۱۸

23 9 4
                                    

رحبت السّماء بطيور الصّباح، وكان القمر قد غادر موقعه منذ بعض الوقت على رأس موكب مهيب من الطّيور اللّيلية، تنير النّجوم طريقهم وترشدهم في رحلتهم القادمة، حتى لقاءٍ قريبٍ سيطوي بمجيئه يومًا آخر من المسيرة المطوّلة للمرتحلين في كنف الأيام الذين يجدّون السّير في حماية الجنود، وفي وسطهم تجاورت النّوق مع الخيول بعدما تبادل الراكبون مواقعهم مع الراجلين، وفق خطة ضمنية حكمت بوجوب امتثالهم لما تبديه الطّيور -التي تؤنسهم من عليّائها- من حُسن تناوب وتنظيم أدوار ما بين ليل ونهار، وحرّ وزوابع هوائيّة -طارئة ومألوفة في آن- على مناخ الصّحراء.

في الأفق القريب تراءت لهم خيوط من الدّخان، كانت تتصاعد من نقاط مختلفة وتتشابك لتتداخل مع السّحب الرّماديّة المتفرّقة في السّماء.

التفتَ هبة الله نحو شقيقته، كان ينوي حثّها على التزام الهودج للوقت الحاليّ، فلما رآها مفتونة باعتلائها صهوة مهرتها رقّ قلبه لها، وابتسم يراقبها تفتعل سباقًا قزمًا تجاريها فيه الجنديّة المغلوب على أمرها، لا تدري أي الخيارين هو الأفضل، هل تسبقها وتتحمل تذمرها؟ أم تُخسر نفسها أمامها وتعيد بذلك موشّحًا ملّته تتهمها فيه الفتاة بالتّهاون والخسارة المتعمَّدة؟.

تزامنًا مع اتضاح معالم المساكن الشِّعرية القريبة، نزلت اليمامة عن ظهر جوادها واتخذت لنفسها مجلسًا أكثر توقيرًا فوق الجَمَل، فانخرطَت من فورها في سلسلة من الأحاديث التي لا تناسب بلطفها وهدوئها ما خاضته كفارسة عنيدة منذ وقتٍ قصيرٍ قد مضى، وأما عن ساكنات الهودج فاستقبلنها بشوق وبالكثير من الأسئلة الفضوليّة عمّا رأته وعاشته في الخارج، وكانت إجاباتها صادقة ملطّفة بعض الشّيء، وكنّ شاكرات لها حنوّها وحرصها في التعامل مع رقّتهن.

عندما دخلت القافلة ما بدا كموطن لقبيلة مصغّرة، خرج لاستقبالهم شيخ سمح الوجه ترافقه زوجته التي تولت مسؤولية النّساء فاصطحبتهنّ بمتاعهنّ الأكثر أهمية وبقيادة الحارسة إلى خيمة فارغة يجاورها بئر مشيّد، مياهه عذبة، تحيطه شجيرات الصّحراء فريدة الهيئة جميلتها.

ولم تتركهنّ إلّا حينما تأكدت من راحتهنّ.

أما الزّوج فقد رافق الرّجال مع حيواناتهم وبقية الأغراض إلى غرفة كبيرة من اللّبن والطّوب تقع في المركز بين عشرات الخيام الصّغيرة، في طريقهم صادفوا قومًا متواضعة أحوالهم، يعيشون يومًا رمضانيًا عاديًّا بلا أيّة آثار للوباء الحاصل، وكأنّهم في معزل عن أخبار العالم وكلّ مآسيه.

أخبرهم الرّجل بحقيقة أنّه موظّف مع زوجته لغرض العناية بواحدة من استراحات الحُجّاج على طول الطّريق المؤدّي إلى الأراضي الحجازيّة المقدسة.

ولكنّ الأيام مرّت عليهما ثقيلة مريرة في وحدتهما، فعمدا إلى إيواء كلّ مَن يستجير بهما ويطلب منهما مأوى...

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن