Part 18

5.9K 157 0
                                    


   رغم أن القبور كانت كثيرة ومتشابهة تقريبا في الطول والعرض إلا أنه استطاع تحديد موقع قبر والدته بدقة و من غير جهد مهتديا فقط برائحة الياسمين التي كانت لا تزال تنبعث من قبرها... جلس هناك وجعل ينتظرها وكله يقين بأن الرب سوف يجيب دعاءه ويعيدها إليه...

  سألت البومة البيضاء:
مالذي جاء بك الى المقبرة في مثل هذا الوقت من الليل؟!
– جئت من أجل أمي ستخرج من هنا بعد قليل...
– لكن الاموات لا يستيقظون

لم يناقشها وظل يحدق بتركيز نحو القبر فقالت البومة البيضاء:
اخبرني ما الذي يجعلك تعتقد أن أمك ستخرج من قبرها
– لقد كانت تقول لي أن الرب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه
– وأنت دعوتها أن يعيدها إلى الحياة لهذا جئت إلى هنا ، أليس كذلك؟!
أومأ لها برأسه، فسألت:
هل تسمح لي بالبقاء معك؟!
– ولماذا تريدين البقاء معي؟!
– لأنه لم يسبق لي من قبل أن رأيت ميتا يخرج من قبره
– لا بأس– تمتم – ابقي

وعندما تأخر الوقت كثيرا وقاربت الشمس على الشروق ولم تعد جومانا إلى الحياة، قالت البومة البيضاء بعد أن بدا أنها ملت من الانتظار:
يجب أن تعود إلى البيت أيها الولد!!

في الحقيقة نعم هو يجب أن يعود إلى البيت قبل أن تستيقظ ايار من نومها وتكتشف غيابه نه ضالطفل الذي بدا الحزن والإرهاق يظهران عليه بوضوح:
لابد أني ارتكبت خطأ ما
– ماذا تقصد؟!
– أمي لا تكذب لقد كانت تؤكد بأنه يُجيب أي دعوة – ثم اردف:
لقد طلبت منه أن يعيدها للحياة ولكنه لم يفعل ، لابد أني ارتكبت خطأ ما!!

***

  وجد أيار في انتظاره عندما عاد إلى البيت تقف عند عتبة الباب وتمسك بيدها عكازاً خشبياً.
كيف استطعت الخروج وباب غرفتك مقفل ؟!
لم بعرف ما يجب فقال: – قفزت من النافذة
– مستحيل انت اكبر حجما من إطار نافذة غرفتك!
ولأنه يعلم بأنها لن تصدقه لو أخبرها بالحقيقة فإنه صمت..
لن تتكلم أليس كذلك؟! – قالت بنفاد صبر
اخبرتك لقد خرجت من نافذة الغرفة
وتكذب علي مرة أخرى؟!
 
   قالت ذلك ثم بدأت تضربه بالعكاز بقوة، كما لو أنه جرذ ألقت عليه القبض في مطبخها متلبساً وهو يسرق قطعة من الجبن، أما هو فإنه لم يبالي التي بالضربات التي تصبها أيار عليه فقد كان يفكر في شئ آخر: في السبب الذي من أجله لم يجاب دعائه!!
   تمدد لاحقا على أرضية الغرفة غير مبالٍ بالجروح العديدة التي أحدثتها أيار على وجهه واجزاء متفرقة من جسده... كان شاردا في التفكير بشأن المسألة ذاتها... ومع طول التفكير وكثرة الإحتمالات العديدة التي توصل إليها فإنه بالأخير لم يقتنع إلا بإجابة واحدة فقط:
لأن الرب لم يسمعني أصلا – قال في نفسه، ثم أضاف: فقد دعوته بقلبي وهو في السماء البعيدة كان يحب علي أن أرفع صوتي عاليا حتى يصل دعائي إليه!!

   إنه يتذكر الآن قصة النملة جرسا عندما تكلمت بصوتها المنخفض تأمر بقية أسراب النمل بسرعة الإختباء حتى لا يحطمهم النبي سليمان عليه السلام وجنوده وهم لا يشعرون، يذكر تحديدا أنه سأل أمه في ذلك اليوم عن الكيفية التي استطاع بها النبي سماع صوت النملة الصغيرة، فأجابته حينها بأن الرياح هي من قامت بإيصال صوت النملة.
    لهذا تسلل سعيدا لسطح البيت تسلق الحائط بسرعة قرد، ثبت قدميه على الحافة رفع رأسه نحو السماء ثم ضم يديه عن فمه مستخدما إياهما كمكبر صوت وجعل يدعو بكل صوته سامحت للرياح بأن تحمل دعواته وتنقلها للرب:
أعد لي أمي ايها الرب، أعدها لقيد الحياة!!
 
   مستخدما قوته الخاصة استطاع الخروج من البيت رغم الاحتياطات العديدة التي وضعتها الساحرة أيار لمنعه من فعل ذلك... كان يعدو نحو المقبرة بسرعة فائقة... إنه متيقن بأن الرب سيجيب دعوته هذه المرة وبأن والدته سوف تخرج من قبرها وحينها سوف ينفض الغبار والأتربة من عليها، يحتضنها بقوة، ويخبرها بأنه موافق على  الذهاب وحده للجد نوفل ليتلقى منه العلوم والمعرفة، مثل ما كانت تريد منه أن يفعل في السابق ثم وبينما هو يركض نحو المقبرة، إذ اقتربت منه البومة البيضاء حتى أصبحت تحلق محاذاة رأسه:
لقد عدت مجددا أبها الولد إلى أين أنت ذاهب هذه المرة
– للقاء امي
– ألم تأخذ درساً من البارحة ؟!
– لقد عرفت الخطأ – قال بثقة.
اي خطأ ؟!
سأشرح لكِ هناك
  وحين وصل لم يجد والدته في انتظاره مثل ما كان يتوقع فقرر أن يجلس بالقرب من قبرها لعلها تعود في أي لحظة... انتظر هذه المرة مدة أطول من البارحة، وعندها شعر بأن شيئا لن يحدث فإنه نهض واقفاً، قال وهو ينفض الغبار عن ثيابه:
يبدو أن السماء لا تجيب
 
   عادت إليه حالة الحزن مرة أخرى سار نحو البيت بخطوات متثاقلة، كان باله مشغولا في التفكير بالسبب الذي من أجله لم يُجاب دعاءه هذه المرة.. لم تشأ البومة البيضاء أن تتركه وهو في هذه الحالة من الحزن فحركت جناحيها ولحقت به:
سوف نلتقي بها في النعيم
– لم اعد واثقا – قال – لم أعد واثقا بأن هناك نعيم أصلا
– لماذا تقول هذا؟!
ارتجفت ذقنه وهو يقول بصوت أقرب للبكاء:
دعيني وشأني – ثم راح يركض مبتعدا .

  وجد أيار هذه المرة تنتظره أيضا عند عتبة الباب تحرك فكها مثل الناقة تجتر طعاما يبدو أنها كانت تخبئ له بصقة في فمها منذ اللحظة التي اكتشفت فيها غيابه عن البيت، وعندنا رأته قادما الى البيت حكت جدار حلقها بصوت يشبه خوار بقرة حتى تضمن أنها سوف تجمع كل أوساخ فمها في قذيفتها القادمة، وعندما اقترب منها وأصبح في مجال رميها بصقت عليه في وجهه وبدأت تكبل له الصرب بيديها وقدميها... أما هو فقد جعل يتلقى تلك اللكمات والرفسات وهو يردد في نفسه:
لو كان في السماء لأجاب دعائي...

  بعد نصف ساعة توقفت أيار عن ضربه، ولكن ليس اشفاقا عليه بل لأنها لم تعد ترى مكانا جديدا تستطيع تسديد ضرباتها إليه، بصقت عليه المرة الثانية وكأنها بذلك تضع نقطة نهاية سطر ثم غادرت....
 

  أما هو فنهض من مكانه وسار إلى غرفته بوجه يسيل منه الدم، جلس القُرفصاء في إحدى زوايا غرفته صامتاً يُفكر في أجوبة تبرر عدم إجابة الرب في دُعائه، ثم توصل في النهاية إلى حل اخير:
ليس هناك شئ اسمه الرب – تمتم بينه وبين نفسه.

ابابيل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن