١٠

77 22 8
                                    

«لا رمح واجهتهُ قد أرهبني ولا صليل السّيوفِ
حتى حسبتُني لا أهاب المَنية والرَّقاد
ولكنّ طيف المَوت في شحوبكِ أعياني».

فاضت الكلمات من فاه الشاعر بسلاسة وجمالية وقف الحكيم الصّغير إزائها حائراً مكمم الفم تائهةٌ أحرفه.

ودام خرسه ذاك حتى انقطع السّيل الوجداني أخيراً؛ ليجد ذاته ينطق ما تلقّنه دونما مماطلة أو استذكار: «ما كان موتاً ولا شممتُ ريحَه
جلّ مافي الأمر أنّ شوقيَ أضناني».

«في الصباح أشكرُ ربي وفي المساء
من رحمته بي جعلكِ من أهلي وخِلاني
وهل سأنجو لو كنتِ من أعدائي؟».

لما تلقّفتهُ أذناه تحمّس الشّاعر كأنّما حلّت عليه روح الإلهام، تفوّه بالكثير ومن ضمن ما تخلّق معه كان هذا البيت «دفنوا أحبّتهم كأنهم الخطايا المُشيناتِ
ورفعتُ ذِكركِ عالياً لا أخشى لومهم ولكن يؤرّقني فؤادي».

تنهّد الرجل ريثما أفرغ ما هطل عليه من عبارات ومشاعر شوّشت عقله فأعمته عن نظرات الإعجاب التي أُلقيت عليه من كل حدب وصوب، متجاهلاً الثناء والمديح الصادر عن سيد الدار هو التفتَ إلى عبده في الخلف يطمأن أن الأخير قد دوّن ما ارتجله مخافة أن يضيع فلا يستهدي إليه سبيلاً، وكان قد اصطحبه لهذا السبب؛ في الماضي ذهبت عنه الكثير من إبداعاته اللحظية تاركة في صميمه فراغات وثقوب آلمته حتى ارتأى أخيراً إلى طريقته هذه في قهر ذاكرته الخائنة.

حينما انقشع الضّباب عنه تلبّس قناع الغرور من جديد يستقبل المديح بابتسامة واثقة غير متخلي في غضون ذلك عن عادته في مضايقة مَن أعادت إلى وجهها خمارها مدارية به صورة عنها لا تشبهها في شيء...

-

«يا أحمد آتِني بصندوقي الفضيّ، تجده ضمن متاعي»
صاح الرجل الذي كان منذ قليل شاعراً فصيحاً بليغاً في وصف ما يتولّد في أعماقه فيصوغه ببراعة مخرجاً إياه في هيأة مقاربة لما يكمن بداخله مسهلاً على المتلقي تذوّق ما أعدّه بتصميم حيناً وبطوفان لا إرادي أحياناً أخرى.

من فوره عاد العبد نحيف الجسد والوجه محمّلاً بالصندوق المذكور، ذاته ما خصصه السيد لتخبئة هداياه وعطاياه التي يبتغي من معظمها تزلّفاً يجيده وكأنما خُلق معه وعاشا في ذات الرحم شهوراً وليال.

استقام الشّاعر وعدّل هندامه الذي كان قوامه معلَّقاً غريباً من أثمال صوفية ورثها عن بني جلدته توحي بزُهد يناقض ما جاورها من قماش ثمين وحليّ برّاق بفظاظة.

احتضن الرّجل حالك الخصلات والشارب صندوقه المركون بعناية على وسادة تجاوره، ثم توجّه رفقته نحو السيد المتربع في صدر المكان.

تغاضى الشاعر عن انهماك المضيف في حديث بدا له غير ذا أهمية -ذلك أنّ مُحاورته امرأة تشابه في سلوكها الغانيات وفي حلّتها الجاريات الأقلّ أهمية وشأناً- فلم يجد شائناً في مقاطعته تمهيداً لتقديم مافي جعبته من هدايا.

«رغم أنّ مَن تصلها تقدُماتي المتواضعة قد ترفّعت إلى الحياة الآخرة، إلا أنني ما أزال أطمع في نيل مباركتك لما يحتويه متجري تعبيراً لما أكنّه في صدري من اهتمام واحترام».

همهم السّيد سليم شاكراً الرجل المانح قبل أن يأمر خادمه بتقريب الصندوق.

ولمّا تحصّل عليه هو فتح غطائه ثم شرع في إخراج ما جذبه من محتوياته، وكانتا قطعتان؛ دسّ إحداهما في جيبه وأمسك بالأخرى مستديراً نحو محظيته الهائمة في فضاء يجهله، والتي اقشعرت بصدمة ما أن لامس عنقها الطوق الجديد، ربت كتفها مهدئاً قبل أن يوضّح لمَن ينتظره بصبر لا يوشك أن ينفذ عن مآل عطاياه: «أحببتُ هاتين، سأمنح إحداهما لابنتي، أما الأخرى فأرجو أن تكفّر لكَ عن ذنبك في مقاطعة صاحبتها».

رمش المخاطَب وتكدّرت ملامحه لما سمعه ولكنه تدارك موقفه، فابتسم بتكلُّف مستعيداً صندوقه، ثم دار على عقبيه متجهاً نحو موضع مغاير لما اتخذه مسبقاً، هو لا يجلب صندوقاً كاملاً إلا لمعرفته بأنّ السيد سليم لن يستولي على هداياه كلّها؛ فيستطيع بذلك الاستفادة من التركة الحتمية والتي أبداً لن تكون فتاتاً...

مجلسه الجديد كان وسط الجارية الملثمة ونجل صاحب الدار الذي قهقه بلطف ما أن سمع المديح لما تفوّه به منذ قليل، ولكنه عاد فنفى ادعاء الشاعر أنّ ما يلقيه على مسمعه لا شك صادر عن أنثى.

رفع الشّاعر كتفيه غير مصدّق ولكنه لا يجرؤ على تكذيب الشّاب الأصغر سناً، فانصرف عن الحديث السّابق إلى الفتاة طيبة الأريج التي يحب عينيها؛ ولكنه يعشقهما حينما تثوران غضباً رداً على ما يخرج منه من سخرية لا يدري لها سبباً ولا يعرف إليها لجاماً.

-

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن