كان الطفل حينها يرتدي ثوباً يصب إلى منتصف ساقه يحمل بيده سراجاً قديماً متآكلاً فيه قبس من نار يطوف به ساحة البيت الواسعة كعادته كل ليلة قبل النوم؛ ليتحقق مما إذا كانت أبواب و نوافذ البيت مغلقة ومما إذا كانت القناديل المعلقة على الحيطان مطفأة، وبينما لا يزال في جولته التفقدية تلك إذ سمع صوتاً عند الباب .
كان الوقت متأخراً جداً من تلك الليلة الباردة ولك يتعود الطفل طوال سنواته العشر الماضية على الزيارات المفاجئة ...لذلك فإنه وضع السراج جانباً، انحنى ليلتقط فردة حذائه بيده ووقف في مكانه متخذاً وضعية مقاتل، ثم زمجر قلقاً وهو ينظر نحو الباب كشبل أسد صغير التقطت أذناه حفيف خطوات غريبة تقترب من عرين الاسد:
- لص!!* * *
رغم الظلام الحالك إلا أن ضوء القمر الناعم ساعده على رؤية ملامح ذلك اللص و هو يقفز من فوق حائط البيت: كان رجلاً طويل القامة نحيل يرتدي ثياباً سوداء ويلف حول عنقه شالاً صوفياً، يمتلك ملامح وجه حادة كما لو أنه استعمالها من نسر
:أنف معقوف،عينان قاسيتان،حاجبان مرسومان بدقة وشارب ثقيل متصل بلحية خفيفة.حدق الطفل فيه بحذر لأكثر من خمس دقائق،مثل ملاكم في حلبة قتال يتحين قرع الجرس للهجوم على خصمه، ابتسم اللص مرتبكاً:
- كيف حالك أيها الصغير!؟ثم ومن دون مقدمات هجم عليه مستعيناً بفردة حذائه،فلم يملك ذلك اللص حينها إلا أن يهرب من أمامه .... كادت تلك المطاردة أن تمتد طويلاً في ساحة البيت الداخلية لولا أن اعترض أحدهم طريق الطفل:
- ماذا تفعل - صاحت جومانا في وجهه - توقف إنه أبوك!!!جلست على الأرض لفت ذراعيها حول ابنها بحنو وجعلت تحاول إقناعه بأن ذلك الرجل هو والده وبأنه ليس لصاًٌ كما يظن، وحين اقتنع بعد فترة طويلة من الجدال لو يشعر بالخجل ولم يعتذر عن سوء تصرفه، كل ما قاله هو: لم أكن أعرف.
كانت جومانا سلفاً قد حضرت كلمات العتاب التي ستقولها أمام زوجها عندنا يعود من غيابه ولكن عندما جاء، مات الكلام في صدرها ذلك أن كل معارك المرأة دائماً ما تنتهي بانتصارات الحب
تمنت لو أنها في تلك اللحظة تستطيع أن تركض نحوه وتعانقه بقوة لتخبره بالعناق فقط كم هي مشتاقة إليه وكم صلّت في غيابه حتى يعود إليها بخير، وكم كانت تطيل النظر في القمر كل يوم لربما كان زوجها ينظر للقمر بتلك اللحظة فيعانق طرفه في السماء البعيدة طرفها، وكم ثرثرت عنه في ليالي الحنين مع الشُهب والنيازك والأفلاك المسيرة، وكيف
أنها في كل مرة كانت تخبر النجمات - نجمة نجمة - بأنه أشد الأشياء عشقاً وقرباً و حباً إلى فؤادها وروحها وقلبها.لم يمضي الكثير من الوقت حتى طرق شخص غريب عليهم الباب قاطعاً على جومانا أحلامها ... التفت بحر نحو مصدر الصوت وهمس بعد أن اتسعت عيناه من القلق وظهرت على جبينه خطوط تجاعيد خفيفة تشي بخوفه :
- يبدو أنه صديقي أيوب.
نهضت جومانا منحوار ابنها لتدخل إحدى الغرف وهي تقول :
- هل أعد لكما شيئاً للأكل؟!
- لا - قال بحر - فأيوب لن يمكث هنا طويلاً.
سار الطفل خلف أمه يتبعها فأمره والده بالبقاء
- ابقى لتلقي التحية على صديقي أيها الصغير.
أرسل نظرة عاصية لوالده دون أن يتكلم ثم أكمل سيره خلف أمه:
- اسمع الكلام - قالت جومانا وهي توقف الطفل في مكانه وتنظر إليه بحدة - اسمع كلام أبوك.
- ولكنني لا أعرف من يكون حتى أسمع كلامه يا أمي!!
- دعيه يا جومانا - همس بحر - الصغير معه حق فهو لا يعرفني .
- بل سيسمع كلامك رغماً عنه - ثم أرسلت نحو ابنها نظرة معاتبة وأردفت بحدة: ستبقى هنا لتلقي التحية على صديق والدك!!
- لأجلكِ فقط - همس - لأجلك سأفعل !!حين فتح بحر الباب ظهر له رجل ضخم مثل غول ما أن رآه الطفل حتى اعتقد في نفسه بأن صديق والده ذاك يملك طولاً وعرضاً لا ينبغي لمخلوق بشري أن يمتلكهما: كان أسود اللون حليق الذقن والشارب له شعر طويل يبقيه على هيئة صغائر ويشده إلى الخلف، وقد بدأ شكل مظهره العام يشبه شكل محارب كان في طريقه للذهاب نحو معركة حيث يعلق على ظهره قوساً يصل طوله لستة أقدام وكنانة يضع بداخلها ثلاثة عشر سهماً، بالإضافة لسيف ضخم يحمله على خاصرته .
دخل أيوب البيت ثائراً ولكنه ما أن لاحظ وجود الطفل أمامه حتى هدأت قليلاً وابتسم كاشفاً عن أسنان ناصعة البياض بينها سن واحدة ذهبية، تساءل باندهاش بالغ:
- هل هو هذا ابنك؟!
- نعم - هز بحر رأسه - هذا ابني
مد أيوب يده الكبيرة في إيماءة مصافحة فتقدم الطفل نحو اليد الممدودة في الهواء وحين صافحها شعر بأن يده سقطت في بئر عميقة مظلمة.. وعندما انتهت المصافحة وعاد لأمه كان يتفحص يده في الطريق حتى يتأكد من أنها ما زالت في مكانها، وأنها لم تسقط في تلك البئر العميقة المظلمة.
ما أن دخل الطفل للغرفة التي تجلس فيها والدته وأصبح الجو في الخارج آمناً بعض الشئ لتبادل الكلام، حتى التفت بحر نحو صديقه أيوب وسأله باندفاع:
- مالذي جاء بك الى هنا؟!
- أنت من يجب عليه الإجابة عن هذا السؤال يا بحر - أجاب أيوب بحنق ثم أضاف بعد أن أخفق صوته قليلاً: لقد كسرت ميثاق الدم خاصتك بزيارتك المتهورة هذه، هل تعلم مالذي قد يفعله بك ناب الفيل ولعائلتك لو اكتشف الأمر ؟!
بوجه يملؤه القهر رد بحر:
- لقد مضت أكثر من عشرة أعوام لم أرى فيها زوجتي ولا أبني، ولم يعد في مقدوري احتمال المزيد!!
– أنت من أوقعت نفسك في هذه الورطة منذ البداية – قال بلهجة مؤنبة – لقد نصحتك بأن لا تتزوج هذه المرأة حتى لا تورطها معك في مشكلاتك ولكنك لا تصغي لأحد!!
– هل عرضت نفسك للخطر ولحقتني إلى هنا حتى تعاتبني؟!
– لا بل جئت لأنقذك وأنقذ عائلتك من الدمار الذي قد يلحق بهم بسببك – ثم أضاف: أنت يجب أن تغادر هذا البيت بسرعة!
– لن أذهب إلى أي مكان أنا سأبقى هنا
– كف عن عناد الأطفال هذا يا بحر – قال بصوت خرج من تحت أسنانه، ثم أردف متسائلا: هل ستكون سعيداً عندما يقوم ناب الفيل بقتل زوجتك وابنك بعد أن يكتشف أمر زيارتك هذه!!في الغرفة المجاورة كانت جومانا أجل قُرب النافذة تحاول استراق السمع لتلك المحادثة التي تدور بين زوجها وصديقه أيوب، لكنا لم تتمكن من فهم كلمة واحدة وذلك بسبب أصواتهما التي ترتفع تارة وتنخفض تارة أخرى...
ولو أنها فقط واصلت استراقها السمع لفترة أطول لربما كان هناك احتمالٌ كبيرٌ في أن تفهم كل شئ...
غير أن ابنها الذي بدأ متضايقاً من وجود أغراب في البيت قرر فجأة أن يندفع إلى خارج الغرفة ويضع حداًّ لوجودهما هناك من دون حتى أن يعطي لوالدته فرصة إيقافه:يتبع....
فوت وكومنت لتكملة الفصل الثالث
أنت تقرأ
ابابيل
Fantasy#بقلم احمد آل حمدان وفي يوم رحل زوجها، فقالت: وأنا ماذا أفعل عندما أشتاق إليك؟!، لم يُجبها زوجها "بحر" عن سؤالها، و اتجه نحو الباب مغادرًا، أدار قبضة الباب، و أجال النظر في دروب قرية "الجساسة" المتشابكة، ثم قال قبل أن ينصرف: غني لي يا جومانا، غني و...