۲٤ (النهاية)

25 10 4
                                    

24 (النّهاية)

بعد مرور شهر

في فناء داره، وقف الطّبيب الفاقد، شاخصًا ببصره نحو شجرة عملاقة، تعلّقت على أغصانها جوقة من الطّيور المُغرّدة التي وصلته كهدية من منافسه، بمناسبة تحصّله على المفتاح الذي أفنى عمره ينشده.

أحسّ الطّبيب بضئل خسارته الأخيرة، أمام ما خسره فيما سبق، هل تخلّى عن ابنه لأجل مفتاح حقًا؟.

تنهّد بأسى بينما يلتفت ليرى مَن يتحرّك خلفه، كانت فتاته تقف بابتسامة متحمّسة، وقد ازدانَت بثوب أجزائه متعددة المناشئ، جيء به خصيصًا لها، تأملها في حيرة، لا شكّ أنّها غارقة في البؤس رغم ما تُظهره من سعادة لحلمها الذي أوشكَ على التّشكّل واقعًا بعدما كان ضربًا من المستحيل، ولكن ولسبب ما، لا يستطيع أن يرى حزنها كحزن موت، وإنّما حُزن فقد أو سفر، حاول جرّها للاعتراف بما يوافِق فكره ولكنّها أبَت الانصياع وما تزال متشبثّة بموقفها، وبعض منه يخشى أنّه أخطأ النّظرة، يشعر أحيانًا أنّه يضاعف بؤسها في محاولاته لاستجرار اعتراف قد لا يكون له وجود سوى في خيال أب لا يرغب بتصديق أنّ ابنه الوحيد قد ابتلعه الثّرى!.

وهناك أيضًا، المغنيّة النّسطوريّة التي ترغب بزيارة مكة لسبب لا يفهمه، ولو أنّ أمرها كان في يده وليس في يد الخليفة، لكان أجبرها على الإدلاء بما يروق له!.

احتضنت اليمامة ظهره فيما تتمتم بعبارات صادقة تعبر عمّا يعتمل في صدرها من عظيم الشّكر والامتنان.

«عليكِ أن تشكري الوباء، فهو ما سمحَ للقشور السّيئة أن تنجلي عن شاعرنا الكفؤ، حتى باتَ إنسانًا طيب النّفس والمعشر، يستحقّ أن يقارع ابنتي الحبيبة في الشِّعر!».

ضحكَ الاثنان، ما يزالان يتعجّبان من انقلاب الرّجل المعني من حال إلى حال مناقض، وكأنّه غسَل روحه من ماء عذب مُبارك فعادت نقيّة كما وُجدَتْ منذ أمدٍ بعيد.

مسحَ الأب بيمناه رأس ابنته المتحمّسة للمبارزة الشّعريّة القادمة، فيما تعتصر يسراه منديلًا، كان آخر ما بقي له من حَمامة مسالمة قرّرت أن تتعرف على العالم وتطوي ماضيًا كانت فيه أسيرة.

-

وانقضت الأيام، تلحقها الشّهور، ووصلت أسرار إلى مضارب قبيلة اليمامة، حيث اصطحبتها سيدة إلى جبل راسخ مهيب القوام، حيث اعتكفَ الطّبيب الشّاب منذ عودته من مكة قبل فترة قصيرة.

«حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا». بادرت الفتاة في تهنئة محبوبها، وكانت تقصد بالإضافة إلى العبادة العظيمة، تحرره من قيوده وما أُجبر على الخوض فيه رغمًا عن إرادته لسنوات طويلة.

لمّا انصرَفت السّيدة البَدويّة، جلسَ الشّابان متجاوران، يراقبان غروبًا بديعًا من علوّ لأوّل مرة.

أوصلَت الفتاة عتابَ الأخت إلى أخيها، ورقّ قلبها لما ندّت عنه ملامحه من أسى يصعُب تقدير مداه، تحرّك الشّاب ليستلقي على ظهره متحايلًا على عينيه لألّا تفيضا بمائهما، قال بصوت خافت مختنق بالعبرات: «سنلتقي مجددًا بإذن الله، وإلى حينها علينا تحمّل مرارة فراق لا بُدّ منه».

تراجعت الفتاة حتى جاورته الاستلقاء، مدّت كفّها فاحتضنت كفّه الجاف من إثر عشبة جبليّة حفّها طويلًا، ابتسمت تحيّي الأجرام اللّامعة فوقهما، ثمّ نطقت: «هل سنبدأ حياتنا الجديدة بالتّحفّظ وستر ما يشعر به أحدنا عن الآخر؟ ابكِ وسأبكي معك فراق أخوينا، حتى نلتقي بهما مجددًا».

بعد قولها الأخير، انهمكَ الاثنان في نوبة بكاء صرفا فيها مع الدّموع، الكثير ممّا كان متصلبًّا كالطّود في صدريهما، فأذابته حرارة الدّموع وسالَ مخفّفًا حملًا كان ثقيلًا...

«ما هي وجهتنا القادِمة؟». تساءلت المُغنيّة، الفضول غلّف نبرتها.

ابتسمَ الذي كان طبيبًا ومُخبرًا، وأفصَح عن خطته: «سنلتحق بسفينة الحجّاج العائدين إلى هندستان، ومن هناك سنشقّ طريقنا، وسنؤلّف كتابًا في السّفر ما رأيك؟».

ضحكت الفتاة حينما سمعت العبارة الأخيرة، أومأت موافقةً وفي رأسها بزغ حلم عن حياة تتمنى بصدق أن تكون في مُجملها مشرقة، أمّا الأيام المُثقَلة بالغيوم، فسيجتازانها سويًا.

-

بعد مرور سنتين

وضعَ أحمد رسالة إيمار الأخيرة فوق سابقاتها، فرَغ اليوم من إعادة صياغة ما خلّفته الأجنبيّة، وسيقدّمه إلى مكتبة بغداد كرسالة ثقافيّة من زائرة محبّة...

انضمّ إلى أبويه، تناولوا الشّاي مع الفطائر الشّهيّة، فيما يسترجعون ذكرياتهم عن الأيام العصيبة التي تخطوّها بفضل الله، جنبًا إلى جنب مع ذكرياتهم اللّطيفة عن ضيفتهم التي ستبقى ذكراها فيهم ما حيوا، رغم أنّ وجودها معهم لم يدُم طويلًا.

-

أطلَّت إيمار من نافذتها على الطريق التّرابيّ الضّيّق أمام منزلها، ابتسمت تراقب أطفالًا يلعبون بمرح بعدما كانوا عُرضةً للموت في عهدهم الأوّل.

تناهى إلى مسمعها بكاء رضيعها القابع في سريره المريح في الحجرة الدّاخليّة، أقبلت عليه فقبّلت رأسه، ووقعت عينها على قلادته المحفور عليها بخطّ عربيّ أنيق اسمه: أحمد.

وكانت القلادة مطابقة لما تركته لمالك الاسم كذكرى.

أمّا القلادة الجديدة فقد صنعها والد الطّفل بحبّ وقدّمها له كأوّل هديّة.

-

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن