٤

61 26 0
                                    

ذات شروق لطيفةٌ شمسه تجاورت الصديقتان حديثتا العهد في كشك كبراهما؛ والتي خصصت زاوية صغيرة لعرض أشغال متدرّبتها المبتدئة، ولدهشة الاثنتان كان الإقبال على ركن إيمار مشجّعاً مفائلاً لها، بقدر ما كان باعثاً للفخر في صدر معلّمتها؛ عدّت الأخيرة الأمر تحدياً شخصياً تسعى من خلاله لكسر الصورة النمطية السيئة المغروسة في دماغها بفضل معلّمتها الخاصة.

«يقولون إنّ فايا المحررة ستزورنا اليوم، هل تظنين أنّها ستفعل حقاً؟». طرحت سيدة جارة سؤالها على أم أحمد بنبرة يعمّها شوق وحماسة لم تخبُ بالرغم من الردّ المتأسف الذي أُلجمت به من فورها، تمتمت السائلة بشيء ما تحت أنفاسها قبل أن تعاود رشّ بتلاتها الملوّنة بالمياه المنعشة.

في سرّها قد صنّفت إيمار البائعات إلى نوعين لا ثالث لهما، كانت الجارة آنفة الذكر من بين البائعات الصامتات، واللواتي تشكلن الغالبية العظمى، تعاكسن في صفتهنّ هذه جاراتهن مثيلات أم أحمد ذوات الأصوات الصادحة المفعمة بالحياة.

نكزت الأجنبية شريكتها تطالبها بأن تشرح لها ما تناهى إلى مسمعها منذ قليل عن المقصودة صاحبة الاسم الغريب عمّا ألفته في ماضيات الأيام.

لم تلبث أم أحمد أن تصوغ إجابة وافية حتى طرأ على المكان ضجّة مريبة، وبانبهار راقبت إيمار ثلّة من السيدات والفتيات تجتمعن حول الدخيلة المختمرة بأسلوب بدا غريباً في عين الأجنبية، فكان ثوبها مناقضاً بألوانه الزاهية لما اعتادته إيمار لدى سائر النسوة من ألوان قاتمة رتيبة؛ تظنّهن تعتمدن عليها في مماثلة إحداهنّ للأخرى فتصبحنَ بذلك نسخاً مكررة لا روح فيها ولا بهجة.

سرعان ما تفرّقت الجموع، فأخذت الزائرة تمرّ بالأكشاك -المرحبة منها فقط- تنثر غبارها الأخاذ بالعدل مناصفةً بين الزهرات المرحّبات المشتاقات، متجنّبة الالتفات للأصوات النافرة الصادرة من هنا حيناً ومن هناك أحياناً أخرى.

بوصولها إلى كشك أم أحمد هي منحتها مهلة إضافية بغية التعرّف إلى الوجه الجديد، فأهّلت بإيمار بحفاوة جريئة؛ في سبيل ذلك هي أفصحت عن ملامحها أخيراً، وما أن لحظت القشعريرة التي غزت أمارات الأجنبية حتى ابتسمت تطمئنها ضمنياً أنّها لم تُسئ فهم تصلّبها اللاإرادي أو توسّع حدقتيها ومن ثَمّ تضيّقهما أسفاً ربما تخلّله البعض من شفقة.

ألقت الزائرة سلامها الختامي بعد أن عبّرت عن أسفها من حقيقة أنها لم تعد قادرة على المجابهة بعد الآن، تبعاً لذلك لن تحصل البائعة الجديدة -كما تظنّها- على أنشودتها الترحيبية الخاصة، ثم رحلت غير متهدة بعودة قريبة رغم الإلحاح...

-

في طريقهما إلى المنزل روت أم أحمد لصديقتها ملخصاً عن قصة مَن أسمتها 'الحكواتية العنيدة'، والتي تخلّصت منها عائلتها ورمتها طفلة لنخّاس طائل اليد اقتنص موهبتها في الغناء مبكراً، فقلّص من ساعات تعليمها مقابل تدريبها على نظم الأبيات تزامناً مع الموسيقى،حتى انتهى بها الحال مع سيد كفيف هوى صوتها وبكرم وفّر لها كل حاجاتها في سبيل إمتاعه بما حظيت به من هبات.

أنشدت له عن طيب خاطر مكتفية بتعهد بسيط من طرفه؛ ألا وهو أن يبقيها بعيدة بما يكفي عن أي عين آثمة جائعة قد تتربص لها سوءاً، وكان لها ما أرادت.

توالت الأشهر ولحقتها السنون، طوّرت فايا خلالها أسلوباً مميِّزاً لها، فراحت تغنّي ما قُصّ عليها من حكايات، وذاع صيتها بين النساء المترفات حينما قررت زوجة الرجل أن تمتّع نديماتها بصوت الجارية العذب الشجي وكذا رواياتها الشيّقة الآخذة من كل صوب ضرب من سحر؛ كلّ ينافس نظائره فيشكّلون معاً فسيفساء بديعة متكاملة تسرق الأذهان.

كبرت الأميّة معتمدة على موهبتها الخام وأصبحت تعتاش على صوتها حرفياً؛ فهي لم تؤتى أي سبيل لتنمية ما تملك...

أمنية واحدة ابتغاها سيدها من حياته بأكملها، فلّما استطاع إلى غايته -مكة- سبيلاً، أعتق عبيده وتخلّى عن جلّ ما يملك، فهو لم يعد ينتظر شيئاً من الدنيا وما فيها...

بين ليلة وضحاها غدت فايا عبدة محررة لا تملك مأوى ولا حتى معيل، فشرعت تنظم حكاياتها أغنيات قد سرّت العديد ممن حظوا بمتعة سماعها، فأغدق عليها معظمهم بكرم وفير كان لها عوناً في شدتها ومهوّناً في كربتها.

أزعج صوتها الصادح مَن تعالوا فوق الحياة ومتاعها، ومنهم مَن أُثيرت حفيظتهم فبادروا إلى تكفيرها وزجرها، وكان من مريديهم بشر بأفئدة تضاهي أقسى الصخور بتصلّبها وجمودها، فتطاولوا عليها بالأيدي والألسن مما ولّد في نفسها نزعة للمجابهة كانت وبالاً عليها، أنهى الطرف الآخر الحرب بمعركة أجبرت الثائرة المحررة على رفع راية استسلامها؛ علّها تهوّن ألمها أو تقيها من نيران أوقدوها بحقدهم وغلّهم قد تشعل بدنها بأكمله بعد أن أتلفت وجهها الذي كان يوماً بهياً.

ذرفت إيمار دموعها المحتقنة حينما علمت أخيراً أنّ المحاربة المستسلمة قد أذعنت في النهاية لمصيرها المنكوب فعادت لمالكها الأول؛ ذاتها مَن أغرت أمواله أبيها في سالف تاريخها المشؤوم...

-

أنفاسُ دجلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن