في يومهم الثّالث، استفاق الضّيوف على طبول الإنذار تُقرَع عاليًا، وصرخات استغاثة تعلو من اتجاه، لتعود فتخفت فجأة، لتصدر مجددًا عن اتجاه مغاير لسابقه، ولبعض الصّرخات ارتجفت أفئدة المستمعين.
تسمّروا أمام خيامهم مذهولين من مرأى القوم الذي ألِفوه هادئًا حتى الأمس القريب، وقد تحول اليوم إلى شرذمة هوجاء مسّها الجنون.
فهنا أناسٌ يركضون نحو الغرفة الطّينية هربًا من بَطش فرسان ملثّمين، جيادهم متجهمة الهيئة مثلهم، تعدو فتهتزّ الأرض من تحتها كما تفعل قلوب المنكوبين.
وهناك أفراد متفرقون يحرس كل منهم بقعة يملكها، حاملًا ما توفّر لديه من أسلحة، ابتداءً من الأغصان وحتى الخناجر.
يقاتل واحدهم ببسالة حتى آخر نَفَس، وحينما يتكاثر عليه المهاجمون، يستغلّ جيرانه الفرصة فيلحقون بالهاربين.
خطَف ملثّم فتاة لم تنجح في الفرار، ألقى جسدها الهزيل أمامه على الحِصان، وضرب عنقها بمرفقه فهدأت وكفّت عن الحراك، رفسه أحد الجنود بقوّة في كتفه فاختلّ توازنه وسقط أرضًا تحت حوافر الحيوان المختنق بواسطة الفتاة التي تعلّقت بعنقه خشيةَ السّقوط، في غضون لحظات قليلة دُهس الملثّم وتكسّرت ضلوعه، وابتلعت المعمعة أنينه الذي خرج بصعوبة عن صدره المطبق بقوة على الأرض التي هاجمها لغرض حقير، فكانت نهايته على ترابها المغدور.
وفي مكان قريب، تقارع سيف أحد الجنود مع سيف أحد المُغيرين، كان الأخير ضحل الخبرة والشّجاعة في آن، سرعان ما وقع قتيلًا بطعنة أصابَت نقطة حيوية لديه.
بجانبهما، تصارع جندي آخر مع ملثّم على أنقاض خيمة نُهبَت عن آخرها، أحكم المُغير كفيّه حول عنق الجندي، وكان قد اعتلاه بعدما ضرب عينه بحجارة تثبيت خُلع عنها عمودها مسبقًا، ارتخت قبضته حينما تلقّى طعنة مميتة عبر خنجر غُرس عميقًا في مؤخرة عنقه، مباشرةً في بصلة الحياة، فانكبّ صريعًا فوق الجندي وانفجرت الدّماء من جرحه الحديث، ولمظهرها أطلقت طفلة مراقبة زعيقًا حادًا وانهارت بين يديّ والدتها تذرف الدموع من عينيها المشتعلتين بالقلق والخوف، غافلةً عن أنّ هذا القتيل كان القتيل الأخير.
-
بعدما تعاون الجميع في احتواء آثار الكارثة التي كانت خفيفة بالمقارنة مع ما اعتادت عليه القبيلة المُصغّرة في الغارات الغادرة الفائتة، وتطوّع البعض لمواساة مَن تخرّبت أغراضه، كما وضع كثيرون أغراضهم في متناول الفاقدين ليتشاركوها حتى نهوضهم مجددًا.
في المكان المُخصّص لخلوة الشّيخ، تشاور هبة الله مع جنوده، وتقرر أن يبقى جنديّ منهم في ضيافة العائلة، يعلّمهم مما يعرفه عن طرق صناعة الأسلحة ويدرّبهم على استخدامها، منتظرًا عودة رفاق دربه لينضمّ إليهم مجددًا.
فيما قرّرت اليمامة أن تتولى أمر طمأنة القلوب الأشدّ ضعفًا، وبخاصة الصّغار منهم، عاونتها زينة على تحقيق ذلك، متجنّبتَين إظهار ما يعتمل في نفسيهما من شفقة، ما أمكنهما إلى ذلك سبيلًا.
أما المغنية فجمعت حولها بعض الفتيات، وأنشدت بصوتها العَذب على مسامعهنّ برقة تضاهي رِقتهنّ، باعثةً السّكينة في نفوسهنّ التي خُدشَت في براءتها بلا أيّ ذنب.
-
ثم خاضت القافلة في حدث وداعيّ كان أخفّ وطأة من سابقه.
عزّ الفراق عليهم بذات القدر في الموقفَين، غير أنّ الإنسان بطبعه قادر على اكتساب مناعة شديدة ضدّ الألم مهما تعاظمَت قوته.
ذلك يحدث دائمًا، يحدث في الغفلة كما في التّركيز...
وربما سيُعلي البشر من شأن هذه النّعمة يومًا ما، فيرفعونها إلى مكانتها المُستحَقّة فوق عرش النِّعَم التي آُغدَقت عليهم بكرم دون أن يطلبوها.
مثلها كمثل البغداديين، أحبّت العائلة ضيوفها بصدق، وحزنت لفراقهم أيّما حُزن، وكان لأفرادها مناعة ألَم أكبر مما لدى ضيوفهم، فما جرّبه الضّيوف مرّة، قد جربته العائلة مرات عديدة وبأشكال مختلفة أيضًا...
-
أنت تقرأ
أنفاسُ دجلة
Historical Fictionبقلمي: ꪜꪖ᥅᥅ꪗ تاريخية اجتماعية التصنيف العمري: +16. قصدت الأجنبية ‹إيمار› أرض العباسيين سائلةً المساعدة. بوصولها تغيّرت الكثير من الأشياء بالنسبة لمدينة بغداد ولأهلها. مكتوبة بإضاءة من مسابقة سامراء من حساب الأدب الكلاسيكي العربي، لكنها -لعدة ظروف...