تنفّست الأشجار عبق الربيع، كذلك فعلت الطيور المستوطنة بعد شتاء طويل نجتْ منه بصعوبة بالغة، والآن هي ترحّب بالحياة من جديد متناسية مَن رُحّلوا عنها في شهور الموت القارسة.
حلّ هذا الربيع على الأحياء جميعهم ما عدا مَن كان منهم من بني البشر...
طيور المنازل ما تزال هامدة لم تمسسها شرارة الحياة بعد، أطفال صغار لم يتعرّفوا إلى عالمهم بعد وإذ بأجلهم يحين مبكراً، أصابهم الضرّ فذاقوا وأهلهم مرّ النصيب وشرّه.مسحت الحكيمةْ العجوز بيدها ذات العروق الخضراء البارزة على جسد الطفل الخالي من الحياة، تُبعدها وقد أسدلتْ جفنيه للمرة الأخيرة، لتسمح لنفسها أخيراً بأن ترثيه وتبكيه رفقة مَن سبقوه إلى دار أخرى؛ تتمنى فقط أن تكون أفضل لهم وأكثر أمناً وسلاماً في تعاملها مع روحهم الهشة البريئة.
تنهدت مرات طويلة متتالية قبل أن تلتفت حيث يقبع مقعد خشبي بسيط توضّعَ فوقه رجل محاطة هيأته بهالة من وقار خالص تليق به.
زفر الرجل يتساءل بألم بان في بحّة صوته: «أكان العاشر؟».
ارتجفت شفتا العجوز بينما تنفي: «بل إنه الثالث عشر».شيّع الرّجل الصغير الراقد في فراشه المزيّن بينما يستقيم من مجلسه بهوان، ثمّ خرج دون أن يضيف شيئاً.
-
كانت وجهته هي حجرة قريبة حيث تجمّع العديد من الأفراد المتشحين بحزنهم ووجومهم.
تقدّمهم الرجل بصمت نحو صندوق متوسط الحجم مستقرّه مكان مرتفع في صدر الحجرة.
استل من جيبه مخطوطة ملفوفة بعناية ليعقدها بواسطة أحد خواتمه؛ الأثمن وذو المرتبة الأرفع من بينهم جميعاً، ثمّ يأتمن رسالته في وجه الصندوق قبل أن يغلقه معلناً بذلك أنه اتخذ القرار: على هذه الرسالة أن تصل إلى وجهتها في أقرب وقت.
-
على أسوار بغداد قفزت إيمار من على ظهر جوادها حالك السواد، لتتقدم رفقته صوب الجنود المتمركزين في صفّ منظّم يؤدون مهمتهم بهمّة تحت الشمس الحارقة، بين جموع المسافرين الوافدين منهم والمغادرين مشت بوقار عزّزه مظهر خصلاتها السوداء السميكة المنسدلة على طول ظهرها الطويل الفسيح؛ أثناء ذلك لم تُزح كفّ يدها ولو للحظة عن رفيقها الحامل بصلابة وبغير تبرّم رسالة قومهما إلى أرض الرافدين.
«أدعى إيمار. أنا من سكان مملكة جارة. جئتكم سائلة وكلّي أمل أنّكم لن تردّوني خائبة». بثقة أفصحت الفتاة التي لم تتجاوز عقدها الثالث بعد، تناظر الجندي أمامها برزانة منتظرة بصبر لتعرف ما سيخرجه بشأنها.
«ما هي مملكتك؟»
بعد نقاش صامت دار بين الفرقة المسؤولة عن أمن الحدود استمر هنيهة من الزمن تكلّم أحدهم بصيغة سؤال إلى مَن ابتسمتْ تجيبه: «مملكة اديمار، ونحن شعب بسيط يحكمنا ملكنا العادل؛ الذي وما أن خرجت زمام مصيبتنا الراهنة عن سيطرته حتى قرر أن يطلب معونة الجوار الكريم، وما وُجد أفضل منكم لهذا الغرض». بنفس واحد هي تحدّثت غافلة عمّن ركنوا بصمت جانباً يصغون إلى ما يتوارد إليهم من مزاعم منمّقة بأسلوب بديع أحسنت الغريبة في صوغه.
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...