بعد مناوشات مع الحاجب تمكّن أب أحمد وزوجته من الحصول على إذن بمرافقة من يعدّانها أمانة في عنقيهما في خضّم استعدادها لما سيحدد مصيرها وربما مصير قومها بأكمله.
بداخل الحجرة الفسيحة وتحديداً في النقطة حيث أُشير إليهم، تجاور الثلاثة ينتظرون مَن يرجون بصدق أن يحلّ لهم عقدة محكمة الترابط عصية على التزعزع صادفتهم بغتة؛ فربما بمساعدته تُحَل ولو للحظات؛ ولو جزئياً، فيرون مستقبلهم خلال تلكم الهنيهات مما ستتيحه فراغاتها.
أعلن الحاجب عن وصول القاضي والذي أفصحت سحنته السمحة جنباً إلى جنب مع لحيته المهذّبة ناصعة البياض عمّا اختبره في سنون قد عاشها لا شكّ كثيرة.
مختصرة المقدمات والتعريفات ما أمكنها ذلك عبّرت إيمار عن مطلبها والغاية من مثولها هاهنا أمام هذا الرجل المتلائمة شخصيته مع ما تحصّل عليه من صفات اعتبارية رفيعة الشأن، وبان ذلك في حسن ومهنية إصغائه إلى المتحدّثة غير مقاطع إياها سوى مرة واحدة في جملة ما قالته؛ وكانت لازمة إذ أنّه تنبّه لعربيتها ضحلة الكلمات فاقترح عليها أن يأمر بحضور أحد مُعرِّبي المحكمة المحلَّفين، ولكنّها نفت بشدة مدّعية أنّ لغتها الأم نادرة في هذه الأيام وقلة فقط مَن يعرفونها ناهيكَ عن النطق بها وإجادتها، فما كان من القاضي إلّا أن طفق يستمع إليها من جديد مُقصِراً ردوده الآن في بضع إيماءات مقتضبة.
عند نقطة ما، بدأت أم أحمد في رواية جانبها من القصة بينما تخفض رأسها وتغمغم صوتها بطريقة كانت لتبدو مريبة في أي موضع آخر؛ لولا أنّ مُرافِقيها كل منهما كان معمياً إما بترقبه المحموم لنتيجة ما سعى له، أو بنهاية مُقنطة تلوح في الأفق القريب حاملة يأساً كان قد فارق رأس صاحبته لبعض الوقت فأخذت تكزّ على أسنانها رافضة عودته بينما آيل مدمعاها للتخلي عمّا احتجزاه طويلاً من مياه حارقة.
سكتت أم أحمد عن الكلام بأمر من المسؤول الذي الذي أشار إليهم بلزوم تدوين أسمائهم وعنوان سكنهم قبل الانصراف؛ مشكلتهم صعبة مقارنة بآخرين ينتظرون خارجاً، ولكنه بالتأكيد لم يُفصح عن ذلك بل وعدهم خيراً، مخبراً الرجل بضرورة مراجعته قريباً للبتّ بأمرهم.
علماً أنّه قد توصّل -مصيباً- لشكّ مفاده أنّهم ربّما لم يحيطوه بكلّ ما للطارئة من حيثيات، فإن رجع هذا لغفلة منهم فأنه إذاً يرجو أن يحصل من الرجل على شيء ما ذو فائدة...
كما دخلوا هم خرجوا، وربما تحمّلوا وزر خيبة إضافية، ولكن الزوجان ضمرا شعورهما المشترك في سبيل إعانة ضيفتهما ورفع مزاجها الذي هبط بصدمة وفي وقت وجيز نوعاً ما.
هما حقاً لم يحبذا وضعها الراهن، هذه التعيسة لا تشبه بشوشةً ما قد تصبّحا بها منذ ساعات قليلة مضت!.
-
ما يزال مجلس القاضي خالياً سوى من حاشيته، ذلك أنّ زوجته التي كانت حاضرة قد عزمت على تخليص الأجنبية من أزمتها الراهنة، ولهذا الغرض هي طالبت بنسخة عن المعلومات التي خلّفها السائلون، علّها تجد وقتاً ملائماً فتُطلع سيدتها على المسألة.
بالنظر إلى مواقف سابقة مشابهة، وافق القاضي من دون مماطلة غير طائلة.
بطبيعة الحال هو كان مدركاً أنّ البيانات إيّاها لن تُعامَل بطريقة سيئة؛ وأي أيدٍ أكثر حفظاً للأمانة من صاحبة الجلالة التي لُقِّبت -بموضوع لا بأس بها- بالمُقسِطة؟.
-
متربعاً فوق مقعده الحجري المعتاد طالع أحمد صفحة دجلة الرائقة في هذا الوقت من النهار عليل الريح.
كانت عيناه مثبّتتان في الأفلاك الأخاذة متينة البنيان الطافية فوق الماء، غير أنّ تفكيره قد تخطّى المكان ماراً عبر ماضٍ قد ولّى، ولمّا يزل في ربوعه عالقاً؛ ذلك العالق الذي يأبى تخليص نفسه والعودة...
تم انتشاله من شروده العميق بواسطة طرقعة صاخبة أصدرتها أنامل صديقه الوافد لتوّه.
رمش أحمد بضعة مرات، ولكنه ما لبث أن دنا من اليد المزعجة يأخذها بين أسنانه يكزّ عليها بلا رحمة متجاهلاً استجداءات مالكها المزيفة بمجملها.
في النهاية حرّك الدخيل ساعده بقوّة غارساً مرفقه الحاد في ذقن مفتعل المعركة، من فوره قهقه الأخير معلناً استسلامه، ولكن ليس قبل ردّ الضربة بأقوى منها مستخدماً ساقه المعضلة كنتيجة للبيئة الشاقة الملازمة لعمله.
ما أن أزفّت خاتمة الترحيب الغريب حتى ابتعد أحمد داعياً صديقه لمشاركته المجلس، وكعادته لم يصمت عمّا يشغله بل طرح تساؤلاته -ذاتها التي لا يسترجي من خلفها أيّة إجابة وافية-، من قبيل: أين اختفى رفيقه مؤخراً؟ كيف تحصّل على جروحه الحديثة؟.
ثمّ همهم مدعياً الاقتناع -كما دائماً- حينما قوبلت استفساراته هذه بالتجاهل وبعض المراوغة.
كان الشاب في صميمه شاكراً بصدق خلّو طباع شخصه المفضّل من أي أثر للكذب، رفيق دربه هذا متجهّز دوماً لخطر سوء الفهم أو ما هو أسوأ منه؛ أن يشعر الطرف المقابل أنّه ليس جديراً بثقته بما فيه الكفاية. ببساطة، هو يستطيع تجاهل أقرب أحبّائه؛ عوضاً عن نيل رضاهم بكذبة صغيرة...
أي عزيز حظيت به يا أحمد؟ هو حمد الرب لمرات كثيرة ولن يمَلّ الأمر، لأنّ الهبة الإلهية هذه كانت من نصيبه بطريقة أو بأخرى...
على هذه الأرض يوجد نوعان من البشر: الذين يكنّون الحقد والبغضاء لمَن ترفّعوا عن قريبات أنفسهم من سيئات، والذين هم يتطلعون لهؤلاء المترفّعين عن الخطايا بالمزيد من الإعجاب والحسد الإيجابي؛ ذلك النوع من الحسد الذي يدفع بصاحبه نحو الأفضل.
أمّا أحمد فهو من النوع الثاني، أحبّ الشاب كلّ مَن جابهوا ما انهزم شخصياً أمامه من المعاصي، فغلبوا وكانوا بذلك له قدوة حسنة وصورة مستقبلية يطمح أن يبلغها يوماً...
-
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...