تجاور أحمد وأبوه فوق السجادة الفارسية المعطّرة بالمسك، وكانا قد تموضعا في مكان قريب من الإمام الذي غزا الشيب رأسه ولحيته وحتى حاجبيه، غير أنّه لم يلوّن شاربه بعد، تحلّق الرجال والشباب حوله، وفي حجره استقرّ طفل لمّا يكمل عامه السابع بعد.
«هل تجوز لنا تهنئة بعضنا البعض بقرب قدوم رمضان يا شيخنا؟». تساءل كهل يبدو من ثيابه أنّه متوسط الحال، كان يجلس إلى يمين أحمد.
استهلّ الإمام حديثه بتهنئة منمّقة الكلمات وجهها إلى الحاضرين، ثمّ تابع مبتسمًا بوجه السائل: «من واجب المسلم أن يُبشر أخيه المُفلح بفتح أبواب الجنان، وأن يُطمئِن قلب أخيه المذنب بغلق أبواب النيران».
لم يبعد الإمام عينيه عن الكهل الذي تساءل مجددًا: «سمعنا أننا نستطيع الصوم مرتين، فكيف ذلك يا شيخنا؟».
بينما يمسح على رأس الطفل قال الشيخ: «فيما مضى من السنين كنتُ أطعم صائمًا كل يوم، وبذلك أصوم مرتين، ولكنّ الأمر يعتمد على ظروفك يا أخي.
منذ كُلّف ولدي البكر، وهو غير قادر على الصوم كما تعلمون، آثرتُ الإطعام بالإنابة عنه بإذن الله، فما عادت ظروفي تسمح وعدتُ صائمًا عاديًا مجددًا».
أعقب الإمام كلامه بضحكة لطيفة، ضحك لها الصغير، وكذلك فعل أحمد.
أحبّ أحمد هذا الرجل، وكان يحرص على أداء الفروض في مواعيدها حتى يحافظ على صورته جيدة في عينيه، لطالما كان ضعيفًا أمام الزهد في العيش رغم الاقتدار، والسماحة بالتعامل رغم المكانة الرفيعة.
سمع أحمد أبوه يتحمحم، فلم يستطع كبح ابتسامته، فرد ظهره بينما يصغي إلى السؤال المعتاد من والده: «ما هي أهم النصائح لاستغلال الشهر الفضيل يا شيخنا الجليل؟» كان أبوه يعرف بحبه واحترامه لهذا الرجل الفاضل ولذلك يحاول نصحه من خلاله.
قاطع أحمد خواطره لكي يستمع باهتمام إلى الشيخ الذي استفاض في الكلام: «..وابدأ منذ اليوم في تدوين مطالبك وأدعيتك وأذكارك وجهّزها في جدول خاص لرمضان. وخصص وقتًا يوميًا تحاسب فيه نفسك على أي تقصير ولا تغفل عن مكافئتها على الالتزام لتشجيعها على الطاعة، وحبذا لو حرصتَ على هذه المحاسبة بعد رمضان.
وتذكّر أنّ البرّ والتقوى يزكّيان روحك ويطيّبانها».
ودّعتْ الشمس المدينة، وكذلك فعل آخر المصلّين، فلم يبقَ سوى ثلّة قليلة تضمّ فيما تضمّ أحمد وأباه والإمام وابنه الذي ينام بسلام على فراش قريب.
طالبَ أحمد رجل الدين بأن يرقيه بمسحة حنون وبعض الأدعية الصادقة، ولم يُرَدّ خائبًا.
بصوت خافت خالطه النعاس استفسر أحمد: «أنتَ تعلم بعظيم حبي للقراءة يا عمّي، ولكنّ خواطر غريبة تراودني منذ أيام ولم أكن ألتفت لها مسبقًا».
اقترب الإمام من وجه الشاب، محسنًا الإصغاء.
«باختصار أفكر أن أصوم عن الكتب الدنيوية خلال الشهر الفضيل، فما رأيك؟».
ضحك الإمام بصمت مراعيّا النائمين، وصارح الشاب أنّ التعبير حاز على إعجابه، ثمّ أيّده بالرأي الشخصي وبالبينات، منوّهّاً أنّه لا يأثم إن هو تراجع عن قراره، طالما ليس في قراءاته ما يسيء لروحه وتُقاها.
تساءل الإمام عن أصل هذه الخواطر، فهل حلّت على ذهن الشاب بهدي من أبيه أم من أمه أم ربّما من صديق حسن؟.
أشار أحمد النعس إلى الباب حيث يقف هبة الله لاهثّا كأنّه ركض أميالّا بلا انقطاع، كان هو أصل الخاطرة.
رحّب الإمام بالوافد الجديد، بعد أن دثّر الشاب النائم بغطاء خفيف، لم يكتم الأمر، بل أثنى على تأثير الطبيب بصديقه، وطمأنه أنّ التأثير ما يزال محمودًا حتى لو كان بلا نيّة مبيّتة لإحداثه.
شرب هبة الله حتى ارتوى وانتظمتْ أنفاسه، وراح يثرثر شارحًا موقفه، فقد عزم على تحسين حياته خلال الشهر الفضيل، وعزم أيضًا على جرّ أحبابه إلى التقوى معه.
فكما سيصوم أحمد عن الكتب التي لا تسمن ولا تغني من جوع على حد تعبيره، ستصوم أخته الحبيبة عن شِعرها الوجدانيّ ما استطاعت إلى ذلك سبيلّا... أمّا هو فسيصوم عن الثرثرة غير المجدية، وقد بدأ بذلك منذ اليوم! كوب الماء كان إفطارًا للكلام أيضًا...
تمسّك الإمام بذراع الشاب الثرثار فجذبه ليقعد إلى جواره، ومدح ما يفعله بنيّة طيبة، مذكرًا إياه أنّ الثرثرة ليست سيئة طالما أنّه لا يثريها بسيئات الذنوب كالنميمة وسواها...
ثم استفسر عن أحوال أب الشاب وشقيقته، وسأله إن كانت الأخيرة ستبادر إلى تشجيع فتيات ونساء الأشراف على الالتزام كما ديدنها كل عام.
«لقد سمح أبونا لها أن تخرج مع محظيته الجديدة إلى الأسواق ومنازل العامة، فهي تنوي أن توسّع نشاطاتها هذا العام».
أجاب الشاب، وكان عارفًا أنّ شقيقته قد أخذت بمشورة الإمام وزوجته في هذا الأمر.
«بارك الله بكم يا ولدي. لماذا لا يزورنا والدك في هذه الأيام؟».
كانا الآن قد اتخذا مجلسًا في فناء المسجد كي يتحدثا براحة، يؤنسهما سراج منير.
«هو مشغول بأمر ما، أتوق لأعرفه، ولكنّ سرّه في بئر عميق كما تعلم».
«أيحقّ لك ما لا يحقّ لغيرك؟». مازحه الإمام، وكان يقصد ما يضمره الشاب نفسه من أسرار.
تنهّد المخاطَب بملل، وصارح الرجل أنّه تائه في غياب الخليفة، فزوجته لم تقبل أن تستلم التقارير سوى من النساء! كما أنّ عمله لا يقتصر على تحرير التقارير، ولا يدري كيف سيتصرف لو طال اختفاء الخليفة أكثر...
-
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...