۱٥

11 10 0
                                    

«أقام الله الدّنيا على الأسباب، ولم يُقمها على الخوارق يا مولاتي». نطقت الوصيفة، وكانت تتناقش مع سيدتها -الموكّلة بالحكم مؤقتًا- فيما أطلعتهما عليه الأجنبيّة في زيارتها الأخيرة عن أحوال أهلها وما يظنّونه سحرًا قد استهدفَ أطفالهم الأبرياء فأطفأ نور الحياة فيهم ولمّا تزل في مَطلعها.

«ما الذي تقصدينه يا عائشة؟» استفسرت الحاكمة، ثمّ التزمت الصّمت مُحسنةً الإصغاء إلى مَن تثق بحكمتها وبصيرتها.

اعتدلت الوصيفة في جلستها واستفاضَت في شرح ما ترمي إليه: «أقصد أنّ ما نراه اليوم غريبًا سيكون من البديهيات في الغد، وسيتعامل النّاس حينها بشجاعة وواقعية مع ما أرهَبَنا ذِكره فأطّرناه بالحكايات السّحريّة وأكسبناه بذلك تهويلًا يفوق ما يستحقه. خوف أهل اديمار مما أصابهم أعماهم عن ضرورة البحث عن الأسباب لمعالجتها، أخشى أنّ وباءً مُهلِكًا في طريقه إلينا».

تعوّذت الحاكمة من الشّيطان الرّجيم، ورغم أنّها ودّت لو تتجاهل الموضوع بأكمله ومعه الكثير من الذكريات المؤلمة عنه، إلّا أنّ موقفها الحاليّ لا يسمح بالاستهتار مهما تعاظَمت الّدواعي... أمرت الحاجب باستدعاء رئيس أطباء الخلافة ليبتّ لها في الأمر العارض بناءً على موقعه وخبرته.

غير أنّها ووصيفتها ذُهلتا عندما أخبرهما الطّبيب أنّ أمر الوباء قد وصله، وأنّه بدأ بالفعل في اتخاذ إجراءات الوقاية اللاّزمة، ومن ضمن ما سيفعله أنّه سيرسل أمهر تلاميذه لتقصّي العلاج النّاجع في القريب العاجل، كما أنّ الخليفة على اطلاع بكافة حيثيات المسألة.

قال ذلك وسكَت عن الكلام، فليس مصرّحٌ له أن يفشي أكثر مما تمّ إفشائه...

-

«اللهم سلّمنا لرمضان وسلّم رمضان لنا وتسلّمه منا متقبلًا يا رب العالمين».

ختمَت ضيفة لأم أحمد حديثها بهذا الدّعاء، ثمّ استقامت مودّعةً مضيفتيها وعدّلت هندامها المُحتشم خلف الباب قبل أن تفتحه وتغادرهما إلى وجهة أخرى قريبة.

وكانت فيما تقدّم من الدّقائق قد أطلعت العَباسيّة على خطط العبادة المُنظّمة لهذا العام، التي نَظمتها مراعيةً بها ظروف البغداديّات اللواتي تنوي مشاركتهنّ إياها لتضاعف وإياهنّ الأجر، وربما تكسبنَ خلال الشّهر الكريم علاقات رحمانيّة من شأنها أن تعينهنّ في حياتهنّ كلّها.

حينما غادرت السّيدة وكانت قد تعرّفت عليها إيمار عرَضًا وعرفت أنّها زوجة مؤذّن المسجد القريب، صارحت أم أحمد الغريبة أنّها تخشى أنّ تُرَدّ العابدة الزاهدة خائبةً من المنازل، فغالبيّة النّساء كنّ يتملقنّ في الماضي اليمامة ابنة كبير أطباء بغداد، وإلّا ما الفتنَ لسيدة بسيطة تسكن في أفقر أحياء المدينة...

وكان رأي إيمار أنّ تشاؤم مضيفتها لا يُجدي، وأنّها لا يجب أن تستبق الأحداث قبل أوانها.

ثمّ التفتت السّيدتان كلّ لما يشغلها، أمّا أم أحمد فقد انصرفَت إلى إنجاز بعض مشغولاتها اليدويّة التي تنقصها بعض الإضافات الختاميّة، وأمّا إيمار فانعزلَت في حجرة صغيرة هادئة لتستذكر ما علّمها إياه أحمد خلال ساعة الدّرس في الأمس، كان الشّاب واضحًا فيما قرره؛ متابعة دروسهما في اللغة العربيّة وآدابها خلال الشّهر الفضيل متوقّف على أداء التلميذة واهتمامها، فهو لا ينوي تضييع وقته هباءً...

جاء أحمد والحزن يغلّفه، فانعكفَ في حجرته ممتنعًا عن الكلام، وأدركَت أمه ومعها إيمار أنّه أصبح عالمًا بسفر صديقه.

بوصول الأب، كان الابن قد جمع شتات نفسه وسيطر على مخاوفه، فشارك عائلته والضّيفة آخر وجبة غذاء قبل عيد الفطر المبارك، فهم سيبدؤون منذ الغد في تطويع أسلوب حياتهم ليناسب شهر الصّيام، تجنبًا لأن يُباغتون بنظام حياة يختلف عمّا اعتادوا عليه وربّما يجدون صعوبة حينها في التأقلم مع التّغيير الطّارئ على مواعيد الوجبات...

ثمّ غادرهم لتوديع صديقه ومحاولة استنطاقه ليعرف على الأقل لمَ ستسبق قافلته موكب الحَجّ الرّسميّ؟.

-

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن