خلفه.. وما أن فتح الباب وأغلقه اتسعت عيناها والتفتت تنظر للباب خلفها.. ففجأة اختفت كل الأصوات العالية لخرط الأخشاب وطرقها ونقلها.. فافترضت أن زجاج النافذة العريضة عازل للصوت فقد سمعت عن وجود شيء كهذا.. تحركت بعدها تتبعه بينما تمر بمكتب ضخم بأحد الجوانب موضوع عليه حاسوبٍ محمول.. بدا مبهرًا بكل ما فيه لكن ما أن دخلت خلفه شهقت وهي تنظر للمكان الفخم من الأثاث لألوان الحائط والأرضية الخشبية.. تبعته كالمنومة بينما تحدق بكل شيء حولها.. لكن عيناها تعلقتا بالمكتبة الواسعة.. هي ليست من هواة القراءة لكنها قد تقرأ رواية رومانسية من وقت لآخر عبر الإنترنت.. لكن تلك الكتب تبدو قيمة للغاية..
ابتلعت ريقها وأغمضت عينيها محاولة التركيز على الأشياء المهمة.. والخروج من هذا المكان هو الأهم الآن.. فقد قررت التنحي عن العمل من اللحظة التي ركبت بها السيارة معه لكنها لم تقدر على البوح بها.. تنفست بعمق ثم التفتت له وجدته يراقبها كالعادة ولحسن حظها لم يطل النظر إليها.. فابتسم بسخرية ونظر للمكتبة ثم أشار لها وهو يعاود الالتفات لها قائلا: "إنها واجهة فقط للزينة.. فأنا لا أعرف أسماء الكتب بداخلها ولم أحاول النظر لها حتى!"
ابتسمت وردت "افترضت هذا.. فقراءة الكتب لا تناسبك"
قالتها بتلقائية وما أن أدركت ما قالتها اتسعت عيناها.. وتلك الشموس الساكنة بمقلتيها ازدادت بريقا جعله يبتلع غصة تخنق حلقه.. بينما هي تبلل شفتيها وتقول بتردد وخفوت "أنا... أنا حقا... لا أقصد أي إساءة"
-:"أعلم"
قالها بنبرة غريبة بدت أكثر عمقا من نبرته العادية.. رفعت عينيها ولاحظت أنه لا يبدو عليه أي انزعاج رغم غرابة نظراته.. تنفس بعمق ورأته يرفع إحدى ساقيه ويسندها على ذراع المقعد فأصبحت معلقة بالهواء.. وعندها همست لنفسها "إنه فعلا لا يلائم هذا المكان!"
اتسعت عيناها وعادت تنظر له بخوف بينما تحاول تبين أي انزعاج يبدو عليه خوفا من أن تكون قالت تلك الجملة بصوتٍ عالٍ.. لكن ملامحه كانت ثابتة بينما يميل برأسه قليلا وهو يقول: "لكنها تعطي التأثير المطلووب فالجميع ينبهر بها.. لكن لا أحد يتمكن من النظر لي بنفس طريقتك"
كان من المفترض أن تخاف لكنها وجدت نفسها تسأله "كيف ينظرون لك؟"
ابتسم لها ورد: "في الغالب لا يستطيع أي شخص غريب النظر بعينيّ.. لكن إن حدث فعينيه تكونان لا تحملان إلا الرعب والخوف"
ألجمها رده وجعل الفزع يحتلها والرغبة بالهرب من المكان تزداد.. عادت تنظر للأرض مجددا وهي لا تستطيع التفكير أو التركيز بأي شيء.. وكل ما يدور ببالها كيف تهرب من المكان دون عودة لكنها سمعته يقول: "لنناقش موضوع عملك.. أخبريني ما هو مؤهلك؟.. من أي جامعة تخرجتي؟"
ابتلعت ريقها وهي تحاول إجلاء حنجرتها لكنها لم تقدر فردت باختناق "أنا أحمل شهادة متوسطة من المعهد التجاري.."
أومأ لها وقال "حسنا سأمنحك بعض المعلومات عن طبيعة العمل.."
*******
في المساء..
كان هاتفها يرن باسم ليان للمرة العاشرة ربما.. لكنها كالعادة رفعته ونظرت للاسم ثم فعلت الوضع الصامت وألقته بجوارها بعصبية.. كانت تجلس على الفراش بأريحية وعقلها لا يتوقف عن التفكير ورسم الخطط.. وقد استنتجت من جلستها الطويلة أنها حتى الآن بعد أن تخلت عن عملها لا تزال تحت رحمتهم.. فهذا بيتهم بالنهاية.. فكرت أن تحاول إقناع والدها بالعودة لبيتهم لكنها ألغت هذه الفكرة تمامًا.. طرق الباب عندها فسألت بحدة "من؟"
-:"أنا والدك عزيزتي"
زمت شفتيها بضجر وكادت أن تطلب منه تركها لكنه أكمل "أريد الحديث معك بأمرٍ ما"
تنفست بعمق وأغمضت عينيها قبل أن ترد: "تفضل"
دخل بالفعل وهو يبتسم لها وتحرك ليجلس بجوارها بينما هي تنظر له ببرود كعادتها.. تجاهل صالح كل هذا وقال: "لم أنت غاضبة حبيبتي؟.. لطالما كرهت هذا العمل ورغبت بالبحث عن غيره"
تحركت بحدة تجلس بجواره وهي ترد بعصبية :"أردت تركه والانتقال لعمل أفضل لا أن أطرد من قبل ابن السيدة المصون زوجتك!!"
تنهد وقال: "بدر أخبرني أنه لم يكن ينوي طردك لولا.. لكنه لم يجد بدًا عندما سبقته بالإهانة أمام ليان ويزيد"
علم أنها على حافة الانفجار بوجهه.. لذا قبل أن تنطق أي كلمة وضع يده أمام فمها وهو يقول: "أنا لست هنا لأناقش هذا معك حبيبتي"
صمتت وعقدت ذراعيها بينما تنظر له بانزعاج.. وهي تتوعد أنه لن ينام لعدة أيام بسبب ما ستقوله إن كان الموضوع لا يستحق.. وقد قرأ هذا بوضوح وتنهد وهو يستعين بأكبر قدر من الصبر الذي يملكه.. ثم نظر لها وقال: "أود أخذ رأيك بموضوعٍ خاص بعملي لولا.. ما رأيك لو بعت البيت والمحل والمخزن وأتشارك مع وفاء ويزيد بمعرض للأثاث؟"
كانت تنظر له بضجر بالبداية.. لكن ما أن بدأ بالحديث انتبهت له وفكت عقدة ذراعيها بينما تحدق به بصدمة.. فأكمل: "سيكون يزيد مسؤولا عن المخزن والورش.. وأنا سأهتم بالمعرض سيكون ضخمًا وبمنطقة حيوية ومرموقة"
ابتسمت وهي لا تزال على صدمتها بينما يردف: "عرضت علي وفاء أن أكون شريكا بمبلغ بسيط بالإضافة لإدارتي.. لكني أصريت أن أكون شريكا بالثلث على الأقل"
صفقت يديها معا وهي تقول بحماس: "رائع ستصبح أنت صاحب المعرض إذًا!!"
رد: "سنكون شركاء كما أخبرتك و..."
قاطعته بأن لوحت بيدها بلا مبالاة وهي تقول: "هذا أمر يمكن حله بسهولة في المستقبل.. الآن أخبرني كم ستكون نسبتك من الأرباح؟"
-:"لم نتناقش بعد"
ما أن قال تلك الجملة انتفضت واقفة وهي تقول بحدة: "يجب أن يكون هذا أول ما تتناقشون به أبي.. أنت ستتولى كل العمل تقريبا لذا لابد أن تكون نسبتك أكبر!"
تنهد وهو يهمس لا فائدة بينما ينهض ويربت على كتفها قائلا: "سنتناقش بهذا الأمر لا تقلقي.. لكني لن أقوم بكل العمل لوحدي يزيد سيساعدني"
كادت تقاطعه بحدتها المعتادة لكنه لم يهتم واقترب منها وهمس: "لكن المهم الآن أنك لست مضطرة للعمل"
انعقد حاجباها فابتسم وأكمل: "أنا أعلم أنك تكرهين العمل وتكرهين أن يأمرك أي أحد أو يتحكم بك ويوبخك.. لكنك لست مضطرة الآن لتحمل ما تكرهينه فالمال الذي سأحصل عليه أيًا كانت نسبتي فسيكون كافيًا لتلبية رغباتك"
كانت بداخلها تعلم أن هذه هي طريقة سير أفكاره منذ البداية لكنها أنكرتها وصبت اهتمامها على الاستفادة من هذه الفرصة الذهبية.. لكن ما أن سمعته يظهر لها نيته وجدت نفسها تتمسك بقميصه وهي تبتسم وتنظر له.. ولم تفهم ما أصابها فجأة وجعلها تهمس: "هل تحبني أبي؟"
انعقد حاجباه بشدة وهو يقترب منها ويرد: "ماذا تقولين لولا؟!.. بالطبع أحبك.. أنت أهم شخص بحياتي!!"
امتلأت عيناها بالدموع واختنق حلقها وهي تسأله: "وماذا عن زوجتك وعائلتك الجديدة؟!"
ابتسم لها ورد: "وفاء هي المرأة الوحيدة التي أحببتها ومحبة أبنائها من مكانتها بقلبي.."
علم أنها غاضبة من كلماته لذا وضع وجهها بين كفيه وهو يكمل "لكن أنتِ ابنتي الصغيرة قطعة من قلبي وروحي.. يستحيل أن يصل أحد لمكانتك لدي لولا"
ضمها بعدها فوضعت رأسها على مقدمة صدره وهي تهمس: "لا أحد سيفهمني كما تفعل أنت أبي!"
ربت على رأسها وطبع قبلة على مقدمة رأسها وقال: "ولا أحد سيحبك مثلي حبيبتي.. لذا ثقي أن راحتك ومصلحتك أهم شيء بحياتي"
احتضنته عندها وهي تهمس بداخلها: "ستتفهم ما سأفعله وتسامحني بالتأكيد.. فلا أحد لك غيري بالنهاية.. سأحرص على هذا!"
**************
ألقت ليان الهاتف بجوارها بعصبية وهي تهمس بغضب "فتاة غبية وحمقاء!!"
تنهدت وهي تفكر أنها بالتأكيد الآن تفكر كيف ستنتقم منها.. فعلى الرغم من أنها كانت ستشعر بالذنب إن فقدت عملها بسببها.. إلا أنها لن تسامحها لأنها بقيت مع يزيد ولم تدعمها.. لكنها عادة لولا.. أنانية لأقصى درجة.. فرغم أنها تعلم الوضع الذي ستكون به إن فقدت عملها.. إلا أنها بالتأكيد أرادتها أن ترفض عرضه الذي اكتشفت بعد أن رافقته أنه عرض مغرٍ جدا جدااا.. لكن..
تنفست بتوتر وهي تهمس لنفسها: "أجل العيب بتلك ال (لكن).."
ابتلعت ريقها وهي تتذكر ذلك الرجل بنظراته المظلمة المرعبة وابتسامته الباردة كحال كل ملامحه.. لقد تمنت لثوان أن تنشق الأرض وتبتلعها.. فحتى نظرات الشياطين ستكون أرحم من تلك النظرات الأشبه بالسحر.. فرغم غرابتها والرعب الذي بثته عيناه المركزتان عليها بها إلا أنها لم تكن قادرة على الإشاحة بنظرها بعيدا عنه.. وعندما امتلكت القدرة أخيرا على الاعتذار له عن تقبل العمل والمغادرة دون رجعة.. فاجأها بالعرض المالي الذي منحه لها.. فقد عرض عليها سيد الظلام ما يوازي ضعفي مرتبها القديم ببدلات وإجازات.. ووعدها بأن يزداد مرتبها سنويًا بنسبة معينة وأطلعها على العقد الذي ستوقعه والذي كانت كافة بنوده بمصلحتها.. عندها ترددت وفضلت التروي باتخاذ قرارها حتى لا تندم فيما بعد.. وها هي تجلس منذ ساعات دون أن تجد أي حل غير أنها بالفعل ستندم لو رفضت عرض سيد الظلام.. لكن تبقى تلك ال (لكن) تربك أفكارها.. وترعبها..
أسندت ظهرها على الفراش وهي تقضم أظافرها بتوتر وتفكر.. أن لو أحدًا بمكانها كان سيوافق فورًا دون تردد وخاصة بحالتها.. بعد أن فقدت عملها الذي كان بالكاد يغطي التزاماتها ويمكنها من تناول وجبتين خلال الشهر.. فهي توفر وجبة العشاء وتكتفي بكوب حليب حتى توفر بعض المال.. تنهدت وهي تفكر أنها لا تملك حلا آخر غير الموافقة.. لكنها لا تعلم كيف ستتغلب على هذا الخوف بداخلها.. كانت تشعر أن شيئًا سيئًا سيحدث بسبب هذا العمل..
نهضت عندها تذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا وبعد فترة وقفت وهي تهمس: "لا.. أنا لن أذهب.. سأتصل وأعتذر له أو.. ودون اتصال حتى.. سأخبر لولا لتخبره وأبحث عن عمل غيره"
ابتلعت ريقها وعقلها يعاود سرد الحقائق عليها.. فرفعت رأسها للسقف وهي تقول: "لا أستطيع.. فما الذي يضمن لي العثور على عمل جيد بمؤهلي المتوسط.. كما أنه بالتأكيد لن يجني لي نفس المبلغ الذي كنت أتلقاه من قبل.. سيكون علي البدأ من الصفر مجددًا"
تنفست بحدة وألقت نفسها على الفراش والتفتت تنظر لصورة والدتها وهي تهمس: "ماذا أفعل أمي.. هل أوافق؟"
عادت تنظر للسقف مجددا ثم أغمضت عينيها وهي تهمس: "لكن ماذا عن سيد الظلام خاصتي.. كيف سأتعامل معه؟"
وما هي إلا ثوان كانت قد غطت بثبات عميق من التعب..
************
-:"لا أدري كيف واتتك هذه الفكرة؟!"
أفاق من أفكاره على جملة بدر الجالس أمامه فابتسم ورد: "لا داعي للشكر يا صاحب الدراسات والشهادات!"
رفع بدر رأسه عن الهاتف وقال: "أنا لم أشكرك ولا أنوي فعلها لا تقلق"
ابتسم بخبث وهو يغمز له ويكمل: "لقد نلت جائزتك بالفعل"
نظر له يزيد بحدة ورد: "ماذا تعني؟!"
ضحك بدر بخفوت وقال: "أنت تعرف ما أعنيه"
عاود النظر لهاتفه لكنه تلقى وسادة اصطدمت بوجهه بقوة.. فرفع عينيه ليزيد الذي قال بعصبية: "لا شأن لك بأمر ليان بدر.. فهي لا تشبه تلك الفتاة الخبيثة!!"
ارتفع حاجباه بدهشة وهو يرى التحفز البادي من حالة جسده.. إلا أنه لم يعقب ورفع يديه علامة استسلام.. فنهض يزيد واتجه لغرفته.. وما أن غادر غرفة الجلوس ابتسم بدر وهو يهمس: "قريبا سأعرف كل شيء.. فهو لن يطيل إخفاء الأمر عني"
عاود التركيز على صفحة تلك الفتاة على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك.. كانت كل منشوراتها عن الثياب والأغاني الكورية.. بينما كانت تضع صورة لها معدلة بأحد التأثيرات الخاصة بتطبيقات التصوير.. فكر أن من يرى محتوى منشوراتها يتخيل أنها مجرد فتاة سخيفة وتافهة.. لكن مما رآه منها أنها فتاة ذكية ولا تستسلم بسهولة.. واستغنائها عن العمل ما هو إلا استراحة قصيرة لتعد ما ستفعله به.. ابتسم بسخرية وهو يهمس لنفسه "سيكون هذا ممتعا!"
بقي لفترة يبحث في المنشورات عله يجد ضالته لكن بعد مرور ما يقارب الساعتين ألقى الهاتف بجواره وهو يقول بحنق: "لن أعثر على اسمها الحقيقي أبدًا.."
صمت قليلاً ليفكر ثم ضحك بخبث وهو يكمل "يا لي من أحمق لابد أن اسمها الحقيقي بعقد عملها بهذا المحل.."
أصدر هاتفه صوت رنين قصير فأمسكه وفتحه.. وجد إشعارًا من صفحتها وما أن دخل وجد أنها أغنية.. نظر للرموز التعبيرية التي تضعها وارتفع حاجباه بدهشة فقد كانت تضع وجهًا لشيطان يبتسم.. ازداد فضوله ففتح المقطع وما هي إلا ثوان وانعقد حاجباه وهو يقول "ما هذه اللغة.."
****
قدمت له وفاء كوب الماء ليتناول دواء الضغط بينما تبتسم وتقول "أخبرتك أنها تحبك وتغار عليك مني لا أكثر.."
أعاد الكوب لها بينما يقول "سلمت يداك عزيزتي.."
ابتسم بعدها وهو يتنهد براحة مكملاً "لقد أراحني حديثي معها.. فما أن دخلت صباحًا بهذا الشكل ظننت أنه لا فائدة.. لكن بعد كلماتها أظن أن الأمور ستتحسن"
جلست على الفراش أمامه وردت "لولا طيبة مثلك تمامًا وسرعان ما ستعتاد علي وعلى الجميع.."
صمتت قليلا ثم سألته "أنت لم تخبرني ما رأيك باقتراحي للآن صالح؟.."
تنفس بعمق ورد "اسمعي عزيزتي لا مانع عندي بالدخول كشريك لكني سأدفع ثلث التكاليف.."
كادت تتحدث لكنه قاطعها "لا تحاولي وفاء.. يشهد الله أني لازلت لا استسيغ الأمر.. لكني وافقت لأجلك ولأجل لولا.."
تنهدت وقد فهمت أنه لا فائدة من المحاولة.. لذا قالت "حسنًا كما تريد.. بدر أخبرني أنه سينهي كل الأوراق ويخبرنا لنجتمع ونتفق.."
أومأ لها ونظر لها قليلا قبل أن يقول "أتمنى أن يرتاح قلبك الآن وفاء وتتوقفي عن لوم نفسك.."
أطرقت وردت بندم "لن أتوقف أبدًا.."
كان صوتها مثقلاً ليس بالدموع وحسب بل بالمشاعر المتئلمة.. ربت على ساقها وأراد أن يحاول التخفيف عنها قليلاً.. لكنها مسحت عيناها ونهضت تقول "سأحضر العشاء لنا عزيزي.. انتظرني.."
ثم تحركت سريعًا وغادرت الغرفة بينما هو بقي ينظر بأثرها ثم تنهد وسرحت عيناه بالفراغ وهو يهمس "ليت لولا تمنح نفسها فرصة لتعرفك على حقيقتك وفاء.."
**********
كانت منسجمة تمامًا مع الأغنية.. فرغم أنها قديمة إلا أنها تحبها للغاية.. ولا تعلم لم شعرت أنها تتحدث عنها.. رغم أن قصة الفتاة بالأغنية أنها فتاة قاسية كالشياطين وكلما حاول حبيبها التقرب منها تبعده.. وقد كان هذا العكس تمامًا مما أصابها.. كادت تنغمس بالذكريات التي لا تجلب لها سوى الألم لكنها هزت رأسها بشدة.. وعاودت التفكير بشأن ما ستفعله.. فكرت قليلا بينما تطرق بيدها على الفراش بجوارها ثم همست: "علي إبعاد أبي عن البيت بأي شكل فلا يجب أن يكون شاهدًا على أيٍ من هذا.. حتى أتمكن من إقناعه.."
تنفست بعمق وأسندت ذراعيها على ركبتيها وهي تكمل: "لكن لا يمكنني فعل هذا الآن.. فيجب أن يتم هذا الاتفاق أولًا أيًا كان الثمن.."
ابتسمت بخبث وهي تفكر أنها ستحصل على كل شيء.. كل شيء تملكه تلك المرأة سيكون لها هي وبعدها تكونان متعادلتان..
*********
في اليوم التالي..
كان بدر يجلس بغرفة مكتبه يراجع إحدى القضايا كان يفكر بالإسراع للمغادرة فلديه ما يشغله عندما وجد طرقا على الباب.. وما أن أذن للطارق وجد سهير تدخل قائلة: "سيد بدر.. الآنسة سالي بالخارج وتصر على مقابلتك بأمر يتعلق بالعمل"
ألقى بدر القلم أمامه بضجر.. فبعد أن صدتها سهير عدة مرات توقفت عن الاتصال به فظن أنها ملت منه وحمد الله على ذلك.. فحتى إن كانت فتاة جميلة وتعجبه بعض الشيء لكن إعجابه بشكلها لا يوازي كرهه للملاحقة من قبل أي أحد.. فكر بالاعتذار لها مجددا لكنه فكر أن يقابلها ويعاملها ببرود علها تتوقف وتتراجع عما بباله.. أشار لسهير عندها أن تدخلها فأومأت له وخرجت.. وما هي إلا ثوان وجدها تدخل وهي ترسم الجدية على وجهها وتتحدث برسمية: "مرحبا بدر"
رد بهدوء: "أهلا سالي.. تفضلي"
جلست بالفعل وفتحت حقيبتها وهي تقول "لنبدأ بالعمل فورا"
نظر لها باستغراب بينما يسألها "أي عمل؟!"
نظرت له ووضعت يدها على فمها مدعية الصدمة وقالت وهي تشهق: "هل نسى أبي أن يخبرك؟!"
ضاقت عينيه وهو يتفحصها ثم ابتسم واتكأ على المكتب ليقترب منها وهو يرد: "على ما يبدو"
أبعدت يدها وابتسمت بينما تقول: "أرادني أبي أن أبدأ العمل فورا.. لذا طلب مني أن أتولى متابعة عمله معك بشأن تلك القضية التي رفعها على شريكه وعقود الموظفين"
علم بدر ما حدث فورا فعزام لا يرفض شيئا لابنته المدللة.. وعندها ارتاح بجلسته وهو يهمس لنفسه أنت من طلبت هذا.. ثم قال بهدوء وابتسامة مخيفة "أنرت مكتب بدر القديري حلوتي!"
**********
فتحت أزهار الباب أخيرًا فدخلت لولا وهي تقول بانزعاج "ولم العجلة خالتي كان يمكن أن تنتظري ساعتين لتفتحي الباب.."
تشدقت أزهار بينما تغلق الباب وترد بحدة "كنت نائمة يا عيون خالتك.."
تحركت لولا تجلس على الأريكة وهي تلمح الانزعاج البادي بصوتها فهي بالتأكيد غاضبة منها لأنها لم تسمح لها بزيارتها بالبيت ولم تدعوها قبلها على الزفاف.. لكنها تجاهلت كل هذا وجلست بأريحية وهي تعلم أنها ستهدأ ما أن تسمعها.. نظرت لها وابتسمت بهدوء وهي تقول "ألا تريدين سماع آخر الأخبار.."
تشدقت مجددًا بينما تجلس بجوارها وهي ترد "هذا ما أناله منك يا ابنة عيشة.. أخبار وحسب.."
رفعت يدها بالكيس القماشي الذي كانت تحمله وقالت "أحضرت لك شيئًا آخر غير الأخبار.."
ناولتها الكيس ففتحته سريعا وشهقت بعنف وهي ترى علبة الحلويات المزينة بشريط لامع.. ابتلعت ريقها وهي تلتفت لها وتسألها "هل هي من هذا المحل الشهير؟.. ذلك الذي مررنا به عدة مرات.."
أومأت لها بابتسامة وما هي إلا ثانية وجدتها تتصارع مع الشريط والعلبة لتفتحها وبالطبع لم يطل الأمر وكانت العلبة فُتحت.. أو مُزِقت بمعنى أصح..
ارتاحت بجلستها وهي تراقبها بينما تلتقط إحدى القطع وتتناولها بشراهة.. ضحكت عندها بخفوت وقالت "هل تذكرين عندما كنت صغيرة بعد وفاة والدتي عندما كنت تتناولين أنت وطارق الحلوى وعندما طلبت منك دفعتيني بعيدًا؟.."
التفتت تنظر لها بصدمة وتوقفت عن مضغ طعامها بينما ابتسامة لولا تتسع وهي تكمل "أخبرتيني أن أتوقف عن النظر لطعامك بهذه الطريقة حتى لا أحسدك.. هل تذكرين هذا؟"
ابتلعت ما بفمها بصعوبة ثم أبعدت العلبة وهي تبتسم بارتباك وترد "كان هذا من الماضي لولا.. الآن أخبريني علام تنتوين.."
نظرت لها قليلاً ثم تنفست بعمق وقالت "أريد منك خدمة خالتي.."
تجعد جبينها وهي تردد "خدمة!!"
أومأت لها لولا وهي تقول "أريدك أن تخبري خالي أن والدي تزوج"
ازداد استغرابها فسألتها "ولم قد أخبره وهو يعرف بالفعل؟"
ابتسمت لولا واقتربت منها وقالت "هو يعرف أنه تزوج.. لكنه لا يعرف أننا انتقلنا لنعيش مع زوجته.." صمتت قليلا ثم أكملت "وابنها.."
اتسعت عينا خالتها عندها وأدركت ما تعنيه تمامًا فابتسمت بنفس الطريقة وهي توميء لها..
************
وقفت ليان أمام الباب الكبير بتردد.. فهي بالنهاية انصاعت لكلمة العقل الذي بقي يعيد عليها أنها بحاجة لهذا العمل أكثر من أي شيء وأنها لن تجد فرصة أفضل.. تنفست بعمق وتحركت للداخل وهي تحاول عدم الالتفات لأي شيء.. ولكنها لاحظت أن لا أحد نظر لها أو حتى التفت.. ورغم استغرابها إلا أنها لم تلتفت.. وما أن اقتربت من الدرج المؤدي لمكتبه توقفت وهي تراه يقف أسفله مع أحد الرجال ويملي عليه الأوامر.. تجمدت بمكانها وذات الصوت بداخلها يتوسلها أن تتراجع وتتناسى كل ما حدث.. ذكرها بالصوت الذي تردد بنومها قائلا بصدى صوت مرهب ومفزع: "عاقبة قرارك الصائب سيكون الكثير من الألم!!"
ابتلعت ريقها وأغمضت عينيها وهي تحاول تجاهل الأمر لكنها لم تستطع.. فدقات قلبها عادت تتسارع كما حدث عندما استيقظت مفزوعة بالصباح بسبب ذلك الكابوس!
فتحت عينيها والصوت بداخلها يصرخ أن تتراجع وقد كادت تستمع له.. لكنه توقف وخفت وتناسته هي تماما ما أن رأت العينين المظلمتين تحدقان بها.. وقبل أن تتمكن من التفكير وجدته يشير لها أن تقترب.. وتلقائيا ودون تفكير تحركت وهي تلقي كل شيء خلف ظهرها.. ملجمة قلبها بألف قيد حتى لا يتهاون رغم أنها متأكدة أن العكس سيحدث.
***********
خرجت رحمة من مكتب والدها وسارت بعصبية لم تستطع إخفائها بسبب حديثها مع والدها الذي كالعادة لم تنل منه أي نتيجة.. فلا زال مصرًا أنها مخطئة بحق شقيقتها وأنها هي المتسببة بالشجار الذي حدث بينهما بالأمس.. لو بإمكانها فهم سر انحيازه لها بهذه الطريقة كانت سترتاح لكنها أبدًا لم تقدر على استنباط السبب منه أو من غيره.. كانت تخرج من الممر المؤدي إلى المكتب ولأنها كانت تسير دون أي تركيز اصطدمت برجلٍ كان يسير عكس طريقها.. كادت تسقط لكنه أمسكها وأسندها حتى تستعيد توازنها.. تنفست بعمق محاولة التماسك لكن هذا كان صعبًا فكل ما تمنته السقوط أرضًا والبكاء.
-:"هل أنتِ بخير آنستي؟!"
فتحت عينيها على اتساعهما ونظرت للواقف أمامها بعدم تصديق.. كان ينظر لها ببعض القلق لكنه ابتسم لها قائلا: "تبدين بخير.. لكن أود سماعها منك لأتأكد"
ابتلعت ريقها بتوتر وأومأت بصمت وابتعدت عن طريقه.. فأومأ لها بأدب ثم تحرك ناحية مكتب والدها.. وما أن تأكدت من ابتعاده التفتت تنظر بأثره بصدمة وصدر يكاد ينفجر من فرط الطرق عليه بقلبها.. كان هو.. ما كانت لتخطئه أبدا.. هو مازن سلطان!
****************

رهان بلا رابح - الجزء الأول من سلسلة غرباء جمعتهم الأقدار - ريم الحسينيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن