Part 5

13.4K 276 10
                                    

     في ذلك الزمن البعيد عاشت مملكة ابابيل في عصور لا نهائية من الانحطاط والظلام والجهل، حيث كان من النادر جدا أن يهتم أحد من أفراد الشعب بتحصيل العلوم والمعرفة، وربما العلم الوحيد الذي يسعى الجميع للحصول عليه هو تعمل الفنون القتالية كالرماية والمبارزة بالسيف وركوب الخيل... وكانت تجارة الجواري والعبيد وأنواع التجارات القليلة الأخرى كبيع المواشي والجلود والصوف والأواني الخزفية البدائية ذات الصناعات اليدوية هي الشغل الشاغل لهم...
 
     ورغم ذلك إلا أن جومانا حرصت على تمكين ابنها من تعلم القراءة و الكتابة، ولم تكتفِ عند ذلك القدر فحسب، بل أرادت أن تقوم بإرساله إلى الجد نوفل وهو رجل طاعن في السن يُشاع بأنه يعتنق إحدى الديانات السماوية القديمة وهو الشخص الوحيد المتعلم في قرية الجساسة.. غير أن الطفل كان له رأي آخر في هذه المسألة:
لقم قمتي بتعليمي القراءة والكتابة وهذا يكفي!!
فقالت جومانا وهي تمسك أرنبة أنفه بلطافة:
– نعم لقد أصبحتَ تجيد القراءة والكتابة أيها الرائع، ولكن هناك الكثير من العلوم المهمة الأخرى، والتي سوف تتلقاها بشكل أفضل لو أنك ذهبت للجد نوفل...
     كان هناك شئ غريب وجذاب في طريقة حديث جومانا يجعل ابنها يحب النظر إليها وهي تتكلم معه، فهي طوال الوقت تحافظ على كيف ابتسامة لا يغادر وجهها، وتصب كل تركيز عينيها عليه فاجعله يشعر وهو يتحدث معها كما لو أنه أهم شئ في الدنيا... أكملت قائلة:
لن تبقى صغيراً طوال عمرك يا بني ستكبر يوماً ما وسوف تحتاج حينها لعقلك في هذه الحياة – ثم أضافت وهي تلكز بإصبعها رأسه وتقول بطريقة محببة: لن يصبح عقلك هذا مفيدا من غير أن تغذيه بمزيد من العلوم والمعرفة،اتفقنا؟!

–وإذا وافقت على الذهاب للحد نوفل فهل ستأتين معي؟!
–لقد أصبحت أكبر من أن تحتاج لمرافقة والدتك.
– لا أزال صغيرا فأنا في الرابعة عشر من عمري – ثم أضاف متسائلا: هل ستأتين معي عند الجد نوفل ام لا؟!
– ستذهب وحدك وسأظل في انتظارك هنا حتى تعود وتخبرني الأشياء التي تعلمتها هناك، اتفقنا؟
– لا لم نتفق – قال بعناد – لن أذهب إلى مكان لا تكونين فيه معي!!
– وإذا قلت لك من اجلي ؟!
– أنا أفعل اي شئ من أجلك ولكن ليس هذا الطلب ارجوكِ قال ذلك ثم صمت فجأة إذ سمع هسيس اقدام تتحرك عند عتبة باب البيت
– ماذا هناك؟! تسائلت أمه
– ابقي مكانكِ – أجاب وهو ينهض
   ثم أمسك فردة حذائه وذهب ليستطلع الامر وبعد قليل هتف:
– إنه بحر يا امي!!
                                    * * *
  ومثل عرائس الماريونيت والتي يتحكم بها شخص ما عبر خيوط دقيقة من خلف الستار، راح الحنين بخيوطه اللامرئية يحرك جومانا نحو زوجها...بدا وجهه المتعرق بفعل حرارة الشمس أكثر شحوبا من المرة الماضية عندما جاء لزيارتهما قبل أربع سنوات، وأسفل عينيه الحادتين ترتسم دائرتان بلون البنفسج تدلان على إرهاقه، ورغم ذلك الذبول إلا أن تلك العينين كانتا ولا تزالان نقطة ضعفها... قال بحر وهو ينظر نحو ابنه:
– لقد كبرت كثيرا!!
– لقد مضت اربع سنوات– قالت تعاتبه– بالطبع سيكبر
   اقترب منهما محاولا معانقتهما ولكن الابن وقف بالمرصاد:
– ابقى بعيدا لا تقترب منها!!.
    حاولت أن تذكره أمه باحترام والده، لكنه حدس ذلك فالتفت إليها قبل أن تتكلم:
– هذا ليس ابي لقد تركنا من زمن طويل ورحل عنا.
   لم يبرر بحر غيابه كل ما فعله هو ان قال مستسلما:
– حسنا سوف ابقى بعيدا – ثم أضاف: إن كان هذا ما يرضيك  صاح بحدة: مالذي جاء بك؟!.
– صاحت جومانا بانفعال: اصمت يا ولد
– جئت كي ارسمك – أجاب مبررا – وسأغادر في اليوم التالي اعدك .
– ابقى معنا يا بحر لا تغادر مجددا!
    نظر إليها وابتسم محاولا ان يخفي عنها آبار أحزانه الجوفية، هو لا يستطيع أن يكشف لها أسباب الغياب بالطبع لأنه يعلم جيدا فظاعة ما قد يحدث لها ولأبنه إن فعل ذلك قال بتماسك مزيف:
– لا أستطيع البقاء !!
     بنبرة صوت باكية قالت:
– كفاك غياباً!!!.
– لدي الكثير من التجارة التي يجب علي الاهتمام بها
    كان يجب عليه وهو يكذب أن يغمض عينيه حتى لا تقرأ زوجته الكذب فيهما، لقد فاته أن يتذكر أن الإناث يستطعن بغرائزهن قراءة لغات العيون وأن اكاذيب الذكور لا تنطلي عليهن أبداً، قالت:
– قل الحقيقة ربنا نستطيع مساعدتك!! تدخل ابنها معاتبا:
توقفي عن التثبت بيد تريد الرحيل .
      صمت بحر ولم يعلق بينما قرأت جومانا في عينيه تبريراً:
– عندما تعرفان الحقيقة، ستغفران لي كل شئ
   اخرج من تحت ثيابه رقعة من ورق البردي وحجر فحم أسود:
– قف إلى جوار والدتك ايها الصغير – ثم أضاف وهو ينظر لزوجته:
– ابتسمي لكي تصبح الرسمة أجمل
     مستخدما حجر الفحم جعل يخطط ابعاد الرسمة بشكل خافت وحين انتهى من رسم الخطوط الأولية راح يهتم بالتفاصيل الدقيقة للملامح وخربشات الشعر ثم ولكي يضفي مزيدا من الواقعية على رسمته فإنه رسم الظلال بكثير من الاهتمام، وعندما انتهى مسح بإصبعه الخطوط غير المرغوب فيها.... وفي حقيقة الأمر لم يكن بحر أصلا بحاجة لرؤية ابنه وزوجته حتى يقوم برسمهما، فهو يجيد الرسم مستعينا بقوة ذاكرته غير أنه كان يريد استغلال تلك الفرصة ليتأمل عائلته من غير أن يمنعه أحد من فعل ذلك....
     وعندما انتهى تقدم الى حيث كان يقف الابن بجوار أمه، مد رقعة ورق البردي إليه وراح يراقب ردة فعله من خلال تعابير وجهه، لم يتمكن الابن من إخفاء مدى انبهاره بروعة الرسمة فلفرط براعتها شعر بانه كان ينظر لولد وامرأة حقيقيين يسكنان داخل تلك الورقة... بدأ مبتسما في الرسمة رغم انه كان في الواقع يقف مقطب الحاجبين... واكتشف في تلك اللحظة فقط وهو يحدق في صورته أنه ورث عن والدته الكثير من تفاصيل وجهها الجميل والأمر الذي جعل ملامحه كانت ستبدو منطقية لو انها على فتاة أكثر من كونها على ذكر...
سأله:
–ما رأيك في الرسمه؟!
فأجاب بكبرياء ومن غير أن يعيدها لوالده:
– استطيع أن أرسم أفضل منها...
   ربت والده على شعره وقالت بحنو:
– أنا واثق من انك تستطيع .
   في تلك الليلة لم يحاول بحر الاقتراب من غرفة زوجته لأنه كان متأكدا من أن ابنه لن يسمح له بالدخول، لهذا فإنه لجأ لحيلة أشد مكرا:
– أخبر امك بانني أريد وسادة أضعها تحت رأسي أيها الصغير .
   تناهى ذلك الكلام لأذن جومانا التي كانت لم تخلد للنوم بعد وأدركت على الفور ما كان يرمي إليه زوجها من وراء ذلك الطلب، فقامت بتمرير وسادتها البيضاء الخاصة إلى ابنها وقالت:
– اعطي ابوك هذه الوسادة.
    احتضن بحر الوسادة العابقة برائحة زوجته الياسمينية ثم غط في نوم عميق، وبهذه الطريقة سوف يتمكن من استدعائها في أحلامه من غير أن تكون هناك قوة في العالم تستطيع منعه من فعل ما يريد .
                                   *  *  *
   في صباح اليوم التالي، خرج بحر من غرفته منتشيا، وكأن كل ما مارسه في أحلامه كان حقيقيا...
   كان الطفل حينها يجلس بجوار والدته يسلمك الرسمة بيد بينما يحاول باليد الأخرى أن يرسم واحدة أفضل منها لكي يقهر بها والده... اقترب بحر منه واستطاع أن يشاهد رسمه ابنه البدائية والتي تدعو للضحك أكثر أكثر من كونها تدعو لأي شئ آخر:
– لقد كنت محقا حين قلت بأنك تستطيع أن ترسم أفضل مني !!
    قال ذلك ثم خطف رقعة ورق البردي خاصته من يد ابنه طواها بعناية وخبأها في أحد جيوب ثيابه:
– منذ الآن وصاعدا عندما اشتاق اليكما سأنظر لهذه الرسمة
– وانا ماذا افعل عندما اشتاق اليك؟! – سألت
    لم يجبها واتجه نحو الباب ليغادر ولكنه توقف بعض الوقت، استدار إلى الخلف بتردد كما لو أنه كان يريد أن يفعل شيئا ليس واثقا من عواقب نتيجته، ثم فجأة وبعد صمت امتد للحظات صاح بكل صوته مفزعا بذلك الطيور التي كانت تستريح على حائط البيت:
احبك يا جومانا!!

يتبع.....
راح يكون يوم ثابت انزل فيه بارت أما الخميس او الجمعة

ابابيل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن