عانقت أم أحمد صديقتها للمرّة الأخيرة، قبل أن تُسلّمان أمرهما إلى الله، راجيتين من الأيام القادمة السّلام حتى تجتمعان مجددًا.
صعدت زينة واليمامة وبعض النّسوة إلى المقصورات الخشبيّة الخفيفة، التي تحملها الدّواب الأقوى، وسترنَ أنفسهنّ وأعينهنّ الدّامعة بستائر مزركشة من الصّوف.
«هذه هند، ستكون مسؤولة عن أمن نساء القافلة. وخصوصًا في الأحيان التي قد تحتجنَ فيها للخلوة الآمنة». عرّف مالك المنزل ابنه على سيدة مُجنّدة، ذاتها مَن استقبلَت إيمار حين دخولها أرض بغداد.
تعرّفت عليها الأجنبية ما أن رأتها، فلكزت صديقتها تخبرها أنّها هي مَن اعتادت الاسترسال في وصفها ووصف حركاتها وهيبتها في سالف الأيام، فانهمكت الاثنتان في مراقبة السّيدة المهيبة التي لم تلتفت إليهما أدنى التفاتة، بل لم تنزاح عن وقفتها الثّابتة ولو قيد أُنملة بلا داعٍ، كلّ تحركاتها مدروسة! فقط كما استنتجت إيمار من اللّقاء السّابق...
أحاط الجُند بالموكب من الخلف ومن المقدمة، وفي الوسط تمركز هبة الله ومرافقيه، هم على جيادهم، بينما حمّلوا نوقهم بالمياه والأموال والمؤونة، وتقدّمت المقصورات الجنديّة مُعتليةً صهوة جوادها الفتيّ.
ابتعد الموكب حتى أصبح من العسير للعيون البشريّة رؤية ملامحه بوضوح، وحينها عمِد الجنود إلى أبواب المدينة فأغلقوها، وارتقى الحكيمان المتنافسان أعلى محراب في المكان، فخطبا في النّاس المُحتارين، وأطلعاهم على الخبر السّيء، واستفاضَ كلّ منهما منفردًا في شرح ما توصّل إليه خلال الدّراسة الأوليّة لمعطيات المسألة الطّارئة، منبّهين الجمع الذي دبّ القلق فيه أنّ التّماسك والثّبات في ساعات البلاء كفيل بتخطيها والنّجاة، ثمّ أجابا على الاستفسار الذي يحوم في الأرجاء ولمّا يُطرح علانيةً بعد، نعم لقد تم عَزْل المدينة حتى إشعارٍ آخر.
-
أوقفَ هبة الله القافلة في لحظةٍ ما، بُعيد نصف ساعة تقريبًا من لحظة الانطلاق، أمر بجمع الحاضرين، فلّما تأكد من قُربهم باشر في الكلام: «السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أمّا بعد، فإنّي أرجو أن تُنصتوا إليّ بهدوء لتعوا ما سأقوله بسرعة فليس لدينا الكثير من الوقت».
«لا تجزعوا فالله معنا. كرمًا لا أمرًا حافظوا على الهدوء حتى يصل صوتي إلى الجميع». تابع بنبرة واثقة، وكان قوله ارتجالًا لا يُطابق ما خُطّط له، إلّا أنّه كان أفضل...
شرح لهم الأمر بإيجاز ثمّ قال حينما لمَس خوفهم: «مَهمتكم عظيمة، سترجعون بالعلاج إن شاء الله، وستنقذون أحبابكم. فهل تريدون المُضيّ قدمًا أم العودة إلى الموت المحتم -وربما مراقبة أهلكم يموتون أيضًا- بينما تستطيعون الوصول إلى العلاج المُرتجى؟».
«كما تعلمون، أبي ما يزال في بغداد، وهو بحكم مهنته معرّض للمرض أكثر من غيره، ولكنّه شجّعني على المغادرة، سنغرس عصا الرّجاء في رمال الله ونأمل أن تعود إلينا محمّلة بالاستجابة. فهل سترافقونني؟
مَن يريد البقاء يستطيع ذلك، ولكنّ سيكون عليه أن يبقى هنا في العراء حتى عودتنا، لأنّ أبواب المدينة أُغلقت».
قطع المُبادرون إلى الموافقة الوجوم، فتبعهم الجميع، وحمد الحكيم الشّاب الله على تيسير البداية راجيًا التيسير في قادم الأيام...
«والآن لنتابع طريقنا بعون الله». قال ذلك بنبرة تحوّلت إلى البِشر والسّرور الآن.
استكملت القافلة مسيرتها بعزيمة أكبر، وقلق لا بُدّ منه نشر أذرعه في الأثير، حاول الجميع تجاهله، فنجحوا أحيانًا واستسلموا له في أحيان أخرى؛ انهزامات مؤقتة انتفضوا منها بالصّلاة والدّعاء.
-
في أحد الأيام، غادرت اليمامة هودجها فشاركت أخيها جواده بعدما رفض رفضًا قاطعًا أن يُسلّمها ظريفة لتركبها وحدها، فهذا خطير.
«كيف أقنعكَ والدي بخوض هذه الرّحلة الأنانيّة؟». تساءلت الفتاة من موقعها خلف ظهر أخيها المتعرّق، بيّتت ملحوظة لتجبره على الاستحمام في الاستراحة القادمة.
«أتظنّين أنّ يد الوباء لن تطالنا هنا؟». أجابها بسؤال لم يقنعها، فاعترف بالسّبب الحقيقي على مضَض: «إنّها أنتِ. خشي أن تموتي كما ماتت والدتنا في الماضي لضُعف جسدك ونقص مناعته أمام مختلف الأمراض».
«ولماذا أنكرتَ معرفتك بالجنديّة هند؟». غيّرت الحديث لتتحاشى حزنها وبؤسها.
«لا أظنّه سيسعد إذا علم بأنّي أشتري بعض المعلومات ولا أحصل عليها بالتّجسس». أجاب، في اللّحظات المشابهة القليلة استمتع الشّقيقان بمتعة الصّراحة المُحرّمة عليهما في مجمل الأيام.
أومأت الفتاة رغم أن توأمها لا يراها، ثم مازَحته: «إن كانت هذه هي شخصيّة والدك الحقيقيّة، فلماذا يكره رياء الفنّانين؟».
«لأنّه ليس فنانًا؟». أجاب الشّاب، وانخرط الاثنان في نوبة ضحك لا تلائم الموقف الحاليّ، غطّى عليهما هدير الرّياح فلم يسمع ضحكاتهما أحد.
خلفهما ببضعة أمتار استندت زينة على جدار الهودج بينما ثبتّت الستارة بيدها تسمح لنفسها بمطالعة المشهد الخارجيّ عبر مربّع صغير، وعلى كتفِ المحظيّة استندت المُغنيّة، الأخيرة تُراقب الأخوين الضّاحكين، والأولى تتذكر ما عاشته كالحلم قبل السّفر بعدّة ساعات، متى جاءها السّيد بعقد نفيس أخبرها أنّ الجواهر فيه مطابقة لما كان مخططًا له أن يُزيّن كسوة الكعبة التي كانت سُتقدّم هذا العام، احتارت من تكراره عبارات الماضي وصيغه ولكنها كعادتها لم تسأل، أما مقولته الأخيرة فهي تتذكرها جيّدًا وتستطيع سماع صوته بوضوح حينما نطَق بها: «لستُ متيقّن مما يدور في خُلدك عنّي من ظنون، ولكن اعلمي أنّك منذ هذه اللّحظة حرّة سيّدة نفسك، تستطيعين العودة إليّ كحرة مجددًا، أو البقاء في أي مكان يناسبك، وأتمنى أن يُحسّن هذا من صورتي لديكِ؛ الصّورة التي أشعر بسوئها ولا أعرف له سببًا».
-
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...