۱٤

11 9 0
                                    

امتطَت اليمامة صهوة مُهرتها، وأخذت تلمس ضفائر الخيل المعقودة بأربطة جلدية موشّاة بنثرات من الفِضّة اللّامعة، كانت تنتظر زينة للمرّة الثّانية.

جاءتها الجارية في المرّة الأولى بحلّتها القديمة، متى لم تكن قد أصبحت من سكان بيتهم بعد، فأرجعتها اليمامة مطالبةً إيّاها أن تستبدل ما ترتديه وكذلك الأمر وشاحها الخفيف، أن تستبدلهم بما أمر السّيد مسبقًا بتفصيله خصيصًا لها من ملابس وأوشحة تناسب مكانة منزلهم، لم تعترض الفتاة بل أطاعَت مَن تعدّها بمثابة مالكتها -غير أنّها لا تجرؤ على قول هذا أمامها- ثمّ سارعت في العودة إلى حجرتها بلا مماطلة، فلّما ظهرت ثانيةً لم يكن بالإمكان تمييزها عن الحرائر؛ وبشكل خاصّ النّبيلات من بينهنّ.

«بالنّظر إليكِ الآن، أشعر أنّ وقوفي مع ظريفة تحت الشّمس كان مُجديًا». أطرَت اليمامة، غيرُ واثقة إن كانت المعنيّة ستُرحّب بالإطراء أم ستأخذه كتوبيخ كعادتها...

«هل تحتاجين مساعدة؟» تساءلت اليمامة بعدما طال وقوف الفتاة إلى جوارها ساكنة صامتة.

نفَت المحظية، وبصعوبة تسلّقت جسد الفرس حتى اعتلَته، وتمسّكت بخصر مالكته حينما أشارَت إليها بذلك، لتنطلق المهر بالفتاتين فوق ظهرها، مخترقةً حشود المَارّة في حين، ومحتلةً الجوانب الفارغة في أحيان أخرى.

شيئًا فشيئًا بدأت ملامح الطّريق تتضح لعينيّ زينة التي شعرت بمزيج من الأُلفة والحسرة، فها هي تمرّ بهدوء ودون لفت أدنى انتباه وسط الأناس الذين سحلوها خارج أرضهم بقسوة منذ بضعة سنوات.

«وكأنّ أرض الله ملكهم!». نطقت الفتاة بلؤم حينما وقعت عينها على هيئة لن تنساها ما حيَت، كان الرّجل مخفضًا بصره فما استطاعت رؤية ملامحه المشؤومة، لمّا رفع رأسه وتلاقت عيناهما شدّت زينة إحكام يديها حول خصر اليمامة، فأحسَّت الأخيرة بالجوّ المشحون، وبقي الرّجل المشؤوم غارقًا في جهله، غافلًا عن توابع أفعاله...

ارتجفت زينة بينما تتدافع عليها ذكرياتها في كل ركن وزاوية من الزّقاق البسيط، تلك الذّكريات التي تشكّلت في ساعة واحدة قد طُبعت في روحها حتى الفناء، هنا فوق هذه الحجارة النظيفة سال الدّمّ من جروحها، كان جلدها متشققًا على نحو تقشعر له الأبدان، ومع ذلك لم يُثر استعطاف أحد، فهل سيتنبّهون إلى الجراح الغائرة في قلبها؟.

قفزت اليمامة عن ظهر جوادها، وشرعت في محاولة احتواء الهلع الذي تملّك مرافِقتها، احتضنتها بحنان غير آبهةٍ بالعيون الفضوليّة التي تحدّق بهما بلا أيّ نيّة للمساعدة، وغطّتها بعباءتها الثّقيلة تخفف من حدّة النّور المسلّط على عينيها على أمل أن يعينها ذلك على تخطّي الموقف.

وبداخل رأس المَحظيّة تراجع الحاضر بعد أن تغلّب عليه مشهد من ماضٍ بعيد خالت من قبل أنّه طُوِي مع الأيام ولم يبقَ منه أثر.

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن